حلمي النمنم: أنت مصري
كان تقسيم المصريين والتمييز شبه العنصري بينهم، بعد 11 فبراير ٢٠١١، كسرًا كاملًا لأهم شعار ارتفع فى الميادين والشوارع، وهو: «ارفع راسك فوق.. إنت مصري»، شعار غير إنشائي ولا تم اصطناعه وتركيبه أو نحته وفق الأحداث، بل خرج من الوجدان الجمعي، تُنطق كلمة «فوق» بمد الواو، وشموخ وعلو فى النطق، يردده المواطنون جماعيًّا، أي ليس أداء فرديًّا، كان ذلك يعنى اعتزازًا من حشود المواطنين بمصريتهم، ربما كان حنينًا واشتياقًا إليها أيضًا، كان النداء رسالة إلى الجميع فى الداخل والخارج بأنن مصريتنا هي الأساس والجامع الأول والأعظم لنا جميعًا، وأى انتماء واعتزاز آخر يجئ تاليًا لها، نابعًا منها ومرتبطًا بها، لا يهز منها ولا يُضعفها.
لعقود طويلة كانت هناك محاولات لتغييب الروح المصرية لصالح العروبة مرةً ولصالح شعارات وخطط الإسلام السياسي مرة أخرى، ثم مع دعاة العولمة مرةً ثالثة. كان العروبييون يتصورون دمج المصرية فى العروبة وتصير جزءًا منها أو مكونًا من مكوناتها، دون أى خصوصية أو تميز، كان بعضهم بقصر نظر شديد وضيق أفق يتعامل مع الروح المصرية بتأفف صامت وينظرون إليها شزرًا.
أما دعاة الإسلام السياسي فكانوا- مازالوا- يمقتون الروح المصرية ويعادونها. عمومًا، هم يعادون المشاعر والأفكار الوطنية، ويكرهون كل نماذجها ورموزها، خاصةً فى بلادنا، راجع موقفهم من سعد زغلول وقادة ثورة ١٩، ثم موقفهم من جمال عبدالناصر وزملائه، وقبل هؤلاء جميعًا رأيهم فى محمد على، الوطنية المصرية عدوهم اللدود وهدفهم الأول، ومع القرن الجديد جاءت العولمة بكل توحشها، العولمة تتردد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنها بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي صارت موضة عالمية، ونما اتجاه لإكراه الجميع على تبنى أفكارها وممارساتها، يرفض أفراد هذا التيار المدرسة والأفكار الوطنية، يعدونها رجعية، متخلفة، ترمز إلى الشمولية والاستبداد، وتزَيّد بعضهم فى إعلان حرب على كل ما هو وطنى، يتغنون فقط بالأمة الأمريكية ويتقاتلون لنَيْل جنسيتها، ازداد ذلك بعد ضرب العراق واحتلاله سنة ٢٠٠٣.
بعيدًا عن الجانب الأيديولوجي والفكري، وربما بسبب تلك الأفكار مجتمعة، فإن سنوات ما قبل ٢٠١١ شهدت عمليات سخرية سمجة وبذيئة من كل ما يكشف عن اعتزاز بالروح المصرية، عدد من السخافات الدرامية تسخر من شعار مصطفى كامل «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا»، وتتهكم على مصطفى كامل نفسه. سخافات أخرى للتهكم على قصيدة حافظ إبراهيم التي تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم: «وقف الخلق»، وكلمات أغنية الفنانة شادية «يا حبيبتي يا مصر»، كان هناك تَبَارٍ فى السخرية والتنديد بالمشاعر الوطنية، وكان ذلك يُبَثّ أحيانًا، حتى على التلفزيون الرسمي!!.
«ارفع راسك فوق .. إنت مصري» نداء وصرخة، تتصل بشعار الحركة الوطنية زمن مصطفى كامل ثم مع ثورة سنة ١٩١٩، الشعار يتحدث عن المصري بالمطلق، دون تمييز أو تصنيف، مصرى وكفى، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاختيار السياسي، لكن هذه الصرخة تم انتهاكها بفظاظة شديدة، أولًا من أولئك الذين قسموا المواطنين إلى «أنصاف آلهة» وهم الثوار، لا يخطئون ولا يراجعهم أحد، ناهيك عن أن يتم الاختلاف معهم، ولن أقول مساءلتهم، ثم «المذلون المهانون»، بتعبير ديستويفسكى، وهم الفلول، لا كرامة لهم ولا حق لهم فى أى شىء، وأخيرًا مَن هم أصحاب المنزلة بين منزلتين، «حزب الكنبة»، وهؤلاء موضع تهكم وسخرية وازدراء، بتعبير أحد أنصاف الآلهة، كانوا على مدى ثلاثين عامًا «عبيد مبارك».
على أرض الواقع، وجدنا المشهد البديع للمصريين الأقباط وهم يحرسون المواطنين المسلمين وقت صلاة الجمعة فى ميدان التحرير، كان المشهد وغيره موضع إعجاب وتقدير العالم كله، مع هذه المشاهد تجاوزنا حالة الاحتدام الطائفي التي التهبت فى بداية يناير ٢٠١١، مع تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، لكن بعد رحيل مبارك، راحت توجه سهام الاحتراب مجددًا فى الشأن الطائفي، عرفنا فى مارس ٢٠١١ أحداث قرية صول بمركز أطفيح بالجيزة، والتي أدت إلى الاعتداء على كنيسة، كما وقع حادث كنيسة إمبابة، حيث انفجرت قنبلة أثناء حفل زفاف داخل الكنيسة، وراحت ضحيتها طفلة صغيرة، عمرها 11 عامًا، وتكرر الاحتدام فى إمبابة بصورة باتت تهدد المجتمع كله، وكأننا أمام بروفة نارية لحرب أهلية طائفية.
خارج القاهرة الكبرى، وقعت عدة أحداث مشابهة، فى أسوان وفى عدة مناطق أخرى، حتى وصلنا إلى أحداث ماسبيرو، التي عُرفت إعلاميًّا باسم «مذبحة ماسبيرو». للوهلة الأولى، كان يبدو أن المقصود من هذه العمليات، فى البداية، إحراج حكومة د. عصام شرف، والدفع نحو استقالتها أو إقالتها، وإحراج المجلس العسكري، غير أن تأمل الوقائع يكشف أن الموضوع كان أكبر من ذلك بكثير، كانت هناك رغبة فى تفجير الإجماع الوطني الذى تكون حتى لحظة 11 فبراير، الحوادث الطائفية راحت تقع بوتيرة متسارعة وترتفع حدتها بما يتجاوز بعض ما كان يقع زمن مبارك، وكان الاحتدام الطائفي يتم على أرضية وشعارات دينية وطائفية صريحة وليس كما كان من قبل على خلفية مخاوف ومطالب سياسية، أطلت بعض مجموعات الإسلام السياسي بأهدافها ومشروعها الطائفي دون مواربة.
الأهم أن هذه الأحداث كلها كانت تشير إلى أن هناك ميليشيات مسلحة تتحرك فى أنحاء البلاد، وأن ما جرى يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ كان بداية صاخبة فقط، ومع ما جرى فى ليبيا الشقيقة وقتها راحت الأسلحة تتدفق علينا، خفيفة وثقيلة، وتُخزن كلها، ثم تذهب لتنفيذ عمليات الإحراق والتدمير. أسلحة من الخارج مع مرتزقة كذلك تم استجلابهم بشعارات أممية. وكانت هناك ميليشيا من نوع آخر، لا يحمل أفرادها قنابل ولا مدافع، وهؤلاء هم الذين اندفعوا يوم ٨ مارس ٢٠١١، يوم عيد المرأة العالمي، فى عملية تحرش جماعي بالفتيات والسيدات فى ميدان التحرير ومنطقة وسط البلد كلها، بدا أننا بإزاء رسالة موجهة قصدًا إلى العالم كله فى هذا اليوم، أننا هكذا نتعامل مع المرأة ونراها، ثم توسعت موجة التحرش وراحت تتحول إلى سلوك اعتيادي يوميًّا وليس فى بعض المناسبات أو المشاهد المزدحمة فقط، الإعلام الجديد كان يتابع ذلك وينقله إلى العالم.
كانت المرأة المصرية قد قدمت موقفًا بديعًا فى أحداث يناير، نزلت بكثافة إلى الشوارع والميادين، بينهن مَن ظللن بالميدان أيامًا وليالي متصلة، فى أمان ومساواة تامة فى الموقف والمسؤولية مع زملائهن، لاحظ كثيرون أن مشاهد التحرش المقززة تراجعت كثيرًا، بما يكشف حالة نضج اجتماعي وأخلاقي، بدا أن التاريخ يقودنا إلى مرحلة جديدة فى حياتنا، صارت المرأة رقمًا حاسمًا فى اللحظة الثورية، هكذا كانت فى مار س سنة ١٩ مع اشتعال أحداث الثورة زمن سعد زغلول. بعد ثورة ١٩ تنكر الزعماء للمرأة، ورفضوا منحها حق التصويت فى الانتخابات، ورفض سعد زغلول الاستماع وقتها إلى مطلب الصحفية «منيرة ثابت» بالحصول على هذا الحق، كان مطلب منيرة ثابت قائمًا على أن الدستور قرر حق التصويت لجميع المصريين، لكن شراح الدستور ذهبوا إلى أن كلمة «المصريين» تنطبق على الرجال فقط، وانتهى رأى الزعماء إلى أنه يكفى المرأة الدور الاجتماعى والخدمي، وهكذا تأسس الاتحاد النسائي المصري، حق التصويت والترشح للمرأة تحسن بعد ثورة يوليو ٥٢.
بعد ثورة يناير جرت عملية انتهاك إنساني للمرأة، بدا وكأن هناك شريرًا يحرك جحافل المتحرشين فى الشوارع والميادين، وكان ذلك تراجعًا وارتدادًا حادًّا، على عكس المتوقع، وكأن المطلوب عمليًّا أن تختفى المرأة من المشهد تمامًا، سوف تظل عمليات وعصابات التحرش فى ازدياد مع المزيد من الانحطاط الإنساني والأخلاقي، حتى بات الأمر يشكل سُبّة وطنية لنا، وصرنا موضع تنديد دولي؛ أخذت الظاهرة فى التراجع بعد سنة ٢٠١٤ مع تدخل تشريعي وتوفر إرادة سياسية قوية على رد اعتبار المرأة. كان هناك مَن يصر على كسر السبيكة الإنسانية والوطنية المصرية، التي صنعت رغم كل شيء لحظة حاسمة فى تاريخنا، نعم هي عصية على الكسر، لكن كان هناك مَن حاول وسعى إلى ذلك الكسر والهدم الإنساني والمجتمعي.
الحديث ممتد.
تحرير وإخراج: مركز الفارابي
المصدر: المصري اليوم
الأحد 02-07-2023 00:54
الأستاذ الفاضل حلمي النمنم.. ننتظر بشغف بقية ذكراتك ورتحليلاتك عن ثورة 25 يناير وما بعدها من أحداث