الشهر: أغسطس 2023

الدكتور مدحت حماد يكتب: تحديات انتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤(2/4)

عندما أخذ المصريون يستعدون لأول انتخابات رئاسية بعد ثورة ٢٥ يناير، كان لدى جميع القوى السياسية والاجتماعية آمالاً عريضة وطموحة، رغم أن الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية كانت مملوءة بالتحديات والمخاطر بل والتهديدات.
وكان سقف الطموحات السياسية لدى الجميع لا حدود له، بل كانت معدلات التفاؤل السياسي تصل عنان السماء و هي تنطلق من قلب ورحم شعار ثورة ٢٥ يناير "عيش، حرية.. عدالة اجتماعية".

المشهد بأسره كان يذكرنا بثورة ١٩١٩، حيث كانت الآمال والطموحات و… لا حدود لها، بينما كانت "مصر" تئن وتنتحب بل وتغلي وتفور كالبركان وهي تحت الاحتلال البريطاني.
لهذا.. وجدنا معدلات التصويت والمشاركة السياسية في الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٢، كما سبق القول في الحلقة السابقة، غير مسبوقة على الإطلاق في التاريخ السياسي المصري منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
إمتداد طوابير الناخبين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم السياسية الدينية الحزبية والاجتماعية والاقتصادية، كان بمثابة الدليل الدامغ على "حيوية" المجتمع المصري بأسرة.

مثل هذه الصورة اندثرت تماماً فيما بعد، وكأنها كانت بمثابة "سحابة صيف سياسية"، وليست "سحابة صيف سياسي".
لذلك فبمجرد أن انتهت الانتخابات على ما انتهت إليه من فوز مرشح الإخوان المسلمين"محمد مرسي"، حتى دخلت مصر "نفقاً سياسيًا" معتماً شديد العتمة حالكة السواد، لتعيش الدولة بأسرها أسوأ حالات الاحتقان السياسي، بعد ثورة يوليو ١٩٥٢.
لقد انقسم المصريون انقاسماً حاداً ومأزومًا، وبات الاستقرار السياسي للدولة في أعلى مستويات الخطر، وفشل الجميع.. بمعنى كلمة الجميع، في احتواء بعضهم البعض، لندخل وبشكل أذهل العالم ثورة ثانية في أقل من عامين، هي ثورة ٣٠ يونيو، ولقد اعتقدنا جميعاً أننا بصدد "العصر الذهبي" الحقيقي المنتظر "للحياة الحزبية والسياسية" الذي تتوق إليه جميع أطياف وفئات ومكونات المجتمع المصري، وهو ما جسده، يقيناً، شعار: "دولة مدنية حديثة".
من أهم خصائص وسمات الدولة المدنية الحديثة، وفق ما نعلمه جميعاً، هو الأمل الحقيقي في إمكانية وصول "أي حزب للسلطة السياسية.
الأمل الحقيقي في منافسة الرئيس الفلاني الذي يتولى الحكم.
الأمل الحقيقي في وصول المترشحين للانتخابات البرلمانية نتيجة مشاركة حقيقية من جانب الناخبين وليس مشاركة مقننة، أو محكومة بتوافقات، أو… أو… أو.
الحدث المهم الذي لم يكن يتوقعه أحد، يتمثل في حدوث التعديلات الدستورية الخاصة بمدة انتخاب رئيس الجمهورية، ولم يكن قد مرّ سوى أربع سنوات على الدستور الذي تم الاستفتاء عليه، بعد ثورة ٣٠ يونيو.
ليس هذا فحسب هو الذي ترك بصماته وأثاره السلبية على "الطموحات السياسية" للقوى السياسية والحزبية، إنما كان تعسكر، أو عسكرة الأحزاب السياسية الرئيسية التي وصلت إلى السلطة التشريعية، أو حتى وجود "صبغة عسكرية ما لعدد من الأحزاب"، كان هو الآخر بمثابة عودة سلبية للوراء، من خلال استدعاء الصورة لقاتمة التي لم تكن قد غابت بعد عن ذاكرة المصريين وهي صورة الحزب الوطني، وحزب الحرية والعدالة.

حشود المصريين للتصويت في انتخابات الرئاسة 2012

من طوابير انتخابات 2012

فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله "الحرب ضد الإرهاب"، كنتيجة طبيعية لعدم تسليم معظم الجماعات الدينية بثورة ٣٠ يونيو خاصة "التنظيم الإرهابي للإخوان المسلمين"، فضلاً عن تحالفها المتآمر على الوطن مع الكثير من أعداء الوطن أو بالأحرى أعداء ثورة ٣٠ يونيو التي أطاحت بالإخوان المسلمين وانتزعتهم من السلطة كالذي يقوم بخلع "ضرسه"، بينما كانوا يظنون في أنفسهم مشروعية نزعناها عنهم، ليستمر تحالفهم المتآمر مع العديد من القوى الدولية والإقليمية ما جعل الوطن بأسره في حالة حرب لأربع سنوات.

حشود المصرييين المليونية في ثورة 30 يونيو

كل هذا بينما الوضع الداخلي كان على النحو التالي:
١) إستمرار استفحال ظاهرة المطالبات الفئوية.
٢) إستمرار تآكل الاحتياطي النقدي الإستراتيجي المصري.
٣) إستمرار تعاظم الأزمات الخاصة بالبنية التحتية، كهرباء، غاز، طرق، مواصلات،…
٤) إستمرار التعديات على الرقعة الزراعية، والبناء العشوائي في جميع أنحاء مصر.
٥) إستمرار ظاهرة انتشار الفوضى الإدارية في الكثير من أجهزة ومؤسسات الدولة.
٦) تعاظم التهديدات الإقليمية والدولية من جانب القوى التي كانت ما تزال ترى بإمكانية عودة التنظيم الإرهابي للحكم اي الإخوان المسلمين.
٧) الأهم من كل ذلك تسليم "الأحزاب السياسية" وبشكل مثير للدهشة، بحتمية إحكام إرادة المؤسسة العسكرية وفرض سيطرتها على الجهاز الإداري للدولة حتى تستقيم الأمور والأوضاع الداخلية، ما أخذ يشكل البذرة واللبنة الرئيسية لمشاركة الكثير من القيادات العسكرية السابقة في الحياة السياسية بل وقيامها بتدشين عدد من الأحزاب السياسية التي صارت خلال أقل من خمس سنوات الظهير والزراع السياسي للقيادة المصرية، أي للرئيس عبد الفتاح السيسي.
الأمر الذي أدى بدوره إلى انكفاء الكثير من الأحزاب السياسية خاصة التي قامت على أساس "الرجل الواحد"، وكذلك نتيجة مباشرة لإنحسار الدعم المالي من جانب الكثير من رجال الأعمال، الذين رأوا أن مصلحتهم ومصالحهم الاقتصادية يجب أن تسير على النحو الذي كانت عليه قبل ثورة ٢٥ يناير، أي في كنف وحماية الأحزاب السياسية التي تدعم القيادة السياسية بشكل مباشر وواضح.
٨) قراءة جموع وعموم المصريين قراءة صحيحة مباشرة وبشكل عبقري، مفادها عودة جميع "العمليات الانتخابية البرلمانية منها والرئاسية" إلى"المربع صفر"، أي عودتها إلى ما كانت عليه قبل ثورة ٢٥ يناير.
وأن الأمر برمته لن يعدو سوى "عملاً شكلياً" وهو ما جسدته تراجع جميع المترشحين للمنافسة على الانتخابات الرئاسية في عام ٢٠١٤ عدا السيد "حمدين صباحي"، وتحولها في ٢٠١٨ إلى "حدث مسرحي" خاصة عندما أعلن المستشار مرتضى منصور عن ترشحه أمام الرئيس السيسى، ثم انسحابه!! ليدخل المهندس موسى رئيس حزب الغد في الحدث في الدقيقة ٩٠!! ليس هذا فحسب، إنما جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة لتؤكد للناس جميعاً أن مصر بصدد حالة من "التراضي الحزبي السياسي" لتقسيم أو تقاسم "الكعكة البرلمانية" وهو ما يؤكده الانخفاض الكبير في معدلات التصويت من جانب الناخبين.

إن "الأزمة الحقيقية" من وجهة نظرنا، أن الجميع بمن فيهم القيادة السياسية قد انغمسوا تماماً في جميع الأزمات والتحديات والتهديدات السابق ذكرها، حتى أنهم لم يتمكنوا من قراءة "المشهد السياسي المستقبلي المأزوم"، الذي ستكون عليه الحياة السياسية في ٢٠٢٤، على النحو الصحيح، بل إنه عندما بدا أن القيادة السياسية أي الرئيس عبد الفتاح السيسي قد استشعرت الخطر، فأطلقت "الحوار الوطني"، تحول الحوار نفسه إلى آلية "لتجميل المشهد السياسي برمته في ٢٠٢٤" وليس آلية لإعادة الروح للحياة السياسية على النحو الذي كانت عليه مصر "وطناً وشعباً" في عام ٢٠١٢.

وللحديث بقية.

اللواء الدكتور شوقي صلاح: بوتين يراهن على عامل الوقت.. فاحذروه 

تمهيد

لا شك أن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحرش من زمن بروسيا، فخطط لتفكيك الاتحاد السوفيتي ونجح في ديسمبر١٩٩١، ثم ضم أغلب الدول التي انفصلت عنه، وعلى المستوى السياسي؛ يشار إلى أن كييف أنتجت عام 2015 مسلسلا بعنوان "خادم الشعب" تناولت أحداثه الوضع السياسي في البلاد، وسلط المسلسل الضوء على عدد من القضايا في إطار كوميدي...! ولم يتوقع أحد أن بطل المسلسل فولوديمير زيلينسكي (44 عاما) سيصبح الرئيس الفعلي للبلاد عام 2019.. فهل هذا من قبيل الصدفة أم أنه مخطط دُبر بعناية؟؟؟ وكاد الغرب أن يضم أوكرانيا لعضوية الناتو، رغم كل التحذيرات التي أطلقتها روسيا، ولا من مجيب، مما اضطرت معه الأخيرة لاتخاذ قرارها بغزو أوكرانيا في 24 فبراير 2022.

* الناتو وروسيا يراهنان على عامل الوقت:

 بعد أن تدخلت روسيا عسكريًا في أوكرانيا، اعتقد الناتو أن روسيا ستغرق في دوامة الصراع، حيث تندلع حرب هجينة تخوضها أوكرانيا بالوكالة، حيث المواجهة فيها عسكرية واقتصادية وسياسية، فيتم دعم أوكرانيا بالسلاح من جانب، وتوقيع عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا من جانب آخر، وضغوط سياسية لعزل روسيا، مع اللعب على عامل الوقت، حيث ستضطر الأخيرة – وفقًا لخطط الغرب- للانسحاب بعد مارثون طويل من القتال، وذلك حال وصولها لحالة من الانهاك الجسيم.. واضعين في الاعتبار أن لجوء روسيا إلى استخدام السلاح النووي يعد أمرًا مستبعدًا، باعتباره سلاحًا للتدمير الشامل. هذا وأكد الواقع أن روسيا احتلت حتى تاريخ كتابة هذه السطور حوالي 20% من الأراضي الأوكرانية، ومازالت قادرة حتى الآن على استخدام قدراتها العسكرية غير النووية في إدارة الصراع بكفاءة وقدرة عالية، ولم تنهزم اقتصاديا، ومازال الناتو يُصِر على إطالة أمد النزاع، بمزيد من الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي لأوكرانيا، وأيضًا بمحاولات مستديمة ومضطردة لعزل روسيا على كل الأصعدة...

"الخنجر" صاروخ روسي فرط صوتي يصعب اعتراضه

رسالة للناتو "احذروا مفاجآت بوتين"

  • لعل الكثير من المحللين تساءلوا: لماذا لم يحسم بوتين الحرب من زمن باستخدام القليل من قدرات روسيا النووية التكتيكية؟ وبهذا يحسم الصراع متجنبًا إزهاق الأرواح والأموال التي أهدرت في حرب لا تبدو لها نهاية قريبة، وذلك على غرار الحسم الأمريكي للحرب العالمية الثانية واستخدامها للسلاح النووي ضد اليابان في أغسطس عام 1945، وذلك بإلقائها قنبلتين؛ الأولى أسقطت على هيروشيما والثانية على ناجازاكي، وتحقق للولايات المتحدة الأمريكية ما أرادت؛ حيث حسمت الصراع واضطرت اليابان للاستسلام، وأعتقد أنه بفرض استخدام روسيا للسلاح النووي التكتيكي، فإن الناتو لن يُصَعد الأمر لمواجهة نووية مع روسيا، فالسلاح النووي الاستراتيجي يعد بحسب الأصل سلاحًا للردع.

- ومع هذا، فإنه وعلى جانب آخر، ومن منطلق تحليل أمني يستند على محاولة لقراءة فكر الرئيس بوتين، أنه يسعى بتُؤَدة أيضًا لكسب الوقت، ولكن هدفه من وجهة نظري قد يكون مفاجئا ومباغتًا.. فالرجل ربما يدفع بكل قوة لتطوير تكنولوجيا أسلحة الردع، وصولاً لهدف استراتيجي ألا وهو: "ابتكار أسلحة من شأنها تحييد القدرات النووية الاستراتيجية للناتو" ليتمكن إذا اقتضى الأمر من بدء الهجوم وإنهاء الصراع الأخطر.. ولما لا، ووفقًا لما أعلنه بوتين وقادة روس آخرون، فقد استطاعت روسيا تطوير صواريخ فرط صوتية سرعاتها أضعاف سرعة الصوت، وبهذا لا تستطيع قدرات الدفاعات الجوية للناتو اعتراضها.. فإذا انتجت المصانع الروسية شبكات للدفاع الجوي وذخائر بكميات هائلة.. من شأنها اعتراض الصواريخ النووية المضادة، بجانب توفير ابتكارات تكنولوجية عسكرية لتعطيل منظومات الإطلاق من العمل ولو لبعض الوقت.. وهنا لن يتردد بوتين في التهديد بالمواجهة باستخدام السلاح النووي التكتيكي ضد أوكرانيا، وإن لم تستسلم فسيفعلها، وهو على يقين بألا يُقدِم الناتو على مواجهة نووية مباشرة.. ولتحري مزيد من الدقة فقد استطلعت رأي أحد الأصدقاء من لواءات قادة الدفاع الجوي المصري السابقين، للتعرف على رأيه في إمكانية تحييد الصواريخ النووية التكتيكية للناتو فأجاب: "أعتقد أن روسيا لديها أقوى غطاء دفاع جوي في العالم، ورغم هذا لا يمكن الجزم أن بإمكانها صد الهجمات الجوية النووية للناتو بنسبة 100%".

صاروخ سارمات: من مقدمات الجيل السادس؟

يا أولي الأمر: شعوبكم سئمت طول الصراع:

لعله من الحكمة البالغة ولمصلحة أطراف الصراع كافة، أن تبدأ وبسرعة مرحلة التفاوض على إنهاء هذه الحرب، التي أنهكت العالم بأسره، ولعل هناك بارقة أمل بدت مؤخرًا في تصريح "ستيان يينسين" مدير مكتب الأمين العام لحلف الناتو، الذي لم يستبعد قبول عضوية أوكرانيا في الحلف حال قدمت تنازلات عن جزء من أراضيها لروسيا، وذلك كجزء من صفقة لإنهاء الحرب.

** أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بكلية الشرطة

رئيس برنامج الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات

وخبير مكافحة الإرهاب

الدكتور مدحت حماد يكتب: تحديات انتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤(1/4)

بكل تأكيد فإن العد التنازلي لانتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤ بدأ مع أول يوليو الماضي، وهو أمر لا يخفى على أحد، خاصة في ظل حالة "الترقب الصامت" التي تكتنف هذه الانتخابات بشأن طبيعة وكينونة "الشخصيات" التي ستنافس الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذه الانتخابات.

إن حالة "الترقب الصامت" هذه، لم تنشأ لا من فراغ ولا قدراً، إنما تشكلت ونشأت نتيجة تضافر مجموعة من "العوامل المركبة والمعقدة"، منها على سبيل المثال:

١_ الجمود التاريخي للحياة الحزبية في مصر. منذ أن أعاد الرئيس السادات الحياة الحزبية في مصر بعد انتصار أكتوبر العظيم. لقد ظلت الدولة المصرية منذ ذلك الوقت وحتى الآن تراوح مكانها فيما يخص إطلاق العمل الحزبي على النحو المعمول به في جميع الدول الديمقراطية بما يؤدي بالضرورة إلى ما يعرف بتناوب السلطة بين حزبين رئيسيين أو أكثر. فمنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، تقوم الحياة السياسية الحزبية المصرية على أساس "حزب الرئيس"، وهو الأمر الذي يؤكده "بقاء الرئيس في السلطة بقاءً شبه أبدي"، حيث لم يترك الرؤساء الثلاثة السابقين (أنور السادات، حسني مبارك ومحمد مرسي)، لم يتركوا السُلطة "طوعاً واختياراً"، إنما تركوها "قدراً أو كُرهًا".

٢_ توارث، أو توريث، منظومة "القيم السلبية" فيما بين فئات وقطاعات الشعب المصري من جهة، والأحزاب السياسية ذاتها من جهة أخرى، مثل استحالة تحقيق تداول حقيقي للسلطة بالطرق الدستورية العادية أي الانتخابات. فلسبب ما _ يحتاج إلى دراسات حقيقية صادقة لمعرفة الجذور الفعلية لهذه المفاهيم والقناعات السلبية _ لا يزال الناس وبالطبع الأحزاب السياسية، على قناعة مفادها أن "الرئيس الفلاني" الموجود في السلطة هو "الفائز" لا محالة في الانتخابات، شاء من شاء وأبى مَن أبى!

من ثم كان الإحباط الذي شكّل البيئة الخصبة لليأس وفقدان الأمل في وجود انتخابات رئاسية حقيقية تؤدي بالفعل إلى رحيل رئيس ومجيء رئيس آخر، بشكل عادي.

٣_ عدم وجود انتخابات المحليات منذ أكثر من عقد من الزمن، الذي تكامل بشكل قَدَري، مع ما رافق الانتخابات البرلمانية من انطباعات واشاعات كلها سلبية، بخصوص آليات اختيار الأحزاب لمرشحيها من جهة، وحدوث تنسيق "حزبي _ حزبي" أقرب إلى "تقاسم وتقسيم" المقاعد الانتخابية بين الأحزاب وبشكل توافقي، قبل إجراء الانتخابات البرلمانية من جهة أخرى، الأمر الذي ضاعف من اليأس والإحباط على النحو الذي جسدته تراجع معدلات الإقبال _ ومن ثم التصويت _ الشعبي فيها، وهي كلها حقائق لا تقبل التشكيك، إذ تثبتها وتؤكدها الأرقام والإحصاءات.

(هنا تحديداً يلزم الإشارة والتأكيد على أن عام ٢٠١٢ كان عاماً استثنائياً في تاريخ الحياة السياسية والحزبية المصرية منذ ثورة 23 يوليو 1952، سواء فيما يخص التصويت في الاستفتاء الدستوري أو في الانتخابات البرلمانية وكذلك الانتخابات الرئاسية)

فإذا ما أضفنا لذلك كله وجود قناعات لدى الكثير من المصريين بأنّ الأحزاب القائمة الآن إن هي إلا "امتداد" أو "استنساخ" للحزب الوطني الديموقراطي، والأكثر من ذلك اعتقاد عدد غير قليل من المصريين ب "عسكرة الحياة السياسية والحزبية" من خلال سيطرة نخبة من القادة العسكريين السابقين خصوصًا من بعد ثورة 30 يونيو، نكون أمام مقدمات خطيرة تشير إلى "عزوف شعبي" متوقع عن المشاركة الكبيرة في انتخابات الرئاسة 2024.

نعود إلى عنوان المقال فنقول، إنه في إطار ما سبق، واستنادًا إلى بعض العوامل الأخرى مثل تعاظم الأزمة الاقتصادية المصرية، والصعوبات الحياتية الكبيرة التي بات يعاني منها الكثير من المصريين، فإن "الدولة المصرية" بأسرها باتت أمام امتحان مصيري مرتبط بالانتخابات الرئاسية القادمة في 2024.

عندما أقول "الدولة المصرية"، فأنا أقصد بذلك النظام السياسي والشعب المصري معًا. ذلك أن الخوف أو القلق المرتقب، المتمثل في عزوف غالبية المصريين عن المشاركة والتصويت فيهذه الانتخابات، سوف يشكِّل _ إذا ما حدث ذلك _ أزمة سياسية ستنال بكل تأكيد من المكانة الخاصة بالرئيس القادم، الذي هو "الرئيس عبد الفتاح السيسي" نفسه.

ثمة "تحديات ثلاث"، ترتبط بالانتخابات الرئاسية 2024، هذه التحديات هي: "المصداقية"، "الجديّة" و"المشروعية".

أولاً: المصداقية.

في ظل عدم الإعلان المبكِّر، عن وجود منافسين حقيقيين يخوضون الانتخابات أم الرئيس عبد الفتاح السيسي، واستنادًا على كل ما ذكرناه سابقًا، خاصة فيما يتعلق بجمود أو تكلّس الحياة الحزبية، وحالة الحذر، التي يفسرها الكثير من الناس بأنها حالة خوف، المتعلقة بالإعلان عن المنافسين المحتملين للرئيس السيسي، فإن تآكل حقيقي لـ "المصداقية" سيكون هو الانطباع السائد بين جموع المصريين.

المقصود بالمصداقية هنا، هو مصداقية المتنافسين أمام _وفي أعين_ المصريين، وهل هُم جادين فعليًا لخوض غمار منافسة انتخابية حقيقية للرئيس السيسي أم أنهم سيبدون كما لو أنهم يعملون على استكمال الشكل الظاهري للعملية الانتخابية فقط؟

ثانيًا الجديِّة.

أعني بها جديِّة _وبالتالي قدرة_ المرشحين المحتملين لخوض غمار مواجهة ومنافسة انتخابية حقيقية تحظى بقبول واحترام وتصديق الناس. هذه الجديِّة هي توأم مباشر للمصداقية، وبالتالي فإننا إذا ما افتقدنا تحقق الأولى في المنافسين الذين سيخوضون غمار الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس السيسي، فإن النتيجة المباشرة لذلك هي زوال وتلاشي "جديّة المنافسة".

ثالثًا: المشروعية.

وهذه بدورها ستكون النتيجة "المُطلقَة" إذا ما انعدمت "المصداقية والجديِّة". من ثم سيكون الرئيس عبد الفتاح السيسي عند فوزه، أمام تحدي كبير مرتبط بمشروعيته هو شخصيًا. الأمر الذي سيفرض عليه ضغوطًا جديدة، وسيخلق له "تحديات داخلية نوعية" _ وربما "تهديدات خارجية" _ غير متوقعة.

من المقدمات التي تقودنا لذلك؛ على الأقل من الناحية الواقعية الحياتية، نذكر ما يلي:

  1. تراجع نسبة التصويت في آخر تعديلات دستورية.
  2. 2- تراجع نسب التصويت في آخر انتخابات رئاسية.
  3. 3- تراجع نسب التصويت في آخر انتخابات برلمانية.
  4. 4- تعاظم الأزمات الاقتصادية الاجتماعية الداخلية.

جميع ما سبق نال بكل تأكيد من معدلات التأييد الشعبي للرئيس عبد الفتاح السيسي مقارنة بما كان عليه أعوام 2012_2016 الأمر الذي بات يشكِّل في حد ذاته أكبر تحدي أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيًا.

وللحديث بقية.

الدكتور حامد محمود: البريكس.. هل تعيد رسم خارطة الاقتصاد العالمي؟

د/ حامد محمود

المدير التنفيذى لمركز الفارابى للدراسات السياسية والاستراتيجية

يأتى اجتماع قادة دول بريكس ذات الاقتصادات الناشئة والتي تمثّل نحو رُبع ثروة العالم، في جوهانسبرغ في قمّة ترمي لتوسيع نفوذ التكتّل والدفع باتجاه تحول في السياسة العالمية. ويستضيف رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامابوزا كلاً من الرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في القمة السنوية للتكتّل والتي تستمر ثلاثة أيام. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فسيشارك في القمّة عبر الفيديو، وسيتوجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى جوهانسبرغ بدلاً منه.
تمثّل دول بريكس مليارات الأشخاص عبر ثلاث قارات، مع اقتصادات تشهد مراحل متفاونة من النمو، لكنّها تتشارك في أمر واحد: ازدراء نظام عالمي تقول إنّه يخدم مصالح القوى الغربية الغنية.

تأتي القمة لدول البريكس التى تعقد تحت شعار “بريكس وأفريقيا: شراكة من أجل النمو المتسارع المتبادل، والتنمية المستدامة، والتعددية الشاملة”.، في لحظة حرجة من عمر تطور التكتل ذاته، والنظام الدولي على حدٍ سواء، حيث يتناول الاجتماع “إعادة التوازن” في النظام العالمي، وبحث تداعيات الحرب في أوكرانيا على المجتمع الدولي. كما تشاور الاجتماع في الطلبات التي قدمتها حوالي عشر دول للانضمام إلى المجموعة .

وفي الوقت الذي تسعى فيه دول المجموعة، بالفعل، إلى ضم أعضاء جدد، لكي تصبح ذات فاعلية أقوى في الساحة الدولية، ومن ثمَّ العمل على إعادة التوازن في قمة النظام الدولي، وإصلاح المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وتعديل آليات العولمة وقواعدها، لتراعي مصالح الأسرة الدولية كافة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل دائمًا على تعطيل انضمام بعض الدول إلى هذا التكتل، بل وتوسيع الفجوة والخلافات بين أعضاء التكتل ذاته.

على الرغم من ذلك، تعطي مجموعة “بريكس” أملًا لدول العالم في أن عالم القطب الواحد اقتصاديًا لن يستمر إلى الأبد، وأن هناك دولًا تفكر في إحداث تغيير كبير في هذا النظام. كما أن الأرقام الاقتصادية التي صدرت مؤخرًا عن مجموعة بريكس، وإعلان دول عديدة رغبتها في الانضمام إلى المجموعة، يؤكدان أن هذه المجموعة ستعمل على تغيير كبير في موازين القوة الاقتصادية والسياسية عالميًا. وقد كشفت الأرقام تفوق مجموعة بريكس لأول مرة على دول مجموعة السبع الأكثر تقدمًا في العالم، وذلك بعد أن وصلت مساهمة “بريكس” إلى 31.5% في الاقتصاد العالمي، مقابل 30.7% للقوى السبع الصناعية.

في هذا الإطار، يتناول هذا التحليل، قراءة في مخرجات اجتماع وزراء خارجية المجموعة في كيب تاون، ونشأة وأهمية وأهداف المجموعة، ولماذا تسعى بعض الدول إلى الانضمام إلى هذا التكتل الآن، وما هي أهم التحديات التي تواجه المجموعة، وأخيرًا مآلات ومستقبل مجموعة بريكس.

ثلاثية النشأة والأهمية والأهداف:

تأسست مجموعة بريكس تحت مسمى “بريك”، أي الأحرف الأولى من الدول المشكلة لها، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين، وعقدت أول قمة لها عام 2009، ثم انضمت إليها جنوب أفريقيا عام 2010، ليصبح اسمها “بريكس” (BRICS). وعلى الرغم من التطلعات الكبيرة لأعضائها ببناء عالم ثنائي القطبية، فإن المجموعة لم تتحول إلى تكتل اقتصادي وسياسي قوي ينافس الغرب وحلفاءه. وكانت روسيا هي التي شرعت في إنشائها. ففي 20 سبتمبر 2006 تم عقد أول اجتماع وزاري للمجموعة بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما تقرر خلال قمة بريكس بالبرازيل في 15-16 يوليو 2014، إنشاء بنك للتنمية وتبني معاهدة لوضع احتياطي طارئ للمجموعة، التي باتت تمتلك ما مجموعه 200 مليار دولار.

وتعمل مجموعة بريكس على تشجيع التعاون التجاري والسياسي والثقافي بين الدول المنضوية تحت عضويتها. وتعتبر كل دول بريكس الخمس دولًا صناعية، وتتميز بضخامة اقتصاداتها. وقد حققت كل الدول الأعضاء، ربما باستثناء روسيا، نموًا مستديمًا، أكثر من معظم البلدان الأخرى، ذلك ما عدا فترة أزمة كوفيد 19. وربما كان أهم الإشارات إلى أهمية “بريكس” للاقتصاد العالمي نصيبها من احتياطيات العملة الأجنبية. وتوجد أربع دول أعضاء في المجموعة من بين أكبر عشر دول تحتفظ باحتياطيات تبلغ نحو 40% من مجموع احتياطيات العالم. وتملك الصين وحدها 2.4 تريليون دولار، كما تعتبر ثاني أكبر دائن بعد اليابان. كما تمثل مجموعة بريكس أكبر اقتصادات خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادي الأغنياء بالنسبة للاقتصادات الناشئة. وبالإضافة إلى الأهمية الاقتصادية للمجموعة، توجد الأهمية الديموغرافية، حيث يعيش بالدول الخمس نصف سكان العالم، ويوازي الناتج الاجمالي المحلي للدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة (13.6 تريليون دولار) ويبلغ مجموع احتياطي النقد الأجنبي لدول المنظمة أربعة تريليونات دولار.

الجدير بالذكر، أن بريكس ليس لديها سكرتارية أو ميثاق. ومنذ تأسيسها، تقوم الدولة التي تترأس المجموعة بتنظيم القمة التي تستضيفها، ويتم التنسيق على اختيار الدولة التي ستعقد القمة المقبلة بعد نهاية كل قمة، حيث تُعقد القمم بشكل سنوي. كما تختلف مجموعة بريكس كثيرًا عن بقية أشكال التجمعات والتحالفات والمنظمات التي شهدتها الساحة الدولية من قبل، فهذه الدول الخمس بينها رابط ثقافي مهم، وهو أنها لا تنتمي إلى “دائرة الحضارة الغربية”، بل تشكل مزيجًا متميزًا من حضارات مختلفة، حيث قمة الحضارة الشرقية العريقة؛ الهندوسية في الهند والبوذية في الصين، والحضارة السلافية الأرثوذكسية المتميزة عن الشرق والغرب معًا في روسيا، والحضارة الغربية اللاتينية في البرازيل، التي يتميز شعبها بثقافة وفنون متميزة كثيرًا، حتى عن الدول المحيطة بها، والحضارة الأفريقية في جنوب أفريقيا. لكن المؤكد أن الرابط السياسي الذي يربط هذه الدول الخمس، والذي على أساسه نشأت هذه المجموعة، هو رفض الهيمنة الغربية على الاقتصاد والسياسة العالمية، هذه الهيمنة التي تسببت في إغراق الاقتصاد العالمي في أزمات، يعاني الكثير للخروج منها، أنها لا يربطها نطاق جغرافي أو إقليمي. لذا يُمكن أن نسبغ عليها مصطلح المنظمة العابرة للقارات، أو بالأحرى المنظمة المرنة.

إجمالًا، يهدف تكتل بريكس إلى تقديم المساعدة المالية للدول الأعضاء، وغير الأعضاء، وتحقيق التنمية والتعاون، ودعم المشاريع والبنية التحتية، وتحقيق التكامل الاقتصادي للدول الأعضاء. كما تتمثل الأهداف الحقيقية لـ BRICS في عدة أمور منها ما يلي:

  1. إقامة نظام متعدد الأقطاب: منافسة مجموعة السبع التي تمثل 60% من الثروة العالمية، فيما تمثل دول بريكس 40% من مساحة العالم، حيث إنها تضم أكبر خمس دول في العالم من حيث المساحة. كما ارتكزت فكرة تأسيس مجموعة بريكس على تحقيق التوازن الدولي والخروج من سيطرة الغرب الاقتصادية، التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في المجالات كافة، إذ يعد أحد أهداف إنشاء التكتل إقامة نظام عالمي مُتعدد الأقطاب، وهو المطلب الذي تصاعدت وتيرته في الفترة الأخيرة، لتبدي عدة دول رغبتها في الانضمام إلى المجموعة. وقد أخذت “بريكس” اهتمامًا أكبر من السابق بعد الحرب الأوكرانية، والتشتت الحاصل في النظام العالمي، والاتجاه نحو تكتلات جيو-سياسية وجيو-اقتصادية أو جيو-استراتيجية. وبرزت أهمية “بريكس” خصوصًا بعد الاجتماع قبل الأخير الذي ضم تقريبًا عشرين دولة. وأصبحت هذه المجموعة تضاهي وتوازي منظمات، مثل مجموعتي السبع والعشرين”.
  2. دعم السلام وتحقيق التنمية: تهدف المجموعة إلى التعاون فيما بينها، ودعم السلام والأمن والتنمية الاقتصادية في العالم، خصوصًا أنها تضم فيما بينها الصين، التي تعد أكبر اقتصاد في العالم، والهند، وهي ثالث اقتصاد في العالم، ثم روسيا، التي هي أكبر مصدر للطاقة في العالم. كما تصبو دول المجموعة إلى خلق قطب اقتصادي آخر في العالم بدلًا من القطب الواحد، وخلق حالة من التوازن العالمي أمام هيمنة الاقتصاد الأمريكي والدولار على الاقتصاد العالمي، يعزز ذلك أن هذه المجموعة، من حيث الصناعات، ربما هي أقوى من مجموعة السبع، علاوة على قوة اقتصادات تلك الدول من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وتأتي ضمن العشر الكبار في العالم. كما تؤدي هذه المجموعة دورًا في تحييد أو تقليل تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا مؤخرًا، بعد أن رفضت الانضمام للعقوبات الاقتصادية، وبقيت تتعامل مع موسكو، خصوصًا الهند والصين، في مجال النفط والغاز.
  3. تعديل قواعد العولمة: التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، وترى دول المجموعة ضرورة العمل على تعديل قواعد العولمة لتستفيد منها كل دول العالم، وليس الولايات المتحدة وحلفاءها فقط. وما يساعد دول المجموعة على تحقيق هذا الهدف، هو أن العالم يتجه نحو نوع من الشرذمة في النظام العالمي، والتشتت في ظل نهاية العولمة وتحولها إلى نوع جديد يتبلور عبر تكتلات إقليمية، مثل تكتل آسيا الجنوبية، وتكتل أوروبا، وأمريكا الشمالية، والاتحاد الأفريقي.
  4. تحقيق المصالح الجيواستراتيجية: حيث تُسهم دول المجموعة بـ 23% من الاقتصاد العالمي، و18% من تجارة السلع، و25% من الاستثمار الأجنبي، وتعد قوة مهمة لا يمكن تجاهلها في العالم. وفي هذا الإطار تحاول دول مجموعة بريكس، خاصة بعد الأزمة الأوكرانية، تفعيل وتبادل العملات المحلية بين دولها من أجل كسر شوكة الدولار أو التفوق عليه، وهي في ذلك تعول على سعر النفط ومبيعات البترول في محاولة لتحقيق أحلامها. وفي الواقع، فإن محاولات من مجموعة بريكس لأن تكون لديها عملة موحدة للتخلص من هيمنة الدولار الأمريكي، ستؤثر على المسار الاقتصادي العالمي. وهناك توقعات بأن تنتج بلدان مجموعة بريكس 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030، على الرغم أن مجموعة دول مجموعة بريكس ليست سوقًا مشتركة للتجارة الحرة. وقد نُوقِشَ موضوع “منطقة التجارة الحرة” المحتملة داخل مجموعة بريكس على أعلى المستويات على الأقل منذ عام 2015، عندما ذكر نائب وزير التنمية الاقتصادية الروسي آنذاك أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يكون ممكنًا في غضون 5 سنوات، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن. ويمكن القول إن “بريكس” تتبنى التجارة التفضيلية كباكورة لتحقيق أهداف التكامل الاقتصادي، وذلك من خلال العمل على تخفيض الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء.

ثالثًا، لماذا تسعى الدول للانضمام لـ “بريكس”؟:

بداية، هناك الكثير من الدول، من مختلف قارات العالم، تسعى الآن إلى الانضمام لـ “بريكس”، منها دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر والجزائر وإيران والأرجنتين وغيرها، ولكل دولة نقاط قوة ونقاط ضعف، لكن يظهر أن قادة بريكس يبحثون عن تعزيز المجموعة بغض النظر عن القوة الاستراتيجية للأعضاء الجدد من أجل تحقيق تكتل كبير من القطبية الاقتصادية. في الواقع، تهدف الدول التي تسعى إلى الانضمام إلى “بريكس” إلى تحقيق عدد من الأهداف، والتي من بينها:

أ. الحصول على التمويل وجذب فرص الاستثمار

ب. مواجهة الأزمات العالمية

ج. عصر التكتلات الكبرى. التوازن والتنوع في العلاقات

أهم التحديات التي تواجه “بريكس”:

على الرغم من تلك الفرص الواعدة التي يُعززها نهم العديد من الاقتصادات للابتعاد عن الدولار، فإن المجموعة لا تزال تحدها مجموعة من التحديات والعقبات، سواء الداخلية (المرتبطة بمدى تجانس الأعضاء، ومدى اتفاقهم على الأهداف الرئيسية والأولويات)، أو التحديات الخارجية، المرتبطة بصعوبات مقارعة الدولار المتغلغل في صلب النظام الدولي، الذي يهيمن على مفاصل التجارة الدولية، وبالتالي فإن فرص هز النظام القائمة على المدى المنظور تبدو ضعيفة بالنسبة لـ”بريكس”، التي تحتاج إلى مزيد من العمل لبلوغ تحقيق هدفها المنشود على المدى الطويل.

مواطن الضعف التي قد تكون كوابح بوجه تحقيق أهداف بريكس:

(1) محدودية الموارد: تعاني دول بريكس في العموم مشكلة الموارد المحدودة، التي تواجه اقتصاداتها، إذ تواجه الهند والصين نقصًا في المياه والطاقة، والتي تتزامن مع ثبات نمو إنتاج المحاصيل الزراعية، وهو ما يثير المخاوف من تفاقم الوضع الغذائي في الأعوام القادمة، على الرغم من أن الدولتين لديهما نوع ما من الاكتفاء الذاتي في الغذاء في الوقت الحاضر.

(2) غياب التنسيق: ما زالت بعض السياسات التجارية غير منسقة بين دول المجموعة، فهناك سياسات إغراق متبعة، منها إغراق السوق البرازيلية بالأحذية الصينية، وجنوب أفريقيا بالملابس الصينية، حيث واجهت صناعة النسيج ضربة كبيرة في جنوب أفريقيا بسبب المنتجات الصينية، كما فرضت الهند رسومًا على بعض السلع الصينية، وحدث من قبل خلاف بين بكين وموسكو حول تسعير النفط الروسي.

(3) غياب الروابط الجغرافية والثقافية: من المشاكل أيضًا التي تواجهها المجموعة أنها تجمعٌ أو تحالف يختلف بشكل كبير عن بقية التجمعات التي شهدتها الساحة الدولية، حيث لا يوجد رابط سياسي أو ثقافي واضح، كما لا يربطها رابط جغرافي أو إقليمي، بل تنتمي إلى أربع قارات مختلفة.

(4) التباين الاقتصادي: تعتبر هذه المجموعة غير متوازنة اقتصاديًا، فالتباين واضح لصالح الصين، سواء في الإنتاج أو التجارة الخارجية أو الاستثمار، بينما في الجانب السياسي فهو لصالح روسيا الاتحادية. لذلك يصنف البعض “بريكس” على أنها جسد رأسه روسيا، وجسده الصين، والدول الأخرى الأطراف. وأن روسيا تحاول الهيمنة على هذه المجموعة وتوجهها حسب مصالحها وتطلعاتها على الساحة الدولية.

(5) الصراع المتزايد مع الولايات المتحدة: تعاني دول المجموعة حزمة من المشاكل الخارجية، منها الحرب الأوكرانية، حيث لم تستطع موسكو حسم الصراع لصالحها، على الرغم من مرور ما يقرب من عام ونيف في ظل اصطفاف الغرب مع كييف، وتزويدها بكميات هائلة من الأسلحة الحديثة. فضلًا عن وصول الصراع بين بكين وواشنطن إلى حافة الهاوية، حيث تعمل الولايات المتحدة جاهدة على تطويق الصين، والحد من نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ولتحقيق ذلك عملت واشنطن على إقامة شراكات استراتيجية مع الدول المجاورة لبكين، وإقامة تحالفات “إيكواس” و “العيون الخمس”.

(6) الصراعات البينية بين دول المجموعة: تعاني بعض دول المجموعة تفجر بعض الصراعات فيما بينها، مثل النزاع الحدودي بين الهند والصين، فضلًا عن التنافس الاقتصادي والاستراتيجي بينهما، كما أن هناك الكثير من المخاطر السياسية المحتملة لانضمام دول جديدة، مثل إيران وكذلك الأرجنتين، التي تقدمت بالفعل بطلب انضمام، دعمته الصين وروسيا، بوصفها عضوًا ناطقًا بالإسبانية من أمريكا اللاتينية. وفضلًا عن ذلك، كان طلب الأرجنتين للعضوية في “بريكس” محل انقسام داخلي، ما بين وجهة نظر مؤيدة تؤكد أهمية الروابط التجارية والمالية مع الصين والشراكة معها في “مبادرة الحزام والطريق”، والتبادل التجاري المتنامي مع الهند، والمزايا التي يمكن للأرجنتين الحصول عليها من قبولها عضوًا في “بنك التنمية الجديد”، ووجهة نظر أخرى رافضة باعتبار أن هذا الانضمام ستكون له عواقب سلبية على علاقات الأرجنتين بالولايات المتحدة وأوروبا.

المسارات المستقبلية لمجموعة البريكس

يتخذ مستقبل المجموعة عدة مسارات متنوعة هي:

المسار الأول: التحول إلى قطب دولي: وهو السيناريو الأكثر تفاؤلًا، حيث تنجح دول المجموعة في التحول إلى فاعل دولي قوي. ويقوم هذا السيناريو على افتراض قدرة دول “بريكس” على تجاوز خلافاتها البينية، خاصة في الشؤون الاستراتيجية والتقاء مشاريع كل من هذه الدول حول استراتيجية تغيير بنية النظام الدولي الراهن، والانتقال إلى النظام الدولي المتعدد الأقطاب الذي ينهي عهد الهيمنة الأمريكية. كما يقوم هذا السيناريو أيضًا على انضمام عدد من الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا للمجموعة، مثل الإمارات والسعودية، الأمر الذي يزيد القوى الاقتصادية والسياسية لـ “بريكس”، ويوفر لها الأموال اللازمة لتطوير المؤسسات والمشاريع الاقتصادية والمالية للمجموعة. وتنجح دول المجموعة في عقد الصفقات وتبادل إسناد القروض عبر تأسيس آليات نقدية ثنائية أو بين الدول الخمس، وتأسيس قاعدة تعاون استثمارية وتجارية مشتركة، وتأسيس منظومة تعاون نقدية متعددة المستويات بين دول المجموعة، وبذلك يمكن من خلال إطار التعاون المالي بين دول المجموعة دفع احتساب التجارة بالعملة المحلية، والتوسيع المستمر لنطاق ومجال تبادل اعتماد العملة المحلية بالعلاقات الثنائية أو متعددة الأطراف بين الدول الخمس، الأمر الذي سيسهل المبادلات التجارية والاستثمار بين دول المجموعة، ويدفع بالتعاون والاستثمار المشترك بينها.

المسار الثاني: استمرار الوضع الراهن: وهو السيناريو الوسط، ويفترض هذا السيناريو استمرار الوضع الدولي الراهن للمجموعة كما هو عليه. فقد تنجح دول المجموعة في ضم أعضاء جدد، لكن من دون أن تتحول إلى قطب دولي، أو تحد من دور الولايات المتحدة العالمي، وربما يظل دورها في التصدي والتنديد بالسياسات الأمريكية. كما تظل المؤسسات المالية التي أنشأتها دول المجموعة غير فاعلة بالمستوى المرغوب فيه. وفي ظل هذا السيناريو قد تزداد قدرة المجموعة على التأثير على جدول الأعمال العالمي، ولكنها تفشل في المساهمة في فرض قضايا محددة على الأجندة الدولية.

المسار الثالث: الاحتواء وتأكيد الهيمنة الأمريكية: وهو السيناريو الأكثر تشاؤمًا، حيث تفشل دول المجموعة في التحول إلى فاعل دولي قوي. ويفترض هذا السيناريو، غلبة التحديات التي تواجه “بريكس” على الفرص التي تتمتع بها دوله، وهذا ما سيقود إلى غلبة الخلافات البيئية، والابتعاد بين دوله، وبالتالي فشل مشروع “بريكس” في لعب دور دولي مؤثر، والمساهمة الفاعلة في تغيير شكل النظام الدولي الراهن. وفي ظل هذه السيناريو تنجح الولايات المتحدة في استقطاب بعض دول المجموعة، وتفشل روسيا في الحرب الأوكرانية، وتقبل بالشروط الغربية لعملية السلام، وتنضم أوكرانيا مع غيرها من دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، فضلًا عن اتساع الخلافات الهندية الصينية. وفي ظل هذا السيناريو أيضًا، تنجح الولايات المتحدة في احتواء واستنزاف القدرات الصينية. أخيرًا، يمكننا القول إن السيناريو الأكثر تحققًا على المدى القريب، هو السيناريو الثاني، حيث ستعمل دول المجموعة جاهدة على توسيع التعاون المشترك، وتوسيع قاعدة العضوية، ولكن لن تصل إلى حد أن تكون قطبًا دوليًا فاعلًا يستطيع فرض أجندته على باقي دول العالم.