حلمي النمنم: محمد فايق.. ألغاز السياسة والتاريخ؟
فى مايو سنة ٢٠٢١، كتبت هنا- المصري اليوم- سلسلة مقالات عن أحداث مايو سنة 1971، التي أطلق عليها الرئيس الراحل أنور السادات «ثورة التصحيح». كان مرور نصف القرن على وقوعها مغريًا لإعادة قراءة وتأمل الوقائع، خاصةً أن الحديث عن تفاصيلها كان كثيرًا فى عدد من الكتابات الأجنبية والمعلومات حولها غزيرة، بينما هي شحيحة عندنا، وكل ما بقي عنها مجموعة «إفيهات ونكات» بين قدامى الصحفيين، حتى الكُتاب، الذين كانوا «ساداتيين» تجاهلوها، بل تجاهلوا السادات نفسه مع مرور الأيام. ليس لدينا عنها سوى كتاب موسى صبري «وثائق ١٥ مايو» وفصل مركز فى كتاب هيكل «الطريق إلى رمضان»، وهما- موسى وهيكل- يتبنيان وجهة نظر السادات، مع فارق التناول وموقع كل منهما. كان هيكل يبرئ نفسه من أن يُحسب على هذه المجموعة، وكان موسى مندفعًا بشدة إلى تبنى كل ما يراه السادات، وهناك كتاب مضاد أصدره الأستاذ عبد الله إمام يتبنى وجهة النظر الأخرى، وفى زحام الحياة وتدافع الأحداث والوقائع الجديدة، توقفت طباعة هذه الكتب، عدا كتاب هيكل، الذي صدرت منه طبعة مزورة سنة ٢٠١١
أخيراً.. وزير الإعلام الأسبق محمد فائق ينشر مذكراته تحت عنوان: “مسيرة تحرر”.
واقتضى الأمر أن أستفسر وأسأل عن بعض التفاصيل من أولئك الذين عايشوا تلك الأيام، فضلًا عن أن يكونوا طرفًا فيها. كان أبرز هؤلاء الأستاذ محمد فائق، الذي لم يبخل عن أى استفسار، وفى كل ما سمعته منه كان يقول: «هذا ما رأيته بنفسى.. هذا ما لدىَّ من معلومات.. أو هذا ما أعرفه»، ثم يضيف: «ربما تكون هناك جوانب أخرى، لا علم لى بها»، وذات مرة سألته: ألم يَحِن الحين لكتابة مذكراتك؟، فضحك بطريقته الودودة والهادئة: أقوم بكتابتها الآن. الأسبوع الماضي، وجدت السيرة (أي سيرة الأستاذ محمد فائق) مطروحة فى مكتبة تنمية بجوار مقر وكالة أنباء الشرق الأوسط، بعنوان «مسيرة تحرر»، وتقع فى ٣٥٢ صفحة، وصدرت المسيرة عن مركز دراسات الوحدة العربية. «مسيرة تحرر» يمكن قراءتها من عدة زوايا. مثلًا، ما يرد فيها من وقائع ومواقف سياسية وتاريخية، وهي فى ذلك غنية جدًّا، وتقدم الجديد، هذا رجل عرف وتعامل مع كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك، واقترب منهم جدًّا جدًّا. كان عبد الناصر مَن نصحه أن يتواصل مع السادات ويضعه فى الصورة، كان ذلك مساء ٩ يونيو 1967، كان «فايق» وزيرًا للإرشاد، وكان السادات رئيسًا لمجلس الأمة، هو أيضًا تزامل فى الكلية الحربية- السنة الأولى- مع حسنى مبارك، ثم عملا معًا فى قاعدة حلوان الجوية، قبل يوليو 1952، أما عبد الناصر فقد كان أستاذه سنة 1951 فى مدرسة الإدارة الحربية.
الوزير محمد فائق: السيدة جيهان السادات كانت ضد محاكمات ثورة التصحيح مايو 1971.
يفاجئنا محمد فائق بأن السيدة جيهان السادات كانت ضد رغبة زوجها فى محاكمة وسجن «مجموعة ١٥ مايو»، وقالت له بالحرف الواحد فى جلسة بالمنزل، طبقًا لما نقله أشرف مروان، حيث كان حاضرًا: «لا يصح يا أنور تفعل ذلك مع هؤلاء، فهم كبراء البلد»، لكنه أهمل نصحها، وتثبت الأيام أنها كانت أبعد نظرًا، ذلك أن محاكمات ١٥ مايو أدت إلى اهتزاز هيبة جهاز الدولة ورجالها، وكان السادات أول مَن تحمل فاتورة ذلك طوال فترة حكمه. أنهت تلك المحاكمات وما صاحبها من تجريس كبار رجال الدولة وفضحهم عهد المسؤول «رجل الدولة» إلى عهد «الموظف الكبير»، وخلقت تصورًا لدى صغار القوم بأن المسؤول لا يصح أن يغادر موقعه دون تشهير وتجريس. عادة مملوكية وعثمانلية بذيئة، لا يليق أن تكون فى دولة حديثة. الطبيعي أن يغادر _بمنطق التداول_ أي مسؤول موقعه يومًا، وبمنطق أنه: “من حق الرئيس أن يختار بنفسه معاونيه الذين يراهم أقدر على تحقيق سياساته”. ولما أجرت النيابة العامة التحقيق معهم انتهت إلى أنه «لا يوجد اتفاق جنائي، ولا توجد شبهة السعي أو محاولة (قلب النظام)»، واتجه النائب العام إلى حفظ التحقيق، والإفراج عنهم، لكن ظهرت بدائل أخرى. محكمة استثنائية. كان أحد أعضائها السيد “حسن التهامي”، وكان الرئيس مُصِرًّا على صدور حكم الإعدام فى حق أربعة، وطمأن أعضاء المحكمة إلى أنه سيخفف الحكم بنفسه.
الفريق محمد فوزي “المُفترى عليه”.
كان أحد الأربعة الفريق محمد فوزي. وبعيدًا عن دور الفريق فوزي فى إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة يونيو ٦٧، وأنه قائد حرب الاستنزاف العظيمة، والتى انتهت بإقامة حائط الصواريخ، فإنه كان شديد الإخلاص للسادات وأشد مَن سانده. ليلة وفاة عبد الناصر، شاع فى الدائرة الضيقة أن المخابرات الحربية رصدت أن عددًا من قادة القوات المسلحة لا يفضلون أن يكون السادات رئيسًا، ويحبذون اختيار زكريا محيي الدين، وهذا ما جعل هيكل يركز على صورة زكريا فى جنازة عبد الناصر، وذكر سامى شرف، فى حوار مع زميلنا الأستاذ إبراهيم عبدالعزيز، أن اتصالًا وصله من رئيس أركان حرب سلاح المدرعات، العقيد محمد عبدالحليم أبو غزالة، (المشير فيما بعد)، يرفض تولى السادات الرئاسة، وأنه حفظ سر «أبو غزالة».
السادات و”مراجعة للنفس” بشأن “الفريق فوزي”.
رجال الدولة احترموا الدستور الذي ينص على أن يصبح النائب رئيسًا إلى حين إجراء استفتاء، هنا تدخل الفريق فوزي ليُذيب الجليد بين القادة والرئيس الجديد، فدعاه إلى زيارة عدد من المواقع ليقدمه إلى القادة، ونجح فى ذلك. كان السادات يقول للقادة فى زياراته: إن شاء الله ارجّع لكم سيناء دون حرب. وكان ذلك يثير التساؤلات لديهم، لكن القائد العام يهدئهم، ويصر على تواصل التدريب والاستعداد لحرب تحرير الأرض، ثم ها هو يتهمه، ويطالب بإعدامه!للتاريخ صحح السادات هذا الموقف بعد حرب أكتوبر، وأشاد بالفريق فوزي، أكثر من مرة، فى خطاب عام.
هنا اعترض القضاء العسكري، ليس فقط دفاعًا عن الفريق فوزي، بل عن أبجديات المنطق والقانون، إذ لا يستقيم أن يحاكم قائد عام بتهمة التخطيط للسيطرة على الحكم بالقوة، ويكون هو المتهم الوحيد. تنفيذ مثل هذه العملية يقتضي وجود شركاء وأدوات للتنفيذ معه من القادة والضباط، مجموعات بأكملها، وحيث إنه لا شركاء له، فلا تصدق التهمة.
فى المسيرة أيضًا أن وزير الداخلية، شعراوي جمعة، و“سامي شرف”، مدير مكتب الرئيس، كانا الأشد إخلاصًا للسادات، حتى إقالة الأول ثم استقالة الثاني، وأن شعراوي حين أُبلغ بقرار إقالته اتصل بالوزير الجديد ممدوح سالم وهنأه. وقد اتصل فوزي عبد الحافظ برئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط، محمد عبد الجواد، وطلب بث خبر إقالة وزير الداخلية.
السجينان (صلاح نصر ومحمد فائق)، “سجن واحد” و”موقف مختلف”.
رئيس التحرير أحاط وزير الإعلام علمًا بالخبر قبل البث، هنا شعر (وزير الإعلام) أن هناك تجاوزًا لاختصاصه كوزير، فتقدم باستقالته. عثر المحققون على مسودة الاستقالة فى البيت أثناء التفتيش، كانت تلك دليل براءته من تهمة التدبير والتآمر مع آخرين، رغم ذلك قضى عشر سنوات كاملة فى السجن. فى منتصف المدة وصلته رسالة من الرئيس بالعفو مع نصف المدة، شكر الرئيس على ذلك، لكن العفو كان مشروطًا بأن يكتب رسالة اعتذار للرئيس عما فعل، وعن أنه استجاب لآخرين ورّطوه معهم. رفض العرض تمامًا، قيل له: لقد كتب صلاح نصر اعتذاره للرئيس، وها هو ينعم بالحرية ورغد العيش، كان رده: “أن صلاح نصر قال كلامًا عنيفًا وشتائم فى حق الرئيس وأسرته”، لكنه هو لم يفعل ذلك، لذا فلا اعتذار، وغضب الرئيس جدًّا. لحظة التماسك النفسي تجعل السجين أكثر قوة وتماسكًا.
مبارك “الرئيس” وصديقه القديم “محمد فائق“.
بعد الخروج من السجن، استعان به زميله، صديقه القديم، الذي صار رئيس الجمهورية، (الرئيس مبارك)، فى عدد من المهام الدبلوماسية لتلطيف الأجواء مع العالم العربي، كانت البداية فى سوريا والرئيس حافظ الأسد. كان الرئيس مبارك يريد إعادة العلاقات، وكان الأسد راغبًا فى ذلك، لكن شريطة أن تتخلى مصر عن كامب ديفيد. الأسد قال إنه مستعد إذا فعل مبارك ذلك أن يسلمه شخصيًّا قيادة الجيش السوري أو يختار مبارك قائدًا من عنده للجيش السوري، وهناك عرف أن اتصالات السادات لم تنقطع يومًا مع حافظ الأسد، وأنهم طرحوا عليه نفس الطلب، وأن الاتحاد السوفيتي على استعداد لتقديم أحدث الأسلحة لمصر، حتى دون طلب، وأنه أى حافظ الأسد قادر على أن يوفر للسادات من الدول العربية الغنية مليارات الدولارات للمساعدة فى حل أزماته الاقتصادية، وكان رد السادات، كما سمعه «فائق» من حافظ الأسد: «أمهلونى حتى يوم ٢٥ إبريل ١٩٨٢، بعدها سوف (أقلب الطاولة عليهم كلهم)».
صحيفة بريطانية شهيرة في 1980: «يكفى السادات عشر سنوات من الحكم»؟!.
فهل تم تسريب هذا الرد فى حينه إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، ليس تآمرًا بالضرورة، ولكن بالحكي والثرثرة فى دوائر البعث السوري، لذا وجدنا تقريرًا أمريكيًّا، رفيع المستوى، يحذر وقتها من أن السادات متقلب، ولا أمان له، وأنه يقول لوسائل الإعلام شيئًا، ثم يفعل العكس، وأنه يمكن أن يتراجع عن معاهدة السلام، ويقوم بإلغائها فور تحرير سيناء كاملة، وهل كان ذلك سبب افتعال مشكلة طابا فيما بعد؟!، هل كان ذلك سببًا فى أن الصحافة البريطانية والأمريكية «قلبت الطاولة» على السادات منذ نهايات سنة ١٩٨٠، إلى حد أن صحيفة بريطانية شهيرة قالت وقتها: «يكفى السادات عشر سنوات من الحكم»؟!.
نكمل الأسبوع القادم.
المصدر صحيفة المصري اليوم الأحد 03-09-2023
تحرير واخراج: مركز الفارابي