رواية “حكاية إعدام جوزيف”. الحلقة الأولى.

0

حكاية إعدام جوزيف. رواية بقلم

د. ضيو مطوك ديينق وول                                                          

 إهداء

إلى أرواح الأبرياء ضحايا الفصل العنصري والصراع الإثني والديني.المؤلف

الفصل الأول

المشهد الأول

يدخل السجان الرقيب «عثمان خاطر آدم» إلى الزنزانة رقم 9، والحزن الشديد يغمره، ليخطر السجين “«جوزيف جون باك»، المعروف بـ«يوسف» والمحكوم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، بأن إدارة السجن سمحت له بزيارة أقربائه، قبل الذهاب إلى حبل المشنقة فجر الغد، وهي الزيارة الأخيرة في حياته.

         تُبلغ هذه الرسالة المؤثرة للمتهم والوقت زهاء الرابعة عصراً، بعد مرور أكثر من ست سنوات في سجن كوبر بالخرطوم بحري، وهو يقضي عقوبته المقدرة بعشر سنوات، لعدم وفائه بدفع الدية البالغة واحد وعشرون ألف جنيه سوداني.

خرج «جوزيف» من زنزانته، برفقة الرقيب عثمان، وسجان آخر، صوب منزل خاله اللواء المتقاعد «مورس تونق» الحاكم الأسبق لإقليم بحر الغزال بالطائف، وهو من الأحياء الراقية بمدينة الخرطوم.

ذهب جوزيف إلى منزل خاله وهو يحلم بشيء واحد فقط في الساعات المتبقية من حياته، يريد أن يخطره بأنه ليس مذنباً ولم يكن هو القاتل، لكنه ضحية المشروع الحضاري الإسلامي في السودان وهو راضٍ بقدر الخالق طالما هو غير مذنب، ولذلك يطلب من خاله اللواء مورس إبلاغ أسرته، خاصة الوالدة تريزا، بهذه الحقيقة.

لكن جوزيف لم يحالفه الحظ في سعيه هذا، حيث لم يجد خاله في المنزل، وهي ورطة كبيرة حسب اعتقاده، تندرج في العوارض التي صاحبت حياته منذ الطفولة، بما في ذلك حدث نهب أبقارهم ونجاته من الموت أثناء الهجوم على قريتهم باتوكطو من قبل المراحيل.

         كان يعتقد بأن  قول الحق سيحرره من الذنوب والخطايا، بما في ذلك اللقاء مع أسامة بن لادن واعتناقه الإسلام. لكن من المؤسف، لم ينجح جوزيف في توصيل رسالته عن حقيقة جريمته لخاله، حيث وجده خارج المنزل في زيارة عائلية لقريبه المريض بمستشفي بحري التعليمي، حسب إفادة ولد خاله في المنزل.

          السجان الآخر الذي كان يرافقهما، نظر لساعته ثم استأذن عثمان وجوزيف للعودة إلى السجن لأن الوقت بات متاخراً. وبالتالي فشل جوزيف في إبلاغ رسالته الأخيرة إلى خاله.

          عند الساعة الثالثة صباحاً أقتيد جوزيف وآخرين إلى حبل المشنقة، وتم تنفيذ الإعدام شنقاً حتى الموت، ودفن جثمانه بمقابر المسلمين بالصحافة دون علم أقاربه.

المشهد الثاني

          وُلد جوزيف في أسرة محافظة تنتمي للإدارة الأهلية، حيث يعمل والده عمدة عشيرة فاتييك، وهي عشيرة لها الكلمة الأخيرة في المنطقة من ناحية الإلهيات الإفريقية واللجوء للمجتمع إذا حدثت مشكلة أو كارثة طبيعية في المنطقة، لكن هجمات المراحيل المباغتة كانت خارج سيطرة أصحاب هذه الإلهيات والمعتقدات بسبب أن الشباب بما- فيهم جوزيف- هجروا التقاليد واعتنقوا الديانة المسيحية، ولذلك لم تكن هذه المعتقدات الإفريقية فاعلة في التصدي للمشكلات والكوارث كما كان يحدث في السابق.

         مع بداية التمرد في جنوب السودان، نهاية السبعينات، كثرت هجمات المليشيات (الدفاع الشعبي) والمراحيل- والمراحيل هو اسم آخر للجنجاويد بجنوب دارفور وغرب كردفان- على القرى الواقعة على خط السكك الحديد، خاصة شمال بحر الغزال، لا سيما منطقة اتوكطو وكروك ودولويت وفيض اتاك وايات، وتلك المناطق تُعرف بملوال جيرنيانق بأويل الشمالية التي تجاور الرزيقات والهبانية، وأيضاً المسيرية من ناحية أبيم بأويل الشرقية. كل تلك المناطق تعرضت لهجمات منظمة من المليشيات ونهبت المواشي واختطفت النساء والأطفال وحرقت القرى والفرقان، وأخذت المنهوبات إلى دارفور وكردفان وأحياناً إلى النيل الأبيض.

كردفان

           بعد أن فَقَدَ الأمل وأوشك على اليأس بسبب فقدانهم للأبقار، فكر جوزيف في الذهاب إلى الخرطوم بحثاً عن فرصة جديدة في الحياة، بدلاً عن الذهاب إلى أثيوبيا كسائر زملائه الذين فضلوا التمرد وذهبوا إلى بلفام بغرض استجلاب السلاح الناري دفاعاً عن منطقتهم.

         غادر جوزيف منزلهم بمجوك ديينق وول إلى أرياط، وهي مدينة صغيرة تقع على السكة الحديدية الرابطة بين واو وبابنوسة بغرب كردفان حتى يتمكن من ركوب القطار من هناك. وهو لا يعلم أن هذه الرحلة ستكون الأخيرة ولا رجوع له بعدها.

وقبل سفره إلى الشمال، قضى جوزيف أياماً مع أقاربه في منزل خالته ميري بالجزء الغربي للمدينة ويفتح على السكك الحديد من الناحية الشرقية وبخلفه سوق ارياط الكبير، وجواره سوق المواشي المعروف بالدلالة. لكن لحظة نهب أبقارهم ظلت راسخة في ذهنه يتذكرها كلما رأى بقراً. قرر جوزيف أن لا يُخطر خالته بموضوع السفر إلى الشمال خوفاً من معارضتها الفكرة.

واو

          القطار يتحرك أسبوعياً من بابنوسة إلى واو وبالعكس مروراً  باويل. ورغم أن المحطة الأخيرة للقطار جنوباً هي مدينة واو عاصمة إقليم بحر الغزال، إلا أنه أشتهر بـ”قطار أويل” لأن كثيراً من الركاب الذين يقصدون شمال السودان يركبون دائماً من أويل، خاصة المسافرين من  قوقريال الكبري فدرجوا على تسميته بهذا الاسم.

         وصل “قطار اويل” مدينة أرياط في الثامنة مساءًـ وركب جوزيف دون علم أقاربه، وعند الفجر وجد نفسه في بابنوسة، لكنه لم يكن يمتلك مصروفات كافية توصله إلى الخرطوم، فقرر البقاء في بابنوسة لبعض الوقت حتى يتحصل على مصاريف تمكنه من استئناف رحلته إلى الخرطوم.

          وجد جوزيف عملاً مع صاحب كارو لنقل مياه الشرب إلى المنازل، وهي وظيفةٌ مغريةٌ مقارنةً بالأعمال الهامشية الأخرى في المدينة. صاحب الكارو وافق على أن يعطي جوزيف نسبة 25% من الإيراد اليومي، وهي نسبة ممتازة يستطيع الصرف منها وتوفير البقية لرحلته القادمة، ولذلك قرر أن يعمل معه  لمدة ثلاثة أشهر قبل مواصلة رحلة الخرطوم.

         أثناء وجوده ببابنوسة تعارف جوزيف على شخص يدعي مارتن، وهو من الذين خرجوا من أتوكطو قبل خمسة أعوام وقضي هذه المدة في بابنوسة، إلا أنه قرر السفر إلى الخرطوم  قبل أسبوع من سفر جوزيف، لذلك فكر  جوزيف أن يسلمه رسالة خطية يخطر فيها أقربائه باللاماب بأنه سيأتي إلى الخرطوم الأسبوع القادم.

 بعد أسبوع وصل جوزيف محطة الشجرة، وهي النقطة قبل الأخيرة للذين يزورون الخرطوم بالقطار. وهي قريبة من اللاماب، وأقل ازدحاماً من محطة الخرطوم.

         وجد جوزيف أهله في الإنتظار بالسكك الحديد، وبعد استقباله ذهبوا به إلى المنزل، وهو نفس المنزل الذي أُعتقل فيه بتهمة القتل ومواجهة عقوبة الإعدام فيما بعد.

أرض الحضارة

         معظم الشباب في هذا المنزل يعملون في مهن هامشية مثل خدم المنازل (أيضاً يطلق عليه اسم اوشين)، عمال البلدية وعتالة بسوق السجانة، وبعضهم يعملون في المصانع، خاصة المشروبات الغازية مثل بيبسي كولا وكوكا كولا وميرندا وبزيانوس.

في البداية، التحق جوزيف مع المجموعة التي تعمل بسوق السجانة قبل أن ينضم إلى شركة بيبسي كولا، حيث مكث فيها أكثر من نصف عام يعمل كعتال مواد البناء مثل السيخ والإسمنت والزنك. رغم وصوله حديثاً إلا أنه اشتهر داخل السوق بالطيبة وحسن الأخلاق مما جعل الكل يحترمه وأُطلق عليه لقب جديد “يوسف”، فكثير من التجار وزملائه كان ينادونه بهذا الاسم. وسِر يوسف هذا جاء من كلمة جوزيف نفسها، لأن في المسيحية يوجد القديس جوزيف خطيب مريم العذراء أم يسوع، الذي يعتبر من أرفع القديسين في الكنيسة الكاثوليكية، لكن المسلمين يفضلون اسم يوسف علي جوزيف، وهو نفس الاسم.

انتظرونا مع الحلقة الثانية يوم السبت الموافق 10 مايو2025

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *