الدكتورة فاطمة مصطفى في حوار مع “الفارابي”: الوضع الراهن للأسرة السودانية رهيب ولم يحدث في تاريخ السودان. (الجزء الثاني)
حوار أجرته الدكتورة صباح منسي
تحرير وإخراج د. مدحت حماد
“استاذة فاطمة اسمحي لي الآن أن ننتقل إلى المحور الثاني فى حوارنا، ونتحدث عن وضع الأسرة السودانية فى ظل هذه الحرب الدموية المؤسفة، وكيف تأثرت الأسرة السودانية بتلك الحرب؟
فكما نعلم جميعا أن الأسرة بصفة عامة، والمرأة والاطفال بصفة خاصة هم الضحايا في كل الحروب بداية من فقد الإبن، الزوج، الأخ، الأب، وصولاً إلى الاعتداءات الجنسية.
سؤالنا الأول في هذا المحور: “ما هو الواقع الحالي للأسرة السودانية في ظل انسداد أفق حل الصراع السوادني وإعلان طرفي الصراع عن إستعدادهم للإستمرار في الحرب مائة عام أخرى!!؟
تقريبًا توفي حوالي 70 بالمئة من مرضي الغسيل الكلوي، والنساء الحوامل يعانون.
ج: “الواقع الحقيقي للأسرة السودانية، بالذات النساء والاطفال، هو واقع مرير ومؤسف لأبعد الحدود، لأن الحرب وأثارها شديد جدًا عليهم، خاصة الموت الجماعي الذي حصد الكثير من المدنيين فى عمليات القصف المتبادل. لكني مع ذلك أقول: “إن الموت أرحم من استشهدوا الكارثة الكبرى في من ظلوا على قيد الحياة وقد تقطعت أشلاؤهم، وحصلت لهم اعاقات كبيرة في ظل غياب كامل للرعاية الصحية والطبية، والمتضرر بشكل كبير هي المرأة الأم والإبنة والزوجة، المطلوب منها رعاية تلك الحالات وسط القصف وانعدام أى نوع من الرعاية الطبية.
النازحون يجدون صعوبة كبيرة لقلة الموارد المادية التي تساعدهم على العيش في ظل تلك الظروف الصعبة وخروج الأولاد من التعليم لمده سنة ونصف، وغير معروف متي سينتهي هذا الوضع، لكن المأساة الحقيقة أيضا أن الأسر في مناطق النزوح بدأت تتزاحم في أماكن غير مُهيئة لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة بكل حالاتهم، فكثير من السودانيين المصابين بأمراض خطيرة توفي منهم عدد كبير لعدم وجود الرعاية الطبية والصحية, تقريبا توفي حوالي 70 بالمئة من مرضي الغسيل الكلوي لقلة الإمكانيات وإذا وجدت تكون في حالة رديئة. أيضا النساء الحوامل يعانون بشدة لأن الموارد غير كافية وفي بعض المناطق من الكثافة وقلة الموارد ينامون على الأرض في ظل اجواء بيئية صعبة من الامطار والسيول.
قمنا بمبادرة مع مركز شباب لوضع 20 سرير للنساء الحوامل فى أحد مراكز الاغاثية من خلال المعونات الشخصية، وبموارد ضعيفة نحاول مساعدة هؤلاء النساء. فكثير من الحاجات تأتي على شكل تبرعات في حدود الظروف الصعبة جدًا على الجميع، فالجميع يعاني من سنة ونصف، قلّة الموارد. حتى الأماكن التي يتم النزوح إليها ولا يوجد فيها حرب، تعاني من قلّة الإمكانيات والموارد، مما يُصعب من الأمر بشكل كبير، أما بالنسبة للعنف الجنسي، فللأسف أقول: إن هذه الحرب قامت على “أجساد النساء”
لحظة من فضلك: اسمحي لي أن أتوقف أمام قولك: (إن هذه الحرب قامت على أجساد النساء)،
فجرائم الاغتصاب للنساء وبصفة خاصة الفتيات القاصرات هي من الجرائم التي يرفضها بشدة الرأي العام العالمي، وتجرمها القوانين والمواثيق الدولية، لذلك وجدنا كثير من الدول التي يحدث فيها صراعات مثل أوكرانيا يمتنع الجيش الروسي عن إرتكاب تلك الجرائم والانتهاكات، بينما الوضع داخل السودان مختلف تمامًا،
السؤال هنا هو: ما هي الاسباب والدوافع لارتكاب مثل هذه الجرائمة البشعة؟ وما تفسير ذلك من وجه نظر حضرتك؟”
لقد وصلت الأمور فى مناطق كثيرة إلى حد مساومة الفتيات والنساء على شرفهن مقابل الحصول على الطعام!
ج: للأسف الشديد أكرر: إن هذه الحرب جرت على أجساد النساء! فالعنف الجنسي والاغتصاب كلها جرائم موجه ضد المرأة، والشيئ الذي من المفجع ومن الصعب تخيله ونحن في القرن 21، أن تقام أسواق لبيع النساء المخطوفة من اماكن كثيرة كأسواق للجواري وكأننا عدنا إلى “عصور الجاهلية”.
كثير من التقارير الخاصة بالمنظمات النسوية تكشف أن عمليات الاغتصاب والانتهاكات والاعتداءات الجنسية انتشرت بصورة وبائية فى السودان للأسف الشديد. إن اي منطقة يشتعل فيها القتال يكون هناك انتهاكات كبيرة خصوصا للفتيات بصورة وبأعداد كبيرة ما أقدر اعطيك أعدادًا لها، لأن الأعداد غير معروفة لأن الحرب مازالت مستمرة، لهذا لا يوجد رصد للأعداد، ولكن هناك انتهاكات جنسية بأعداد كبيرة ترصدها كثير من المنظمات النسوية فهناك منظمات ترصد تلك الانتهاكات من خلال رصد الواقع والتحدث مع بعض الحالات التي تستطيع أن تعلن عن تعرضهن لهذا الفعل. حقيقي الوضع غير إنساني، وبالفعل هناك أماكن أخري مثل أوكرانيا ما حصل بها كده، بالتالي فكلنا في حالة استغراب شديد!! لحدوث كل هذه الانتهاكات الاجرامية البشعة، هناك كلام عن وجود مرتزقة أجانب ترتكب هذه الجريمة، لكن المؤكد أن كثيرًا من القبائل السودانية للأسف تورطت فى ارتكاب هذه الجريمة كنوع من الإنتقام والإنتقام المتبادل، الذي له أسباب تاريخية، حيث يُدعى كل طرف أنه تعرّض للتهميش والتقليل من شأنه من جانب الطرف الآخر، فنشأ نوع من الصراع العنصري البغيض وجاءت جريمة اغتصاب الفتيات والسيدات بصورة ممنهجة ومنظمة ومتعمدة التي ترتكبها الميليشيات المسلحة لتفضح الروح العنصرية البغيضة التي تريد الحاق العار بالطرف الاخر عبر اغتصاب فتياته وسيداته وبيعهن كجواري فى اسواق العبيد.
وهذا تفكير شيطاني، أتصور أن هدفه أن يستمر الصراع للأبد بين أبناء الشعب السوداني بصورة تضمن استحاله توحده مرة اخرى. لقد كان “للسوشيال ميديا” دورًا كبيرًا فى فضح ارتكاب الميليشيات المسلحة لهذه الجريمة البشعة التي تجرمها كل الأديان السماوية وكل القوانيين والأعراف الدولية وكل المبادئ والقيم الإنسانية، لكن الميلشيات تخلت عن كل ذلك وارتكبت تلك الجريمة البشعة. الكارثة أن الظروف أجبرت الجيش على ضم بعض الميلشيات إلى صفوفه ليتمكن من الصمود فى بعض المناطق،
المواطن السوداني وخصوصًا الفتيات والسيدات هم ضحية هذا الصراع الدموي، ولقد وصلت الأمور فى مناطق كثيرة إلى حد مساومة الفتيات والنساء على شرفهن مقابل الحصول على الطعام وهذا شيء صعب على النفس التحدث فيه.
(اضطررتُ إلى ايقاف الحوار إحتراما لدموع الألم والغضب لضيفتي الفاضلة التي حَمَلَت على عاتقها لفت أنظار العالم إلى حقيقة ما يحدث فى السودان، ربما تتمكن من أن تحرِّك ضمير العالم)
استاذة فاطمة تكمل حديثها..
“الوضع فى السودان ثقيل جدًا على جميع السودانيين، سواء من كأن ولاؤهم للدعم السريع أو الجيش، الذي ضمَّ إلى صفوفه ميلشيات لا تختلف عن الدعم السريع.
خيرات السودان وثرواته تحولت إلى لعنة على الشعب السوداني. أكبر كارثه لحقت بالسودان هي أن كل الخراب والدمار الذي حل به لم تفعله قوى أجنبية، لكن فعله أبناء السودان بعضهم ببعض!! وكل القتل والاغتصاب الذي تعرض ويتعرض له أبناء السودان، لم يحدث بيد قوى أجنبية، لكنه حدث بيد أبناء السودان أنفسهم!! فأبناء السودان هم الضحية والجاني! وما أبشعه من واقع”!
سؤال آخر “استاذة فاطمة هل هناك دور لمنظمات المجتمع المدني السوداني، تحديدًا المنظمات النسوية في مقاومة هذه الانتهاكات الاجرامية والتصدي لها؟ وهل قامت برصد هذه الانتهاكات الإجرامية وايصالها للرأي العالمي لاتخاذ الاجراءات اللازمة للتصدي لتلك الممارسات الشنيعة ومعاقبه مرتكبيها؟”
ج: “المنظمات النسوية السودانية من قبل الحرب لها دور كبير في جميع النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ومنذ اندلاع الحرب هناك عمل كبير لتلك المنظمات في مجال الإغاثة والعون الإنساني ورعاية المرضي والجوعى، بالذات المرضي النساء وخاصة النساء الحوامل والمرضعات.
لا توجد تقارير احصائية دقيقة بحالات الإغتصاب والإنتهاكات الجنسية
لكن فيما يخص الانتهاكات والجرائم الجنسية الحاصلة منذ اندلاع الحرب معظم المنظمات النسوية تعمل في المراقبة وفي رصد الانتهاكات وفي إيواء بعض الناجيات وعمل التأهيل النفسي لهن، وكثير من العمل المنظم مع الأمم المتحدة والمنظمات النسوية الخارجية، فهم يقومون بعملية الرصد وإصدار تقارير تكون هى الأساس الذي تبنى عليه تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية، كما تقوم المنظمات السودانية بالمشاركة فى معالجة ومساعدة الناجيات وتقديم الدعم النفسي والمادي لهن واعادة تأهيلهن واعادة دمجهن فى المجتمع. إنها مهام صعبه جدًا خاصه فى مجتمع عربى مثل المجتمع السوداني، له نظرته الخاصة للإغتصاب، وخاصة أن كل هذا الجهد يحدث تحت القصف وظروف الحرب ويوجد تقارير بإحصائيات لكن ليست بالحقيقة الكاملة الموجودة على أرض الواقع لأن هناك كثير من المناطق المغلقة التي لا تستطيع المنظمات الوصول إليها بسبب الحرب وعمل احصاء دقيق بتقارير مفصلة لعزلة بعض الأماكن وللأسف هناك بعض الأماكن ليس بها اتصالات تليفونية لمعرفة ما يحدث بها، فهذه الارقام ليست كاملة، للأسف الحقيقة غائبة كأرقام نهائية حتي الآن لكنها معروفة ومرصودة كظاهرة منتشرة وللأسف هي ابشع واكثر مما يمكن تصوره”.
سؤالنا قبل الأخير: “في حدود علمكم استاذة فاطمة كرائدة من رواد المجتمع النسوي السوداني ما هو مصير النساء اللاتي تعرضن لعمليات اغتصاب جنسي داخل السودان؟”
ج: “مثلما أوضحت هناك دعم نفسي ومادي تقدمه جمعيات المجتمع المدني لهن، لكن المشكلة أن كثيرًا من الحالات اللاتي تعرضن للإغتصاب تخشي أن تتحدث عن الانتهاكات التي تعرضن لها، نظرًا لطبيعة المجتمع السوداني الذي ترى فيه الأسرة التي تعرضت إحدى فتياتها أو سيداتها للإغتصاب، أن هناك عار لحق بها!! فتبذل الأسرة كل جهدها لإخفاء ذلك العار وهذا طبع أغلب المجتمعات العربية لكن مَن يتم معرفتها تسعى منظمات المجتمع المدني إلى تقديم الدعم لها، وقد تم إنشاء دور خاصة بتلك الحالات لتأهيلهن حتى يستطعن تخطي الأزمة، كثير من المنظمات تسعى لمساعدة تلك الحالات بمحاولة إخراجهن خارج السودان في عمل كبير من المنظمات السودانية ومنظمات الأمم المتحدة الخاصة بالانتهاكات والعنف الجنسي خلال الحرب”.
السؤال الأخير في هذا المحور: ماهي نظرة الأسر لبعضها البعض في هذا الشأن لاسيما الكل واقع تحت ظروف واحده قد يتعرض لها الجميع؟
ج: المجتمع السوداني معقد جدًا، مجتمع محافظ، فكله يكون على حساب المرأة والفتاة. فالحديث في هذا الشأن وخصوصا الانتهاكات الجنسية يكون عارًا، فالبنت التي تعرضت لتلك الحادثة تصبح مصدر عار لأسرتها رغم أنها الضحية والمجني عليها وليس لها أي يد فيما حدث لها، المرأة دائما هي التي تدفع الثمن من جسدها ونفسيتها وكرامتها. لكن عمومًا المصيبة كبيرة وانتشار هذه الجريمة أجبَر الجميع على التكاتف، فكل الأسر والعائلات أصبحت معرضه لذلك الموقف، وهذا الذي يكتشفه السودانيون يومًا بعد يوم منذ إندلاع الحرب، في كثير من المناطق تضم البيوت أكثر من عائلات مع بعضهم البعض خصوصًا في مناطق النازحين للوقوف بعضهم بجانب بعض والشباب يحاولون القيام بعمليات التكافل الاجتماعي، لكن المصيبة كبيرة، وللأسف حتي الأسر المستقبلة للنازحين مواردها محدودة لكنهم يحاولون تقديم يد المساعدة والدعم رغم ذلك”.