لواء د. شوقي صلاح يطرح “رؤية أمنية” للصراع بين روسيا والناتو: “روسيا لن تكسب الحرب بالنقاط”.
مقدمة: لا شك أن الخصوم الحقيقيين للحرب الدائرة على المسرح الأوكراني الآن هما : حلف الناتو وروسيا، وما أوكرانيا سوى ورقة من أوراق اللعب بين الخصمين الرئيسين، وقد سبق لبوتن القول بأن “الغرب قرر أن يقاتل روسيا لآخر جندي أوكراني” وذلك خلال كلمته التي ألقاها أثناء لقائه مع الزعيم الصيني في ٢١ مارس ٢٠٢٣. ويسعى الحلف لاستنزاف روسيا عسكريا، بجانب استنزافها اقتصادياً من خلال العقوبات التي تنهال عليها وعلى كل من يتعاون معها.. هذا ورغم كل الدعم العسكري والمالي الذي قدم لأوكرانيا من قبل دول الناتو وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن روسيا استطاعت ودون إعلان تعبئة عامة – أي بتعبئة جزئية فقط- أن تستمر في هذه الحرب لمدة اقتربت من السنة والنصف، وهي مدة زمنية كبيرة لحرب يستخدم فيها يوميا آلاف الصواريخ والمعدات والذخائر الأخرى، وراح ضحيتها حتى الآن مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين في الجانبين، ورفع فيها الجانبان درجة الاستعداد القتالي بالأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية.. .
رسالة للرئيس بوتن: “روسيا يمكن هزيمتها”.
اللواء الدكتور شوقي صلاح
ــــ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام مجلس الدوما الروسي بتاريخ 21 فبراير 2023 تعليق العمل بمعاهدة “ستارت” للحد من الأسلحة الاستراتيجية، والموقعة مع الولايات المتحدة، واتهم الغرب في خطابه السنوي للأمة باستخدام النزاع في أوكرانيا للقضاء على روسيا قائلا: إن روسيا تواجه اليوم خطراً وجودياً ومن المستحيل هزيمتها في أرض المعركة، وستتعامل بطريقة مناسبة إزاء تحويل الصراع إلى مواجهة عالمية، واستطرد: كنا نعرف أن الخطوة التالية بعد دونباس هي الهجوم على القرم، وأن الغرب أضاع 150 مليار دولار لتسليح أوكرانيا.. وهنا أعلق على تصريحات الرئيس بوتن بالقول: نعم روسيا تمتلك أكبر وأقوى ترسانة عسكرية نووية لدولة في العالم، ويمكن لها أن تستخدمها ضد أعدائها حال تهدد أمنها القومي بقوة، ولكن خصوم روسيا مجتمعين، وأقصد هنا حلف الناتو، يملكون أيضاً ترسانة نووية تتجاوز مجتمعة ترسانة روسيا، لذا فإن استخدمت روسيا ترسانتها وفعلها بالمثل أيضاً دول الحلف النووية.. فكل أطراف الصراع خاسرون.
ــــ وصرح بوتين في كلمته أمام نواب البرلمان الروسي بقوله “… أجد نفسي مضطرا اليوم إلى الإعلان بأن روسيا علقت مشاركتها في معاهدة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية، والتي وقعت عام 2010 من قبل الرئيسين الأميركي والروسي حينئذ ـــ باراك أوباما وديمتري ميدفيديف ـــ وتفرض المعاهدة قيودا على نشر الولايات المتحدة وروسيا الأسلحة النووية الاستراتيجية، وتعليق هذه المشاركة معناه تحلل روسيا من القيود التي تفرضها تلك المعاهدة.
ـــ وقد اعترف مؤخرا بوتن بأن روسيا تعاني من بعض النقص في ذخائر الصواريخ وأجهزة الاتصالات عالية الدقة والمسيرات، وذلك خلال كلمته في لقاء تليفزيوني بتاريخ ١٣ يونيو ٢٠٢٣، مما يجعل استمرار أجل الحرب أكثر إرهاقا لروسيا، كما أن هذه الحرب يُخطط لها كبار القادة العسكريين لأقوى حلف عسكري في العالم، ومع استمرار الحلف في دعم أوكرانيا بشكل تصاعدي وتدريجي متواتر وبأسلحة هجومية مؤثرة سيؤدي لاستنزاف روسيا بالفعل.. مما اضطر معه بوتن إلى اتخاذ قرارات تصعيدية، أهمها نشر أسلحة نووية في روسيا البيضاء.. ناهيك عما صرح به ميدفيدف – نائب رئيس مجلس الأمن الروسي- من تهديد باستخدام السلاح النووي الروسي بكافة تنوعاته ضد الأعداء، وذلك حال تعرض الأمن القومي الروسي للخطر.. بل وهدد بتدمير الكابلات البحرية الموجودة في المحيطات، والتي ترتبط في جانب منها بشبكة الإنترنت.. وبالتالي ستتوقف غالبية أنشطة الفضاء السيبراني على المستوى الدولي حال تنفيذ هذا التهديد، وهو تهديد لا يقل في آثاره المالية -حال تنفيذه- عن قيمة كافة العقوبات المالية التي فرضها الناتو على روسيا منذ بداية الصراع وحتى تاريخ كتابة هذه السطور.
ـــ واختصارا، فالحرب تستنزف قدرات روسيا وأوكرانيا والناتو على المستويين البشري والمادي، وربما آن الأوان كي تحسم روسيا الصراع، وذلك من خلال التهديد أولا باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية ضد الجيش الأوكراني حال استخدامه لأول قذيفة مزودة باليورانيوم المنضب، والذي يؤثر سلباً على البيئة التي يستخدم فيها، لذا فإن التلوث النووي قد بدأ من قبل أوكرانيا، لذا فلا تثريب على روسيا إن واجهت عدوها بالمثل، ولتضع بهذا حدا لدعم الناتو لأوكرانيا، وبالتالي تحد من خسائرها، خاصة البشري منها. ونظراً للآثار الارتدادية السلبية للعقوبات الاقتصادية على أوروبا والتي تم توقيعها على روسيا، فإن الغالبية العظمى من الدول الأوروبية ستؤيد -دون تصريح- النتائج المترتبة على هذا الاتجاه، أي حسم روسيا للصراع، خشية انتقاله لمواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا، في توقيت تكون فيه روسيا قد استنزفت فلا تجد مفراً من استخدام أسلحتها النووية.. وهنا يخسر جميع أطراف الصراع، والرابح في هذه الحالة أطراف أخرى غير المتصارعين.. .
ـــ هذا ونؤكد أنه يمكن أيضاً إلحاق هزيمة روسيا معنوياً، من خلال إحباط الشعب الروسي بالاستمرار في تنفيذ عمليات التخريب والضربات التي تستهدف العمق الروسي، وقد وقع بالفعل العديد منها، فقد سبق واستهدف مبنى الكرملين بمسيرات انتحارية، والهزيمة المعنوية قد يلحقها هزائم في مسرح العمليات.. هذا ونشير إلى خطورة التوترات الناجمة عن التوظيف الروسي لعناصر فاجنر في الحرب؛ خاصة الإشكالية الحالية المتمثلة في رفض يفغيني بريغوجين رئيس المجموعة دمج مقاتلي فاجنر تحت القيادة المباشرة للجيش الروسي، لذا فغالباً ستتعامل أجهزة المخابرات الروسية مع هذا الموقف.. حفاظاً على الأمن القومي الروسي، ومنعاً للصيد في الماء العكر من قبل الخصوم المتربصين.
الرسالة السابقة لبوتن نعرضها بلغة الجودو
ــــ يهدف كل خصم في القتال أثناء ممارسة رياضة الجودو إلى إسقاط الآخر بإخلال
توازنه والسيطرة عليهِ بحركات فنية، وذلك وفق قواعد محددة؛ ويحكم الجودو مبدأ أساسياً مقتضاه “الاستخدام الأمثل للطاقة العقلية والجسدية” وحيث أن الرئيس الروسي بوتن لاعب جودو، لذا سأستعير من هذه الرياضة بعضاً من أحكامها حتى تصل رسالتي إليه بلغة الرياضة التي يُتقِنها؛ ففي مباريات الجودو ثلاثة طرق لحسم المباراة : الأول بـ “الإيبون “ippon” وهي بمثابة الضربة القاضية، فمن يحقق الإيبون أولاً يربح المقابلة فوراً، حتى وإن لم ينته الوقت، وإن لم يستطع أي من اللاعبين حسم المباراة بالإيبون، فتحسم بالنقاط؛ فيربح اللاعب الذي يحصل على نقطة كاملة؛ وهي محصلة لعدد (2) “وزاري” ــــ الوزاري يعني نصف النقطة ــــ والنقطة الكاملة تعادل “الإيبون”، وإذا تعادل اللاعبان أثناء المقابلة، فيتم اللجوء إلى الطريق الثالث وما يطلق عليه: الفوز بالنقطة الذهبية، أي أن أول من يسجل نقطة لصالحه هو الفائز في المباراة. وخلاصة القول؛ أن أفضل الطرق لحسم روسيا للمعركة، إنما يكون من خلال توجيه الضربة القاضية للخصم أي أن تكسب بـ “الإيبون“، فإن لجأت لحسم الصراع من خلال النقاط، ففرص نجاحك سوف تقل كثيراً، ــــ ولتتخذ روسيا من اتفاقية “مينسك” 2014 العبرة ــــ وإذا وصلنا لمرحلة التعادل واحتكمنا للنقطة الذهبية، فسينتصر الناتو غالباً.. أعتقد بهذا أن الرسالة قد وصلت للسيد بوتن.
ماذا يقصد بوتن بالمنطقة النظيفة “العازلة”؟
ـــــ لقد أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في ثنايا حديثه مع عدد من الصحفيين في 13 يونيو الجاري، أنه حال استمرار الهجمات الأوكرانية المضادة فسيدرس إنشاء مناطق آمنة داخل الأراضي الأوكرانية، وأن بلاده تنزع سلاح أوكرانيا تدريجياً، وأكد بوتن أن هجوم أوكرانيا المضاد قد بدأ ولحقتهم خسائر فادحة، مدعياً بأن خسائر أوكرانيا بالنسبة لروسيا 1 : 10 لصالح روسيا. وربما يكون من المناسب للدول الأفريقية الست الممثلين للقارة والساعين للتوسط في وقف إطلاق النار بين أطراف النزاع في أوكرانيا تمهيداً لمفاوضات سلام برعاية أفريقية، أن يلتقطوا هذا الخيط من بوتن، فيقترحون التفاوض على شريط حدودي آمن لروسيا في الشرق الأوكراني، ولتكن هناك مناطق منزوعة السلاح وتتمتع بحكم ذاتي بعيداً عن السيطرة الروسية أو الأوكرانية.. مع الاعتراف لروسيا بحقها في إقليم القرم كجزء من الأراضي الروسية. هذا ونرى أن أوكرانيا إن رفضت التفاوض على هذا الأساس، فربما تخسر غالبية أراضيها حال تفاقم الصرع وصولا لاستخدام أسلحة نووية تكتيكية.
رسالة ختامية
* ربما يعتقد القارئ الكريم بعد مرروه على سطور مقالي هذا، أن كاتبه ينحاز للموقف الروسي في هذه الحرب، والحقيقة أنني لا أنحاز لطرف بعينه في هذا الصراع، وإنما انحيازي الحقيقي لعالم لا تستأثر بحكمة قوة واحدة، فالعيش في ظل عالم متعدد الأقطاب ربما يمثل ضمانة لعدم ممارسة دولة عظمى بعينها لسياسات الطغاة المتجبرين في الأرض، التي من شأنها تدمير الدول واستحلال مواردها.. حيث يطبق الطاغية دوماً قاعدة مقتضاها “أنا أولاً وآخراً.. وليذهب الآخرون إلى..”، نعم أرفض الاستراتيجية الاستعمارية بكل صورها.. وأهلاً ومرحباً باستراتيجية تجعل من التنمية المستدامة هدفاً لكل الأوطان.. ومرحباً باستراتيجية إعلاء قيم حقوق الإنسان دون استخدامها كذريعة للتدخل في الشئون الداخلية للدول.. مرحباً باستراتيجية تنطلق من قيم أخلاقية تحافظ على الأسرة كركيزة أساسية للمجتمع.. .
ـــ وختاماً، يشرفني أن أطرح بعضاً مما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، ليكون بمثابة مسك الختام لهذه السطور؛ فقال عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: “… أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد…”.
لواء د. شوقي صلاح
أستاذ القانون المساعد بكلية الشرطة
رئيس قسم الدراسات الأمنية بمركز الفارابي وخبير مكافحة الإرهاب.