اللواء الدكتور شوقي صلاح يكتب: رؤية تحليلية لأحداث شغب فرنسا يونيو 2023 (الحلقة الثانية)
في المقال الأول:
* تناولنا موضوع أحداث شغب فرنسا (يونيو 2023) من زاوية المسئولية الجنائية للشرطي الذي ارتكب جناية القتل العمد للشاب “نائل المرزوقي” مؤكدين على أن الجريمة لا علاقة لها بجنحة القتل الخطأ، موضحين أحكام نص المادة 435 من قانون الأمن الداخلي التي تنظم ضوابط استخدام الشرطي لسلاحه الناري، وأن هذا الاستخدام يكون في حالة الضرورة القصوى، كما يجب أن يكون متناسباً مع خطورة الاعتداء الذي يواجه الشرطي، وأن التسجيل المرئي أكد على أن الخطر الذي واجهه الشرطي لا يتناسب مطلقاً واستخدامه للنيران القاتلة في مواجهة المجني عليه، خاصة وأن الأخير لم يكن مسلحا، ولم يستخدم السيارة التي يقودها كسلاح. ثم عرضنا في نهاية المقال للضوابط التي أوصت بها بعض المواثيق الدولية الصادرة في شأن استخدام المكلفين بإنفاذ القانون للأسلحة حال تنفيذهم لمهام أعمالهم.
* نظرة تحليلية لتصريحات المسئولين الفرنسيين:
– أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “باريس ستحقق في دور وسائل التواصل الاجتماعي في التحريض على أعمال الشغب” وهذا حقه،كما دعا إلى التزام الهدوء وأن يتحمل الآباء مسؤولية أبنائهم، وهو أمر يحتاج إلى توضيح لمدى تلك المسئولية.. . كما صرح وزير الداخلية الفرنسي أنه سيتم نشر تعزيزات أمنية كبيرة، بالإضافة إلى إرسال مدرعات وطائرات هليكوبتر، وسيتم أيضاً نشر خمس وحدات أمنية متخصصة من أجل التمكن من استعادة الأمن والنظام العام بالكامل.
– أتوقف في هذا السياق أمام “كلمة ماكرون” بأن باريس ستحقق في أعمال التحريض التي تمت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تمثل بعض المشاركات بالفعل أعمالا تحريضية على ارتكاب جرائم، بما يرتب على مرتكبيها مسئولية جنائية، وأُذَكـره هنا – وإن كانت المقاربة ليست دقيقة بالقدر الكافي – بموقف غربي موحد، استهجن قيام الأجهزة المصرية المعنية بالاتصالات بإعاقة حركة مواقع التواصل الاجتماعي أثناء أعمال الشغب التي صاحبت أحداث يناير وفبراير 2011 في مصر، وأطلق على الأحداث وقتها “ثورات الربيع العربي” التي شهدت في جانب منها أعمال عنف وسلب ونهب مماثلة لما يحدث الآن في فرنسا.
– ما قاله ماكرون وأشرنا إليه مقبول بشكل عام.. إلا إنني حقاً صدمت من موقف وزير العدل الفرنسي، حيث صرح بأنه: “على الآباء والأمهات الذين لا يهتمون بأطفالهم (دون 17 عامًا)، ويتركونهم في الخارج ليلا وهم يعرفون أين يذهبون، سيواجهون عقوبات تتراوح بين الحبس لمدة عامين، وغرامة مالية بقيمة 30 ألف يورو”. وأتوجه للسيد وزير عدل فرنسا -دولة القانون والحريات- قائلاً ومتسائلاً في نفس الوقت: تقصد أنه على أولياء أمور هؤلاء الشباب واجب النصيحة، أم أنك تمنحهم سلطة منع أبنائهم من الخروج من المنزل للمشاركة في أعمال الاحتجاجات، وإن تطلب الأمر منعهم بالقوة، فالآباء وفقاً لتصريحك سيتعرضون لمسئولية جنائية خطيرة؟ وأضيف لهذا الوزير الذي يُفترض أنه يعلم بأن من أهم مبادئ المسئولية الجنائية التي يدرسها الطلبة في كليات القانون أن “العقوبة شخصية”، وكان أولى بك يا وزير العدل أن تناشد الآباء بأن يحرصوا على توعية أبنائهم من مخاطر الاندفاع بالمشاركة في أية أعمال شغب أو سلب ونهب، حرصاً على تجنب المسئولية الجنائية التي قد يتعرضون لها، ووقتها لن ينفع الندم.. وأن أعمال التخريب سيتحمل تبعاتها الجميع، وليدعو الوزير الآباء ابناءهم أن يتساءلوا: هل ترضى أن يقوم أحد المحتجين بحرق سيارتك؟ ما لا تقبله على نفسك لا تقبله على الآخرين، وكان أولى بك يا وزير العدل أن “تُطمئن الشعب الفرنسي إلى أن العدالة ستأخذ مجراها بشأن جريمة قتل الابن “نائل” وأنه في فرنسا لا أحد فوق القانون.. كما كان عليك أن توجه حديثك للمخربين قائلاً “ستشعرون قريباً جداً بقوة القانون، فكل من أخطأ وأجرم سيحاسب عن فعله”.
* أسباب العنف المفرط من قبل المحتجين على قتل الشاب “نائل”
هذه المشاهد الصادمة لأعمال العنف المفرط وجرائم السلب والنهب والإحراق العمدي التي ترتكب في سياق الاحتجاجات تجعلنا نتساءل : لماذا ترتكب كل هذه الجرائم؟ هل من المعقول أن ترتكب هذه الجرائم في فرنسا؟ بل وتمتد لدول أوروبية أخرى كبلجيكا وسويسرا ؟ على أي حال أؤكد مبدئياً رفضي لكل أعمال العنف، وبالأخص ما يصاحبها من جرائم سلب ونهب وإحراق للمباني والسيارات عامة وخاصة، وكل اعتداء على عناصر الشرطة والمسئولين في فرنسا، وسوف أبرز للقارئ المحترم أهم أسباب هذا العنف رغم شجبي له:
1- الضغينة التي يحملها الجمهور، خاصة من أحفاد الفرنسيين من أصول أفريقية ضد الشرطة نتيجة زيادة معدلات استخدام الشرطة للقوة القاتلة، خاصة في مواجهات مع هذه الفئات، وذلك في حوادث مرورية مشابهة لحادث “نائل”، فهناك ٣٩ حالة قتل لأشخاص من أصول أفريقية خلال عام ٢٠٢٢ فقط، وهنا يدخل عامل العنصرية كمؤثر في تنامي روح الكراهية ضد الشرطة.
2- خطاب اليمين المتطرف المتوشح بصيغة الكراهية والعنصرية أصبح مطروحا للتداول بشكل يومي مستمر على المنصات الإعلامية الفرنسية بجميع تصنيفاتها، بل ويتبناه الكثير من الساسة في فرنسا ويجد قبولاً من نسبة لا يستهان بها من الشعب الفرنسي.. لذا فلا تستغرب ردود الأفعال التي نراها في فرنسا الآن – وهي قضية تهم أوروبا بشكل عام – هذا ومن دواعي الخطورة البالغة ما قام به بعض أنصار اليمين المتطرف من نزول للشارع ورفع لافتات “فرنسا للفرنسيين” كما أرشدوا الشرطة للقبض على المخربين، مما يهدد باندلاع حرب أهلية يمكن أن تشتعل حال حدوث صدام ميداني بين الفئتين.
الجدير بالذكر أيضاً الإشارة إلى: وجود انقسام حاد داخل المجتمع الفرنسي بصدد الأزمة، فاليمين المتطرف يدعم أجهزة الشرطة مدعياً أنها تقوم بواجبها، متجاهلاً إلى حد كبير الجرائم التي ارتكبت.. بينما اليسار يذهب إلى إعادة النظر في التعديلات التشريعية التي تمت في ٢٠١٧، ويدعو لتطوير المنظومة التدريبية لعناصر الشرطة بشأن ضوابط استخدامها للقوة، وأتفق تماماً مع الرأي الذي يذهب إلى أن منظومة التدريب الأمني لعناصر الشرطة الفرنسية بها خلل جسيم في موضوع ضوابط استخدام الشرطة للقوة.. ويجب معالجته.
3- لقد أثيرت حفيظة المحتجين، خاصة بعد انتشار أخبار جريمة القتل العمد التي ارتكبها الشرطي في مواجهة “نائل” وهي مدعمة بتسجيلات مرئية للواقعة نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم هذا تعالت أصوات تَدَعي بأن الجريمة مجرد جنحة قتل خطأ ارتكبها الشرطي.
4- هناك سبباً إضافياً لأعمال العنف المشار إليها، يتمثل في قيام جانب من الجمهور الفرنسي الذي يعارض ماكرون بشأن مشروع تعديل سن التقاعد “جمهور السترات الصفراء” قد انتهزوا الفرصة وانضموا لأعمال الشغب في الميدان.
5- نسبة كبيرة من المحتجين (30%) ينتمون لفئة عمرية صغيرة، حيث تتراوح أعمارهم بين ١٢: ١٧عاما، وهي فئة تتسم أفعالها بكونها متهورة، وعنفها مبالغ فيه؛ وإدراكها محدود.
6- ولا يفوتنا في هذا السياق التأكيد على أن؛ مثل هذه الاحتجاجات ينضم إليها عصابات ومجرمين جنائيين يجدوا الفرصة سانحة أمامهم للقيام بأعمال السلب والنهب أثناء تلك الأحداث.
* هذا، وبجانب الأسباب السابق ذكرها هناك أسباب أخرى لا يمكن إغفالها أيضاً؛ فمنذ شهرين فاجأنا وزير الداخلية الفرنسي بتصريح صادم مفاده: أن الخطر الأكبر على فرنسا يأتي من الإسلام السني – تجاوز عدد مسلمي العالم الـ 2 مليار مسلماً، وتقدر نسبة السنة منهم حوالي 85% – فهل يدرك هذا المسئول أن تصريحه هذا يعد معاداة للغالبية العظمى من مسلمي العالم، وأن بفرنسا وحدها ما يقرب من خمسة مليون مسلم سني!!! إنه تصريح يحمل روح الكراهية والعدائية للمسلمين، وغالباً ما يحمل أهدافاً سياسية.. وأقل ما يوصف به صاحبه هو: أن موقفه يبتعد كثيراً عن الحكمة السياسية.
وفي نطاق الاحتجاجات وأعمال العنف المشار إليها، رفع جانب من المحتجين لافتات “أوقفوا الحرب في أوكرانيا” فنسبة لا يستهان بها من الشعب الفرنسي يرفضون الاستمرار في دعم أوكرانيا وإطالة أمد الصراع بها، لمردوده السلبي على الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، ناهيك عن مخاطر انخراط القوى العظمى في حرب نووية، سيكون الجميع فيها خاسراً، ومن المؤكد أن الخسائر قد تتمثل في إبادات جماعية لدول.
* الشرطة الفرنسية تتحلى بقدر كبير من ضبط النفس في المواجهات:
هذا، وإن كنا قد انتقدنا الأداء الأمني للشرطي قاتل الشاب “نائل” وكذا الأداء السياسي لبعض الساسة الفرنسيين، إلا أننا نقدر أداء الشرطة الفرنسية في مواجهة أعمال الشغب، والذي اتسم بقدر وافر من ضبط النفس، رغم أعمال العنف واسعة النطاق، التي ارتكبت فيها أعمال إحراق وسلب ونهب. مع هذا لم تستخدم الشرطة القوة القاتلة لمنع هذه الجرائم، بل استطاعت القيام بمهام القبض على عدد كبير من مرتكبي تلك الجرائم – تجاوزت أعداد من تم القبض عليهم 3000 متهماً – باحترافية أمنية عالية.
* رسالة لليمين المتطرف بالمجتمعات الغربية:
كلمة أوجهها لتيار اليمين المتطرف بالمجتمعات الغربية: إن بلادكم نَهَبت خيرات العديد من دول أفريقيا، من خلال الاحتلال تارة، ومن خلال الاستعمار الاقتصادي تارة أخرى.. وقد اعتمدت فرنسا ودول أوروبية أخرى بعد الحرب العالمية الثانية على جهود أبناء تلك الدول الأفريقية لإعادة نهضتها وتقدمها. الآن هناك من يرفع شعار “فرنسا للفرنسيين فقط “ ويدعون أنها همجية ذوي الأصول الأفريقية.. وتؤكد الاحصاءات تقدم شعبية الأحزاب التي تنتمي لليمين المتطرف في عموم أوروبا، وليس في فرنسا فقط.
ولكل دعاة الفصل العنصري في فرنسا –على سبيل المثال- أقول: لقد فعلها جانب كبير من الفرنسيين ممن يطلق عليهم “أصحاب السترات الصفراء” فارتكبوا ذات السلوك الهمجي في احتجاجاتهم ضد مشروع ماكرون لتعديل نظام التقاعد.. ومن قبيل المصارحة بالحقائق، فقد انتشرت لديكم ثقافة العنف.. والأمر في رأيي أن ذلك كله:
يرجع إلى تدني مستوى الأخلاق والقيم.. فمجتمعاتكم برجماتية إلى أقصي مدى، وتتسع فيها الهوة كثيرا بين الأغنياء والفقراء، واستراتيجيتكم التي تتسم بالعنصرية هي التي أجهضت منذ نصف قرن تقريباً كل الدعوات التي أكدت على أهمية دعم ذوي الأصول الأفريقية في فرنسا وتحسين ظروف معيشتهم.
مع هذا، فإن لدي وطيد الأمل في أن أرى فرنسا عاصمة الثقافة في الدنيا كلها، وقد عاد وجهها المشرق مرة ثانية.. ولتتبنى الدولة الفرنسية والدول الأوروبية التي تحارب الهجرة وتعطل حقوق اللاجئين استراتيجية أخرى تنطلق من تطوير مستعمراتها السابقة لتصبح دولاً جاذبة لأبنائها، وليتخلوا عن استراتيجية إضعاف الدول ونشر عوامل الفساد داخلها لتظل خيراتها منهوبة.. وخلاصة القول: حققوا أهدافكم من خلال تنمية مستدامة لمستعمراتكم السابقة، تنمية تحققون من خلالها مكاسب عديدة.. وبموجبها يصبح الجميع رابحاً.
أستاذ القانون بكلية الشرطة.
رئيس برنامج الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات.
خبير مكافحة الإرهاب.