مبادرة الدكتور محمد السعيد إدريس: “الهوية الجامعة والمشروع الحضاري”.

عندما يتزعم بينى جانتس زعيم حزب «معسكر الدولة»، أبرز أجنحة المعارضة الإسرائيلية لحكومة اليمين الإسرائيلى المتطرف التى يتزعمها بنيامين نيتانياهو، دعوة الولايات المتحدة الأمريكية للتنسيق مع حليفتها إسرائيل لإزالة احتمال امتلاك إيران سلاحاً نووياً، وعندما يكمل هذه الدعوة بالتأكيد، مخاطباً الولايات المتحدة، بأنه «حان الوقت لتغيير الشرق الأوسط» فإن هذا يعنى ثلاثة أمور محددة.
أولها أن هناك علاقة بين التخلص الإسرائيلى مما يسمونه «الخطر الإيرانى» الذى يشمل ثلاثة جوانب تراها إسرائيل خطرا يتهدد الأمن والوجود الإسرائيلى هى: الخطر النووى والقدرات الصاروخية والعسكرية والمشروع السياسى الإقليمى المعادى لإسرائيل. وبين تغيير الشرق الأوسط، الذى يعنى إسقاط المعادلات الإقليمية الشرق أوسطية الراهنة القائمة على ثلاثة مرتكزات أساسية: العرب وإيران وتركيا إضافة إلى إسرائيل، وفرض نظام إقليمى آخر بديل يقوم بالأساس على فرض السيطرة والهيمنة الإسرائيلية المطلقة على الإقليم بعد القضاء، ونهائيا، على قدرات تلك الأطراف الثلاثة: العرب وإيران وتركيا، وإخراجها، ونهائياً من معادلة التنافس والصراع الإقليمي.
عندما تؤكد المعلومات الاستخباراتية الإسرائيلية والأمريكية أن إسرائيل تهدف إلى إفشال المحادثات الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران للتوصل إلى اتفاق نووى جديد يحقق توازن المصالح بين إيران والولايات المتحدة، وأنها تعد العدة لشن حرب طويلة الأمد على إيران بدعم أمريكى للقضاء نهائياً على حلم إيران فى امتلاك قدرات نووية، كمدخل للقضاء على كل مصادر «الخطر الإيراني»، فهذا يعنى، بالتبعية أن مصر وتركيا ستكونان المستهدفتين من إسرائيل فى مرحلة ما بعد القضاء على الخطر الإيرانى، ولعل فى فتح إسرائيل ما تسميه ملفات التهديد العسكرى المصرى لإسرائيل، ما يؤكد جدية أن مصر أضحت على «طاولة» الاهتمامات العسكرية الإسرائيلية.
ثانياً: أن هدف فرض إسرائيل كقوة إقليمية مسيطرة، ليس مقصورا فقط على اليمين الإسرائيلى المتطرف الذى يحكم إسرائيل الآن بل هو هدف كل الطبقة السياسية والعسكرية الحاكمة فى إسرائيل، لأن هذه الأهداف تعد من أسس المشروع الإسرائيلى.
الأمر الثالث الذى تعنيه تصريحات بينى جانتس أن إسرائيل لن تكون وحدها قادرة على فرض مشروعها الإقليمى الصهيونى فى الشرق الأوسط بل إن نجاح تحقيق هذا المشروع يعتمد بشكل أساسى ومطلق ليس فقط على الدعم الأمريكى المطلق لهذه الأهداف بل جعلها أهدافاً أمريكية بالأساس.مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية الشهيرة التى تصدر عن «المجلس الأمريكى للعلاقات الخارجية» نشرت مؤخرا دراسة تؤكد فيها جدية هذا الشرط الإسرائيلى الخاص بجعل هدف فرض نظام إقليمى شرق أوسطى «صهيوني» هدفا أمريكيا، وتؤكد فيها أيضاً تشككها فى قدرة إسرائيل المنفردة على فرض هذا النظام.
فقد جاء بهذه الدراسة أنه «لا يمكن ترك مسألة النظام الإقليمى لإسرائيل، لأنها لا تملك الموارد ولا هيكلية التحالفات، ولا لعقود من تجارب حقبات ما بعد النزاع لتأمين قيام نظام إقليمى جديد أكثر سلاماً فى الشرق الأوسط». أكثر سلاماً هنا تعنى بالمفهوم الأمريكى، الرضوخ الكامل من دول الشرق الأوسط للزعامة الإسرائيلية، وانتفاء وجود أى قدرة عسكرية أو اقتصادية بالإقليم تكون قادرة على تحدى النفوذ الإسرائيلي.
عند هذا المستوى من التحليل فإننا نكون قد وصلنا إلى أحد الأسباب الأساسية والمحورية للإجابة أسئلة مصيرية تفرض نفسها الآن على مصر وعلى الدول العربية وعلى الجوار الإقليمى الحضارى لوطننا العربى وبالتحديد إيران وتركيا، وأعنى به السبب أو الدور الخارجى الغربى الأوروبى فى مرحلة أولى ثم وبالأساس الدور الأمريكى، ومنظومة العلاقات العربية – الأمريكية، والعلاقات التركية- الأمريكية، أما العلاقات الإيرانية – الأمريكية فهى خارج إطار دراسة هذا السبب نظراً لأن أمريكا قطعت العلاقة مع إيران منذ نجاح الثورة الإسلامية وسقوط نظام الشاه «الحليف» عام 1979.
من أبرز هذه الأسئلة:
لماذا فشلت الدول العربية فى امتلاك مشروع عربى للنهضة قادر على مواجهة المشروع الصهيوني- الغربى، وتحقيق هدف الوحدة العربية أو على الأقل تحقيق درجة متقدمة من درجات التوحد والتكامل العربى السياسى والاقتصادى والعسكري؟
لماذا لم يستطع النظام العربى النهوض بدوره كرافعة لتحقيق حلم الوحدة والنهوض العربي؟ – لماذا لم تستطع الدول العربية، ولم يستطع النظام العربى تأسيس علاقات تعاونية، أو على الأقل تنافسية مع إيران وتركيا بدلاً من العلاقات العدائية؟
لماذا لم تستطع إيران وتركيا تأسيس شراكة إستراتيجية حقيقية تحقق التكامل بين الجارين الحضاريين الإسلاميين بدلا من العلاقات الصراعية التاريخية التى بدأت قبل الإسلام وتجددت، بعد سقوط دولة الخلافة العباسية وحتى الآن؟
هناك أدوار مهمة للغرب الاستعمارى الأوروبى والأمريكى لكل هذا الفشل، وهناك بالطبع أدوار لا تقل أهمية لكيان الاحتلال الإسرائيلى، كانت مسئولة، بدرجة كبيرة، لإفشال كل محاولات التوحد والتقارب والتعاون، بل والنهوض الاقتصادى والعلمى والتكنولوجى العربى، سواء بالنسبة للدول العربية أو بالنسبة لكل من إيران وتركيا التى اختارت أن تكون حليفاً للولايات المتحدة والغرب منذ تأسيس حلف شمال الأطلسى عام 1949 وحتى الآن بدلاً من أن تكون حليفة للعرب أو لإيران.
لكن أهم الأسباب المسئولة عن كل هذا الفشل العربى والإيرانى والتركى هو، بالأساس، أسباب داخلية ذاتية، فى مقدمتها أن هذه الدول فشلت فى التوحد حول «هويات جامعة»: هوية جامعة وطنية قائمة على مبدأ «المواطنة» و”المساواة”، خالية من الصراعات المذهبية بين المسلمين وبعضهم البعض وبين المسلمين والمسيحيين والأديان الأخرى الفرعية.. فلم تتطور هذه الهويات الوطنية بين العرب إلى «هوية عربية جامعة» تقود إلى وحدتهم خالية من الصراعات القطرية، والعنصرية، ولم تستطع، حتى الآن، خوض التطلع إلى «هوية إقليمية جامعة» تنهى الصراع العربي- الإيراني- التركى – الكردي.