الدكتور محمد السعيد ادريس يكتب: استراتيجية تصدي “التنين الصيني” لأمريكا.
التمرد الصيني بالقوة الإستراتيجية
للتمرد الصيني على سياسات الهيمنة والغطرسة والتفرد الأمريكية أوجهاً كثيرة وهذا ما يعطيه الأهمية التي تحظى بها عند الأمريكيين كمصدر أول للتهديد. أبرز، وربما أهم، هذه الأوجه هو ذلك التمرد الاستراتيجي، أي التمرد والتحدي عبر امتلاك القدر اللازم النوعي والكيفي من مصادر القوة الاستراتيجية الشاملة: الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. فالصين، وعبر هذه المصادر المحورية للقوة، لم تعد قادرة فقط على أن تقول “لا” لسياسات الاستعلاء وإملاء الشروط الأمريكية، بل وأن تطرح نفسها كقوة شريكة، إن لم تكن بديلة، فى قيادة نظام عالمي جديد أكثر عدالة وديمقراطية.
وإذا كانت الصين قد أبهرت العالم أول ما أبهرت بقوتها الاقتصادية عندما استطاعت أن تنافس الولايات المتحدة الأمريكية فى حجم الناتج القومي الإجمالي الذي يتقدم بمعدلات متسارعة عكس الحالة الأمريكية، حيث من المقدر أن يوازى نظيره الأمريكي حتى عام 2025 أو بعد ذلك بقليل، فإنها باتت تفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة وفق مؤشرات أخرى للتقدم. فالميزان التجاري، بين البلدين، يعمل لصالح الجانب الصيني لعدة سنوات متتالية حيث بلغ 418,23 مليار دولار فى العام 2018 و404,1 مليار دولار فى العام 2022، كما بلغ حجم الاستثمار الصيني فى سندات وأذونات الخزانة الأمريكية 1060,1 مليار دولار فى بداية عام 2022، وتعتبر الصين المقرض الثاني للولايات المتحدة، وكانت لسنوات هي الدائن الأول للولايات المتحدة، لكن الأخطر من ذلك هو ما تقوم به الآن، بالتعاون مع شركاءها فى منظمة “بريكس” خاصة روسيا من أدوار لكسر أهم مرتكزات القوة الاقتصادية الأمريكية متمثلة فى الدولار الأمريكي، عبر تكريس سياسة التبادل التجاري بالعملات الوطنية متحررة من الدولار بينها وبين دول هذه المجموعة التي تضم إلى جانب الصين روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، والسعى لإصدار عملة بديلة للدولار ، وربما تصدر هذه العملة فى مؤتمر المجموعة الذي سيعقد فى جنوب أفريقيا فى شهر أغسطس القادم وعندها سوف يهتز عرش الدولار ومعه النفوذ الأمريكي، إذا أضفنا إلى ذلك التأثير المستقبلي لسياسة “الحزام والطريق” الاقتصادية الصينية التي أطلقها الرئيس الصيني عام 2013 وتهدف إلى “بناء سوق كبيرة موحدة” يجمعها التبادل التجاري والثقافي والثقة وهدفها “تعزيز الازدهار العالمي”، ستكون الصين مع اكتمالها قوة اقتصادية عالمية مؤثرة بشبكة واسعة تضم عشرات الدول، تجمعها روابط التعاون والثقة المتبادلة، باعتبارها عنوانا للدور الصيني العالمي المنتظر .
أما القوة العسكرية الصينية فقد بلغت مستوى أربع القيادات العسكرية الأمريكية للدرجة التي دفعت قائد القوات الأمريكية الإستراتيجية استراتكوم” الجنرال تشارلز ريتشارد إلى القول أمام الندوة السنوية لرابطة الغواصات البحرية وتحديث الصناعة أن “المنافسين مثل الصين يتفوقون على الولايات المتحدة بطريقة دراماتيكية وعلى الولايات المتحدة أن تُصعّد من لعبة الردع الخاصة بها، وإلا ستنهار”، وزاد على ذلك القول : “بينما أقوم بتقييم ردعنا ضد الصين، فإن السفينة تغرق ببطء.. إنها تغرق ببطء، لكنها تغرق، لأنهم فى الأساس يصنعون القدرة فى الميدان أسرع مما نحن عليه.. ومع استمرار هذه المنحنيات ، لن يكون الأمر مهما إلى أي مدى نحن جيدون، أو مدى جودة قادتنا، أو ما مدى جودة خيولنا.. لن يكون لدينا ما يكفى منها، وهذه مشكلة على المدى القريب جداً”. وهو ما اعتبر اشارة إلى تفوق الصين فى عدد سفنها الحربية، وتسريعها بناء المزيد من حاملات الطائرات.
لم تأت هذه الشهادة من قائد عسكري أمريكي له وزنه ومكانته من فراغ فالقدرات العسكرية الصينية، التي كانت تحتل المرتبة الثانية من الاهتمام بعد أولوية التفوق الاقتصادي للصين، باتت تنافس هذا التفوق الاقتصادي للصين فى ظل إدراك صيني متنامي بعنف العداوة الأمريكية للصين. فالجيش الصيني الذي يحتل المرتبة الأولى فى العالم من حيث العدد (مليونين و35 ألف رجل وامرأة” والثاني من حيث الميزانية قرر زيادة مخصصاته بنسبة 7,2% فى عام 2023 الحالي، الأمر الذي سيسمح له بمواصلة مهماته التحديثية.
أما من حيث التسليح فالصين تملك 350 رأساً نووياً وفقاً لأرقام عام 2022 كما أوردها معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، وتمتلك الصين ثلاث حاملات طائرات، وتحرز القوات الجوية الصينية تطوراً سريعا على الأخص بمقاتلات جديدة مثل “16-J ” والمقاتلات الشبح (20J) وهي طائرات “تضاعف على الأرجح” معدل انتاجها السنوي خلال السنوات الثلاث الماضية، أما بالنسبة للسلاح البحرى فإن الصين تقدم أحيانا على أنها أول قوة بحرية فى العالم من حيث عد السفن قبل الولايات المتحدة. هذه القوة العسكرية هي التي مكنت الصين من امتلاك القدرة على إظهار التحدي القوى للولايات المتحدة فى بحر الصين الجنوبى ومجمل إقليم جنوب شرق آسيا، وإجراء المناورات العسكرية قبالة سواحل تايوان، للدرجة التي دفعت جنرالا أمريكيا هو “مايكل مينيهان” المنتمي إلى سلاح الجو إلى التحذير من المخاطر العالية لنشوب حرب مع الصين عام 2025 على الأرجح بسبب تايوان، وليست هناك شهادة على التفوق العسكري الصيني وبالذات القدرات التسليحية الصينية من التحذيرات الأمريكية للصين من العواقب الخطيرة لأي تورط صيني فى امداد روسيا بأسلحة متطورة فى حربها فى اوكرانيا خشية أن يؤدى ذلك إلى قلب موازين القوى فى هذه الحرب لصالح روسيا.
وإلى جانب القوتين الاقتصادية والعسكرية دخلت الصين أيضا ميدان التنافس على التفوق فى امتلاك القدرات التكنولوجية المتقدمة والمتفوقة. ردود الفعل الأمريكية العصبية على شركة “هواوى الصينية” العملاقة فى انتاج الهواتف المحمولة وتصنيع أجهزة إرسال الجيل الخامس المرتبطة بالتقنيات العالية وكذلك على تطبيق “تيك توك” التابع لشركة “بايت دانس” الصينية ومنع تداوله على المستويات الرسمية والشخصية فى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبية بحجة حماية الأمن القومي خشية “التهديد السيبراني” الصيني، كلها شهادات أمريكية وغربية على ما نجحت الصين فى تحقيقه من تقدم فى مجال التكنولوجيا المتقدمة، وفى السنوات الأخيرة دخلت الصين مجال التحدي مع الولايات المتحدة فى تصنيع “الشرائح الإليكترونية” خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن (أكتوبر 2022) بفرض ضوابط وقيود واسعة على الصادرات التكنولوجية بهدف منع الصين من الحصول على أشباه الموصلات المتطورة . فقد جاء الرد الصيني هو التحدي الذي اتخذه المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي (أكتوبر 2022) لمواجهة الحرب التكنولوجية. ظهر ذلك فى خطاب الرئيس الصيني “شي جينج بينج” أمام هذا المؤتمر حيث رصد المراقبون أن كلمة “التكنولوجيا” وردت فى هذا الخطاب 40 مرة، ووعد بتحقيق الاكتفاء الذاتي فى مجال التكنولوجيا المتطورة الذي دشنته الصين تحت اسم “صنع فى الصين عام 2025” عام 2015 من أجل إعادة تركيز صناعتها على التنافس فى مجال التحول إلى التشغيل الآلي والشرائح الإليكترونية الدقيقة.
لقد أدى التنافس والصراع مع الولايات المتحدة إلى تنامى “النزعة القومية التكنولوجية” فى الصين ولأول مرة يضيف الحزب الشيوعي الصيني الحاكم فئة جديدة إلى قائمة أولوياته وهي “تحقيق قوة كبيرة مدعومة من التكنولوجيا والعلم والتعليم” وعندما تنجح الصين فى ذلك ستكون قد تكاملت عناصر قوتها وعندها ستكون قادرة بجدارة على ممارسة التمرد ضد السياسة الأمريكية.
تحديات “مبدأ مونرو” الصيني
تعرف الصين جيداً أنها، وهي تطمح لأن تصبح قوة عالمية شريكة فى قيادة النظام العالمي، أنها مطالبة أولاً بأن تفرض نفسها كـ “قوة إقليمية مهيمنة” فى الإقليم الذي هي جزء منه، أي إقليم شرق وجنوب آسيا أو ما يعرف فى الاستراتيجية العالمية بإقليم المحيطين الهادي والهندي. أول هذه الشروط أن تكون القوة الأقوى فى الإقليم، وثانيها أن تكون قادرة على منع وجود أو ظهور أي قوة أخرى، من داخل الإقليم أو من خارجه، يكون فى مقدورها منافستها على هذه الزعامة.
الولايات المتحدة فعلت ذلك قبل أن تصبح قوة عالمية، فعلته عندما أكملت وحدتها وحققت استقرارها الداخلي وتمكنت من امتلاك كل أنواع القوة اللازمة فقررت إبعاد كل القوى الاستعمارية الأوروبية من القارة الأمريكية، وأصدرت مبدأ سياسياً حمل اسم وزير خارجيتها “مونرو” وأصبح “مبدأ مونرو” مقرراً بأن الولايات المتحدة لن تسمح بوجود أي قوة من خارج القارة الأمريكية تتدخل فى شئونها، وأنها هي وحدها القوة الإقليمية المهيمنة على هذا الإقليم الممتد إلى كل أمريكا الوسطى والجنوبية. وتطورت السياسة الأمريكية بعد ذلك طردياً مع صعود القوة الأمريكية فمن شريك فى قيادة متعددة للنظام الدولى قبل الحرب العالمية الثانية فى سنوات عصبة الأمم إلى قوة عالمية مسيطرة فى نظام ثنائى القطبية تم اقتسام مناطق النفوذ فيه مع الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي تحولت الولايات المتحدة، أو بالأحرى سعت إلى فرض نفسها كقوة عالمية أحادية مسيطرة على النظام العالمي، وكان هذا كله يتضمن حقيقة مهمة هي أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تكون قوة إقليمية فى كل نظام إقليمي على مستوى العالم إما قوة مهيمنة مسيطرة وإما قوة شريكة فى التنافس على النظام العالمي، ومن أبرز هذه النظم الإقليمية كان النظام الإقليمي الأوروبي (الغربي) بعد الحرب العالمية الثانية والنظام الإقليمي لجنوب شرق آسيا، حيث تتواجد القوة الأمريكية فى هذا الإقليم وعلى مدى عقود مضت كقوة مهيمنة من خلال أساطيلها وقواعدها العسكرية فى الإقليم ومن خلال تحالفاتها العسكرية وشراكاتها الاستراتيجية مع أبرز الدول فى هذا الإقليم خاصة اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ، دون تجاهل للصديق الهندي الذي ظلت واشنطن تداعبه من أجل تعظيم التنافس بينه وبين الصين كوسيلة مهمة لاحتواء الصين، وتوظيف “الصراع الهندي – الصيني” لغرض احتواء القوة الصينية الصاعدة ومنع تحول الصين إلى قوة إقليمية مهيمنة على إقليم المحيطين الهادي والهندي.
الصين مدركة لكل ذلك، وتعرف أنها لكى تصبح “قوة عالمية” قادرة على تغيير النظام العالمي الحالي أحادي القطبية الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة إلى نظام بديل “متعدد الأقطاب” و”أكثر ديمقراطية وعدالة” لابد أن تنجح أولاً فى أن تفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة على إقليم المحيطين الهادي والهندي (شرق وجنوب أسيا)، وثانياً أن تحد من النفوذ الأمريكي فى الإقليم كخطوة أولى نحو طموحها فى إنهاء هذا النفوذ.
بوضوح شديد تدرك الصين أنها مطالبة بأن تكرر التجربة الأمريكية كقوة مهيمنة إقليمية فى القارة الأمريكية، أي أن تكون قادرة على تخليق “مبدأ مونرو الصيني”. وأنها لكى تحقق ذلك عليها أن تمتلك القوة اللازمة والمتفوقة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً، وأن تتبنى سياسات وتلتزم بمبادئ فى إدارة علاقاتها الإقليمية أولاً والدولية ثانياً، أشبه بمبدأ مونرو الأمريكي فى شرق وجنوب أسيا، وأن تدخل فى مناوشات مع الولايات المتحدة ضمن هدف إبعاد النفوذ الأمريكي وتفريغ الإقليم من أي قوة منافسة لمسعى فرض الصين كمهيمن إقليمي، وفى مقدمتها القوة الأمريكية، وأن تفكك التحالفات الأمريكية فى ذلك الإقليم، وأن توسع هي من تحالفاتها الإقليمية.
معضلة الصين الأساسية الآن هي أن الولايات المتحدة تخطط هي الأخرى لمنع تحول الصين إلى قوة إقليمية مهيمنة فى إقليم شرق وجنوب آسيا، وتقوم بكل ما يلزم القيام به لتحقيق ذلك، بزيادة وتكثيف وجودها العسكري فى الإقليم، والسعي إلى “عسكرته” أمام الصين أي جعله مفعما بالقدرات والأنشطة العسكرية المكثفة المناهضة للصين، وبتوسيع وتمتين تحالفاتها الإقليمية فى ذات الإقليم، وربط هذه التحالفات بالحلف الأمريكي الأساسي أي “حلف شمال الأطلسي” بحيث أضحى هذا الحلف بمثابة “شبكة أحلاف إقليمية يديرها ويقودها حلف شمال الأطلسي . وقد تكشفت هذه الحقيقة من خلال ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ينس ستولتنبرج” خلال اجتماعه بوزراء خارجية دول الحلف فى بروكسل (15/2/2023) من تبنى مفهوم جديد للتخطيط العسكري للحلف يأخذ فى الاعتبار “التهديدات الصينية”.
وقد أكدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة فى أكتوبر الماضي محورية التواجد العسكري الأمريكي المكثف فى إقليم المحيطين الهندي والهادي، إلى جانب محورية التصدي للصين باعتبارها القوة المهيأة لمناطحة النفوذ الأمريكي إقليمياً وعالمياً. وتوسعت الولايات المتحدة فى فرض هذا المفهوم بإدخال الدول الصناعية السبع (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان وألمانيا وإيطاليا) شريكاً فى سياسة احتواء الصين فى عمق إقليم جنوب شرق آسيا الذي هو عنوان الطموح الصيني لتنفيذ “مبدأ مونرو” بمفاهيمه الصينية.
ففى مؤتمرها الأخير الذي عقدته فى مدينة هيروشيما اليابانية أصدرت قمة الدول الصناعية السبع التي أضحت عنواناً لقيادة أمريكية للنظام العالمي بيانا عقب قمتها فى هيروشيما التي استمرت ثلاثة أيام (19-21/5/2023) تضمن مبادرة أعطوها اسم “برنامج التنسيق بشأن الإكراه الاقتصادي” لمواجهة الصين، التي وصفت بأنها تمارس “الإكراه الاقتصادي” وتعهدوا “باتخاذ خطوات لضمان فشل محاولة أي طرف تحويل التبعية الاقتصادية إلى سلاح ومواجهة العواقب” معتبرين أن الصين “تمثل تهديدا للأمن الاقتصادي”. كما حرص الرئيس الأمريكي جو بايدن على تحذير الصين ، ضمن هذه القمة، من القيام بأي عمل عسكري ضد تايوان، وقال بايدن أنه “يجب ألا يكون هناك تغيير أحادى فى الوضع الحالي بمضيق تايوان” موضحا أنه “هناك تفاهم واضح بين معظم حلفائنا، بأنه فى حال تحركت الصين، بصورة أحادية، فسوف يكون هناك رد على ذلك”.
الصين، من جانبها، كانت واعية بالمغزى والمعاني الكامنة وراء هذا كله، خاصة ما ورد فى بيان قمة الدول السبع من اتهام الصين بـ “عسكرة بحر الصين الجنوبي”، وندد متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية فى بيان بـ “إصرار مجموعة السبع على التلاعب فى قضايا على صلة بالصين، وبتشويه سمعة الصين ومهاجمتها” مشيرا إلى أن بكين “تدين بشدة هذا الأمر وتعرب عن استيائها الشديد وعن معارضتها الحازمة، وقد قدمت احتجاجا رسميا لدى اليابان – البلد المضيف للقمة، ولدى الأطراف المعنيين الآخرين”.
الصين ترفض الممارسات الأمريكية، التي تقول بوضوح شديد “لا للمساعي الصينية للتحول إلى قوة إقليمية مهيمنة فى شرق وجنوب آسيا” فكيف سيكون فى مقدور الصين امتلاك “مبدأ مونرو صيني” يجبر الأمريكيين وحلفاءهم على الاستسلام له والقبول به. هذا هو التحدي الحقيقي لتصبح الصين قوة عالمية.
الصين من التمرد إلى التصدي للنفوذ الأمريكي
قطعاً ليست هي الصدفة وحدها التي أدت إلى حدوث توافق فى مضامين أهم وثيقتين أمنيتين أمريكية وصينية صدرتا بشكل متزامن، وثيقة “استراتيجية الأمن القومي الأمريكي” الصادرة عن البيت الأبيض الأمريكي فى أكتوبر الماضي ووثيقة “التقرير النهائي” الصادر عن أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني “فى ذات الوقت تقريباً” حيث اهتمت الوثيقتان، بشكل مثير، بضرورة إنشاء ودعم المنظمات المهتمة بالأمن الإقليمي. الجديد فى الأمر ليس اهتمام الأمريكيين بتكثيف وتوسيع وجودهم العسكري القومي فى التنظيمات الإقليمية ونظم الأمن الإقليمية المختلفة فى أنحاء العالم، ومن بينها بالطبع إقليم آسيا المحيط الهادي، لكن الجديد هو ذلك الظهور الصيني القوى فى الشئون الأمنية – العسكرية بالإقليم على نحو أضحى يثير مخاوف الأمريكيين وحلفاءهم فى هذا الإقليم، لأن الأميركيين، وهم يصرون على فرض أنفسهم قوة عالمية مسيطرة أحادية، كانوا حريصين على فرض أنفسهم أيضاً قوة إقليمية مهيمنة أو على الأقل، قوة مناوئة فى كل نظام أمن إقليمي وخاصة إقليم آسيا المحيط الهادي أو فى إطار أوسع إقليم المحيطين الهندي والهادي. بما يعنيه ذلك من منع أي قوة إقليمية على الظهور كقوة قادرة على منافسة الوجود والنفوذ الأمريكي.
المراقبون الذين أثارتهم النصوص، المتضمنة فى التقرير النهائي لأعمال المؤتمر العشرين الأخير للحزب الشيوعي الصيني، ذات العلاقة بالقضايا الأمنية والعسكرية التي وردت بشكل مكثف وغير مسبوق، حيث تكررت كلمة “الأمن” 91 مرة، وكلمة “عسكري” 21 مرة، وكلمة “النضال” 22 مرة هؤلاء صدموا بمضامين الوثيقة البريطانية التي تم الكشف عنها مؤخراً، وعلى الأخص معرفة أن “التمرد الصيني” على النفوذ الأمريكي، وحرص الصين على فرض نفسها قوة مناوئة للنفوذ والوجود العسكري الأمريكي فى إقليم آسيا- المحيط الهادي لم يكن وليد الوقت الحاضر ولكنه يعود إلى 22 عاما مضت وبالتحديد فى الأول من إبريل 2001 فيما عرف بـ “حادث جزيرة هانيان” التي صعدت المواجهة بين واشنطن وبكين إلى مستوى “الأزمة”.
وقعت هذه الحادثة عندما تصدت طائرتان مقاتلتان صينيتان لطائرة استطلاع استخباراتية تابعة للبحرية الأمريكية كانت تحلق فى المنطقة الاقتصادية الصينية فى بحر الصين الجنوبي، حيث قتل طيار صيني واحتجزت الصين طاقم الطائرة الأمريكية وحطامها، ورفضت الصين وقتها وساطة رئيس الوزراء البريطاني تونى بلير بطلب من الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للإفراج عن الطاقم دون اعتذار أمريكي علني ومسبق. وبالفعل حصلت الصين على ما أرادت حيث اعترف بوش، وفقا لتلك الوثيقة أن “الولايات المتحدة قالت مرتين أنها آسفة للغاية”.
كان هذا منذ أكثر من عشرين عاما، حيث كانت بوادر التمرد الصيني فيها متصاعدة، فى مواجهة الهيمنة والسيطرة الإقليمية الأمريكية على إقليم آسيا- الهادي الذي تعتبره الصين مجالها الإقليمي، الآن نستطيع القول أن الصين تجاوزت مرحلة إعلان التمرد على القوة الأمريكية إلى مرحلة أرقى هي التصدي القوى لها، ضمن مسار يقول أن الصين تسعى إلى إخراج الولايات المتحدة من إقليم المحيطين الهادي والهندي، وأنها حريصة على أن تكون هي “القوة الإقليمية المهيمنة” أو القوة الفاعلة فى نظام أمن إقليمي ضمن أطراف أخرى ليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد أطراف تنتمى إلى الإقليم.
مرحلة التصدى الصيني للنفوذ الأمريكي أخذت أشكالا متعددة، منها محاولة اختراق حلفاء واشنطن وتنظيماتها الأمنية الإقليمية فى إقليم آسيا- الهادي والسباق مع الولايات المتحدة فى التأسيس لقواعد عسكرية بالمنطقة، والتحرش بالنفوذ الأمريكي عسكريا، ومهاجمة أي تطاول أمريكي على الصين فى المحافل الإقليمية- الدولية.
الأشهر الأخيرة الماضية كانت مفعمة بهذه الممارسات الصينية، فما حدث قبل عشرين عاما مع طائرات أمريكية اعتبرتها الصين تجاوزت “الحدود المسموحة” تكرر فى الأسبوع الماضي وبالتحديد يوم الثلاثاء الفائت (30/5/2023). فحسب بيان أمريكي صدر بهذا الخصوص قامت طائرة صينية بتنفيذ ما اعتبرته واشنطن “مناورة عدوانية” قرب طائرة عسكرية أمريكية فوق بحر الصين الجنوبى فى المجال الجوى الدولى مما جعل الطائرة الأمريكية تهتز فى أثناء التحليق بسبب الاضطرابات الجوية الناتجة عن تخلخل الهواء، فى ذات الوقت حذر وزير الدفاع الصيني “لى شانغفو” السبت (3/6/2023) من إقامة تحالفات عسكرية “شبيهة بحلف شمال الأطلسي فى منطقة آسيا والمحيط الهادي”.
هذا التحذير جاء على لسان الوزير الصيني فى كلمته أمام القمة الدفاعية الآسيوية المنعقدة فى سنغافورة وتحمل اسم “حوار شانغرى- لا”، واعتبر الوزير الصيني أن سياسة تأسيس تحالفات عسكرية أمريكية فى منطقة المحيطين الهادي والهندي “وسيلة لاختطاف دول المنطقة وتضخيم الصراعات والمواجهات الأمر الذي لن يؤدى سوى إلى إغراق منطقة آسيا والمحيط الهادي فى زوبعة من الصراعات والنزاعات هذا التحذير ربما يكون قد جاء ردا على المسعى الأمريكي لإعداد خطط مشتركة مع حليفتيها اليابان وكوريا الجنوبية لإطلاق نظام سوف يسمح بتبادل لحظي للمعلومات فى الوقت الحقيقي بشأن الصواريخ الكورية الشمالية. هذا البيان صدر عن وزراء دفاع الدول الثلاث على هامش قمة الأمن الآسيوية السبت الماضي “شانغرى- لا” التي عقدت فى سنغافورة التي شارك فيها وزير الدفاع الصيني، والتي رفض خلالها وزير الدفاع الصيني لقاء وزير الدفاع الأمريكي خلال تلك القمة الأمنية الآسيوية.
لم تكتف الصين بالتصدي للنفوذ الأمريكي فى منطقة آسيا الهادي لكنها سعت وباهتمام إلى تأسيس نفوذ عسكري – أمنى صيني فى هذه المنطقة، حيث وقعت فى العام الماضي اتفاقا أمنيا مع دولة “جزر سليمان” الواقعة فى المحيط الهادي بالقرب من دولة “بابوا غينيا الجديدة” محط اهتمام النفوذ الأمريكي. هذه الخطوة الصينية أثارت القلق فى كل أنحاء المحيط الهادي وخاصة الولايات المتحدة التي اتجهت هذا العام إلى دولة بابوا غينيا الجديدة ووقعت اتفاقا أمنيا معها عبر وزير خارجيتها انتونى بلينكن الذي اعتبر هذا الاتفاق مع بابوا غينيا الجديدة “محاولة لتشكيل المستقبل” الملفت فى سياسة التصدي الصينية للنفوذ الأمريكي أنها تجاوزت الحدود الإقليمية ووصلت إلى أرض الولايات المتحدة الأمريكية. ففي فبراير الماضي حركت الصين منطادا حلق فوق عدد من الولايات الأمريكية اعتبرته واشنطن “منطادا للتجسس” وأسقطته، ومنذ أقل من أسبوعين اتهمت الولايات المتحدة الصين برعاية قراصنة يستهدفون المنشآت الحيوية أمريكيا وعالميا حيث كشفت وكالات استخبارات غربية وشركة “مايكرو سوفت” الأمريكية أن قراصنة صينيين ترعاهم الدولة يتجسسون على البنية التحتية للولايات المتحدة وينشطون لوضع الأساس التقني لتعطيل محتمل للاتصالات الحساسة بين الولايات المتحدة وآسيا خلال الأزمات المستقبلية.
مثل هذه المناوشات والصدامات تقول إن الصين لم تعد تكتفى بمناهضة النفوذ الأمريكي فى إقليمها، ولكنها تسعى إلى نقل المواجهة مع واشنطن خارج الإقليم عبر أدوات وسياسات صينية تهدف إلى إشهار الصين قوة عالمية شريكة فى قيادة النظام العالمي.
المصدر:
جريدة الأهرام: 23/5/2023، 30/5/2023، 6/6/2023