اللواء الدكتور شوقي صلاح: بوتن يترك الجودو ويلَعِبَ الـ “شطرنج” في حل أزمة فاغنر.
اللواء الدكتور شوقي صلاح:بوتن يترك الجودو ويلَعِبَ الـ “شطرنج” في حل أزمة فاغنر
“يفغيني بريغوجين” يفتقد للانضباط العسكري.
صرح ميدفيدف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي أن: “ما تفعله فاغنر يؤكد أنه مخطط انقلابي”. بالفعل هو تمرد مسلح لقوات شبه عسكرية، قائدها يفتقد للمهنية ويشعر بخطر داهم على شخصه وعناصر تنظيمه من بطش المؤسسة العسكرية الروسية، خاصة بعد مجاهرته بالعداء لقياداتها.. فهو أي “يفغيني بريغوجين” لم يكن يوماً ابناً للمؤسسة العسكرية الروسية.
لذا فهو رغم نجاحاته في المواجهات العسكرية للقوات الأوكرانية، إلا أنه يفتقد للانضباط العسكري، ولا يتمتع بحس وطني مما لدى القادة والجنود بالمؤسسة العسكرية الروسية.. كما أن الآلاف من عناصر فاغنر لهم سوابق جنائية وخرجوا من السجون، وتم تأهيلهم قتالياً على وجه السرعة ثم دفعهم لجبهات القتال، ورغم ما حققوه من إنجازات عسكرية في الحرب.. إلا أن مسايرة بعضهم لقائدهم في تمرده قد أفقدهم الكثير مما حققوه من انتصارات في أرض المعركة، ولعلهم قد تداركوا الأمر حيث تراجع “بريغوجين” في التوقيت المناسب وأمر جنوده وهم في طريقهم لموسكو بالعودة لمعسكراتهم، ولعل الفضل في هذا التراجع إنما يرجع لتدخل رئيس بيلا روسيا، الرئيس “لوكاشينكو”. حيث وعد “بريغوجين” بالإقامة الآمنة في بيلا روسيا، وبضمان شخصي من بوتن. كما وعد باستضافة عناصر فاغنر، وصرح أنه سيستفيد كثيراً من خبراتهم العسكرية في القتال. مع السماح -لمن يرغب منهم- في الاندماج الآمن بصفوف الجيش الروسي، ثم تَحِل قوات الدعم العسكري الشيشانية محل قوات فاغنر جزئياً -لقلة عددهم مقارنة بقوات فاغنر- في ميادين المواجهة ضد القوات الأوكرانية، وسيتم هذا بتنسيق عسكري كامل مع الجيش الروسي.
* دور بطولي للشعب الروسي بتوظيف “قوته الناعمة” في هذه الأزمة.
– إنه لجدير بالذكر أن أهم عوامل احتواء أزمة فاغنر هو الشعب الروسي العظيم.. فوقوفه خلف قيادته السياسية وجيشه الوطني كان بمثابة رسالة واضحة لـ “بريغوجين” ورفاقه، وننوه هنا للموقف العبقري للشعب الروسي في تعامله مع عناصر فاغنر حيث التحم بهم في “روستوف” جنوب روسيا دون أي وَجَل. حيث وقفت جموع الشعب الروسي بجوار وبين دبابات فاغنر ومدرعاتها وقواتها المدججة بالسلاح دون أي خوف، والتقط الجمهور الصور بهواتفهم المحمولة مع جنود فاغنر. والرسالة التي وصلت الجنود وقادتهم هي “لا مكان ولا وقت للغدر- الشعب يثق بكم” فكان لسان حالهم يقول: الأمة الروسية في خطر ويجب أن تتوحد. إنه الوعي الوطني لشعب عظيم، أرسل رسالته بشكل تلقائي لمن أساءوا التصرف، مقدر لهم بطولاتهم التي قاموا بها في المعارك.. لذا فقد أكدت هذه المحنة بما لا يدع مجالا لشك أن روسيا لن تنهزم طالما توحد شعبها والتف حول قيادته الوطنية.
* بوتن نجح بحكمته وحسمه في تجنب الحرب الأهلية.
– خرج بوتين من أزمة فاغنر أقوى -حتى الآن- وأقنع شعبه والعالم كله أنه قائد محترف يتسم أداؤه بالحكمة والحسم معاً، فقد حيًد رأس الأفعى وكسر سميتها، فبدأ تنفيذ خطة تفكيك حركة فاغنر بشكل آمن، مسيطرا على غالبية عناصرها، وسيسترد الأسلحة التي مازالت بحوزتهم، وهي ذات قيمة عالية، خاصة في ظل استمرار مواجهة روسيا لهجمات أوكرانيا الخطيرة.. فقرار تفكيك فاغنر تم التخطيط له بعناية، ومن السذاجة والسطحية أن ذهب إلى أن فاغنر تستطيع دخول موسكو بدباباتها ومدرعاتها لتنفيذ مخطط انقلابي. والرد على من يتساءل لماذا لم يسحق بوتين قوات فاغنر التي احتلت المواقع العسكرية الروسية في “روستوف” ثم تحركت في طريقها لموسكو؟ فقد حرص بوتين على تجنب مخاطر الحرب الأهلية، فهذا هو السبب الرئيسي لقراره بقبول تدخل رئيس بيلا روسيا في دعم حلول من شأنها تجنب الاقتتال الداخلي.. هذا، ومن المؤكد أن كل ما فعله “بريغوجين” قائد فاغنر من خيانة تجاه المؤسسة العسكرية الروسية، ثم ضد بوتين، قد كشف للمخابرات الروسية خلال الأزمة العناصر التي تورطت بالوقوف بجانب قائد فاغنر، ومن أهم ما يمكن أن نلفت النظر إليه، أهمية تأمين وقوع أي مخطط لخطف الناتو لقائد فاغنر السابق أو هربه إليهم، فمن المؤكد أنه يحمل أسراراً خطيرة على الأمن القومي الروسي.
* تقييم تراجع بوتين عن إسقاط الدعاوى الجنائية ضد “بريغوجين”
– تضمنت كلمة بوتين الأخيرة للشعب الروسي قوله “الشعور الوطني هو الذي أنقذ الدولة الروسية، فجنود فاغنر الذين تراجعوا، لا ننسى أنهم قد قاموا بأعمال بطولية في الدفاع عن إقليم “الدونباس”، وأن منظمي هذا التمرد “سيمثلون أمام العدالة”، وأشار إلى أن المؤامرة امتدت لها أياد دعم خارجية، هدفها إدخال روسيا في أتون حرب أهلية. وبهذا فقد تعلمت روسيا الحاضر من دروس التاريخ الكثير بما يكفي لدرء “خطر الاقتتال الداخلي” الذي يؤثر سلباً على جهود المؤسسة العسكرية في حربها الحالية أمام الناتو على المسرح الأوكراني.
لنتوقف هنا باستقراء مستقبل عناصر “فاغنر”؛ فغالباً سيتم تفكيك التنظيم، فجانب منهم سيتعاقد مع الجيش الروسي ويتم توظيفهم في مواقع غير قتالية، بجانب اسقاط أي محاسبة قضائية عن جرائم التمرد المسلح، ورغم أننا رصدنا تحولا في كلمة بوتين بخطابه الأخير، حيث أشار إلى المحاسبة القضائية، وربما يكون مبرر هذا هو التدخلات الخارجية في المؤامرة، ولعلي أجد تفسيرًا لجنوح “بريغوجين” وتحركه عسكرياً تجاه موسكو، فغالباً وصل لعلم الرجل أن القيادة الروسية ترتب لتفكيك فاغنر ومحاسبة قائدها عن إساءاته المتكررة لقيادات المؤسسة العسكرية واتهامه لهم بالخيانة، ثم تحركه المسلح ضد المؤسسة العسكرية الروسية ومقراتها ومتوجها بقواته إلى موسكو، حيث أطلق على تحركه هذا “مسيرة العدالة” ولعله بهذا يطبق قاعدة: “إذا لم يكن من الموت بد.. فليتجرع قاتلك من الكأس معك” وجاء الرد الروسي بحكمة، حيث طوق الخطر دون دماء، فبدأ تنفيذ مخطط تفكيك اللغم – أقصد باللغم هنا فاغنر بالطبع – بشكل احترافي آمن، أي دون إراقة دماء.
هذا وعلى المستوى القانوني؛ فهل يجوز التراجع في قرار إسقاط الرئيس بوتين للتهم الجنائية عن بريغوجين؟ الإجابة “نعم” طالما بدت أسباباً جديدة ربما يكون أهمها: ظهور أدلة جديدة على تورط رئيس فاغنر في جريمة تخابر مع العدو، بهدف شق الصف وإحداث حالة من الانقسام في أخطر مراحل الصراع ضد الناتو حساسية، ورغم هذا فإننا ننصح من منظور سياسي، بأن يفي بوتين بوعده بعدم تحريك أي دعاوى جنائية تجاه قائد فاغنر أو جنوده، مكتفياً بالتفكيك الآمن للتنظيم.
أستاذ القانون بأكاديمية الشرطة
رئيس قسم الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات وخبير مكافحة الإرهاب