حكاية إعدام جوزيف. رواية بقلم

د. ضيو مطوك ديينق وول  

المشهد الثالث

         اعتاد “محيي الدين” الرجوع من النادي إلى المنزل، برفقة شقيقه الأصغر “نصرالدين”، في تمام الساعة السابعة مساءً، وفي إحدى المرات، وأثناء دخولهما المنزل وجدا شخصين مجهولي الهوية يتبولان على صور المنزل بالقرب من البوابة الرئيسية.

سأل محيي الدين عن هذا التصرف اللا أخلاقي، لكن لم يجد رداً منهما، بل أخذ أحدهما سكيناً وسدد طعنات في صدر محيي الدين، فأراده قتيلاً في الحال. الشخص الآخر الذي كان مع القاتل قال له “ليه قتلت الزول يا يوسف؟”، فرد عليه “يلا نجري”. وفرا إلى الاتجاه الغربي وهو نفس الموقع الذي يسكن فيه جوزيف الملقب ب يوسف مع أقاربه.

         خرج الشيخ أحمد شريف والد المرحوم من المنزل مسرعاً إلى مكان الحادث بعدما سمع صرخات ابنه، لكن وجد ابنه قد فارق الحياة. فسأل: ماذا حدث؟

رد نصرالدين وهو يغالب البكاء “محي الدين مات يا ابوي”… ثم بكي بشدة وهو يمسك رأسه.

الوالد:  كلمني الحاصل شنو يا نصر الدين؟

نصر الدين:  وجدنا شخصين يتبولان على الحائط، وعندما سألناهما سدد أحدهما الطعنات على صدر محيي الدين. وبعد ذلك سأل أحدهما القاتل، ليه قتلت الزول يا يوسف؟ ثم فرا إلى الاتجاه الغربي.

الوالد:  لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. حسبنا الله ونعم الوكيل.

         ردّد نصر الدين الحوقلة ودخل المنزل واتصل بالشرطة التي وصلت إلى مكان الحادث وأخذوا الجثمان إلى المشرحة، وبدأوا في إجراءات فتح البلاغ ضد مجهول، ودونوا في دفترة الأحوال بأن القاتل يُدعى يوسف.  

المرحوم محيي الدين كان يدرس الحقوق في السنة الأخيرة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكان من المفترض أن يتخرج بعد شهرين من تاريخ الوفاة. هذا الموت المفاجئ شكَّل حالة نفسية شديد لأسرته وخاصة الوالدة التي تعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري.

الشيخ أحمد شريف هو قطب إسلامي ويرأس الجماعة بالحي، حيث أقام التنظيم ندوة ضخمة في الساحة التي يفتح عليها منزله، خاطبها قيادات الحركة الاسلامية بقيادة الشيخ الدكتورحسن عبدالله الترابي، والذي كان يشكل حزبه مقاعد المعارضة في الديمقراطية الثالثة.

         شرطة المباحث بقسم اللاماب شكلت مجموعات لمتابعة القضية وحاولت حصر الأشخاص المتسمين بـ”يوسف” في الحي، وكل الخرطوم جنوب. لكن بالتأثير من الأسرة والحركة الإسلامية، تم توجيه الإتهام إلى “جوزيف جون باك” الملقب بـ”يوسف”.

         وفي ذات يومٍ حضر ثلاثة من أفراد المباحث إلى شركة البيبسي كولا ومعهم أمر قبض بالإرشاد مكتوب باسم يوسف دون الاسم الثاني ووجدوه في إجازة مرضية فذهبوا إلي المنزل، وقبضوه وتم اقتياده الي قسم الشرطة باللاماب وبدأوا التحقيق معه بتهمة القتل.

         لا يوجد شهود في هذه القضية سوى شقيق المرحوم، نصر الدين الذي كان معه عند وقوع الحادث بجوار منزلهم، وهو لا يعرف شيئاً عن الجاني غير حديث الشخص الذي كان برفقة القاتل، حينما قال: “ليه قتلت الزول يا يوسف”؟ وهي عبارة تطابق لقب الجاني فقد أطلق على جوزيف (يوسف) من قبل التجار وزملائه بسوق السجانة.                                                    

         عائلة المرحوم تريد إلصاق التهمة على جوزيف، حيث أوحت للشرطة بضرورة إقامة طابور شخصية على الذين قبض عليهم كمشتبهين في الجريمة بقسم الشرطة، وجلّهم شماليين ما عدا جوزيف، بغرض تعرّف الشاهد على المتهم الذي شاهده أثناء وقوع جريمة القتل الساعة السابعة مساءً حيث كان الظلام دامسًا، مما يجعل الرؤية متعذرة، لكن اختيار الشاهد وقع على جوزيف ربما لأنه الجنوبي الوحيد بين المتهمين، والمخيال الشمالي دائماً ما يدمغ الجنوبيين بالإجرام، فأكد بأنه القاتل.

وُضِعَت يدي جوزيف في الكلباش وتم اقتياده إلى المعتقل ووجهت ضده تهمة القتل العمد، تحت المادة 251 من القانون الجنائي 1984 في مواجهة المتهم، وهو القانون الذي تم تعديله عام 1991 لتصبح المادة 130 عقوبة لجرائم القتل العمد، بعد انقلاب الإسلاميين سنة 1989.

***

المشهد الرابع

         ليس هناك سبيل أمام أسرة جوزيف سوى توكيل محامٍ ليدافع عنه في هذه القضية الملفقةـ وهذا أمرٌ صعبٌ للغاية لضعف الوضع المادي للأسرة، لأن معظم أفرادها بعد نهب بقرهم في المنطقة صاروا بلا مال، وقليل منهم موجودين في الخرطوم يعملون في المهن الهامشية مثل عمال البلديات والشركات والعتالة في الأسواق، لكن طيبة معارف يوسف خاصة أصحاب المغالق والمحلات التجارية بالسجانة جعل بعضهم يتبرعون بمبالغ معتبرة  دفاعاً عنه، لأن الكل يعرف بأنه غير مذنب في هذه القضية.

         أيضاً برز دور كبير لزملائه في سوق السجانة وشركة البيبسي كولا  في استقطاب الدعم اللازم لصالح نفقات لمحامي.                                                                                                       

وصل الخبر للأستاذ بابكر المحامي عن طريق أحد أقرباء جوزيف الذي كان يعمل في منزله، وأبدى تعاطفاً كبيراً مع المتهم في هذه القضية غير العادلة، فقدم نفسه دفاعاً عن المتهم بشرط أن تتحمل الأسرة نصف الأتعاب ويمكن سدادها بالأقساط. رغم خلفيته الإسلامية أثبت الأستاذ بابكر المحامي بأنه يقدس العدالة ويكره الظلم عكس سلوك كثير من زملائه في الحركة الإسلامية حيث قدم مرافعة قوية بهدف إسقاط التهمة..  

المتحري الرقيب أول بشير يُصر على أن المتهم جوزيف جون الملقب  بـ”يوسف” هو القاتل، بدليل أنه هو الجنوبي الوحيد الذي يسكن في اللاماب ويحمل هذا اللقب، وأن الحدث وقع في الساعة السابعة مساءً أمام منزل أهل المرحوم، وأن القاتل فرَّ إلى الاتجاه الغربي وهو نفس المكان الذي يوجد فيه المنزل الذي يسكنه المتهم في الشارع الرابع من بيت أهل المرحوم، وأن هذا الشخص تظهر عليه آثار الإجرام من كسر السنون وتفتيل العضلات، وأن مجموعة من المباحث قامت بمسح كامل داخل الحي ولم يجدوا أي جنوبي آخر في المنطقة يحمل هذا اللقب غير المتهم، ولذلك أوصى بإدانته تحت المادة 251 العقوبات قتل عمد. 

القاضي طلب إفادات الشهود… فتقدم الشاهد الأول وهو شقيق المرحوم الأصغر نصرالدين أحمد شريف، الذي يدرس الصيدلة بجامعة الخرطوم.   

         نصرالدين أدى القَسَم وأكد بأنهما كانا قادمين من النادي حوالي الساعة السابعة مساءً، وعندما وصلا باب المنزل وجدا شخصين يتبولان على سور المنزل، وعندما سألهما محي الدين لماذا يفعلان ذلك أخرج أحدهما سكيناً وطعن المرحوم، فسأله الشخص الآخر الذي كان مع الجاني: ليه قتلت الزول يا يوسف؟

 فرد يوسف: نجري بس، وفرا في الإتجاه الغربي، وبعد ذلك طلبت النجدة من المنزل وجاء الوالد ومعه آخرون، لكن وجدوا محي الدين قد فارق الحياة وتم نقله إلى المشرحة.

         قال هذا الكلام وبكى داخل قاعة المحكمة. القاضي طلب منه السكوت ولكنه استمر في البكاء، فأمر القاضي باقتياده إلى خارج القاعة.

         الشاهد الثاني هو والد المرحوم الشيخ أحمد شريف، وهو ضابط شرطة متقاعد قبل انضمامه إلى الحركة الإسلامية، وفيما بعد أصبح مسؤول التنظيم في المنطقة، حيث ذكر أنه كان داخل المنزل حينما سمع أصوات الشجار، وعندما خرج وجد المرحوم مُسجىً على الأرض وقد فارق الحياة، فنقلنا جثمانه إلى المشرحة بناءً على توجيه الشرطة للتشريح… أضاف: أنا كرجل شرطة سابق وأسكن هذا الحي طيلة الثلاثين عاماً الماضية ليس هناك شخصٌ يُدعي يوسف من أبناء جنوب السودان إلا هذا الرجل، الذي ظهر هنا قبل أربعة أعوام، ولذلك أعتقد بأن قاتل ابني هو هذا المجرم.

         الأستاذ بابكر المحامي يستأذن مولانا القاضي للحديث، وقدَّم نفسه بأنه وكيل المتهم وهو أستاذٌ جامعي ويعمل في المحاماة منذ عشرة أعوام، ويطلب من المحكمة شطب البلاغ نتجة لعدم وجود أدلة وأن تطابق اسم الجاني  بلقب جوزيف لا يجعله القاتل.

 يواصل المحامي قائلاً… سيدي القاضي، الإفتراض بأن القاتل يسكن في الحي الذي قُتِل فيه المرحوم أمر غير صحيح، يمكن لمجرم أن ياتي من مكان بعيد لينفذ جريمته ويفر، علاوة على ذلك مولانا القاضي طابور شخصية الذي مثل فيها جوزيف مع الأشخاص من شمال السودان، وخاصة في ظل وجود افتراض مسبق بأن لهجة القاتل التي قالت: (ليه قتلت الزول يا يوسف؟) هي جنوبية، يدل على وجود ترتب مسبق لتوريط جوزيف في التهمة التي  ليس هو طرف فيها، وأن هذا الرجل ليس له سوابق إجرامية في حياته، وأن أسنانه المكسورة ليس بسبب الإجرام، لكن بسبب حادث لقيامه بعمل شريف يدر منه دخلاً كريما لعيشةٍ كريمةٍ كعامل عتالة بالسجانة، وهذا بشهادة كثير من التجار، وأيضاً تفتيل العضلات ليس دليل إجرام، لكن حدث نتجة لطبيعة عمله وهو يرفع الأثقال في المغالق مثل السيخ والأسمنت والزنك، ولذلك مولانا القاضي ألتمس من حضرتك شطب هذا البلاغ والإفراج عن المتهم دون شرط.

القاضي يرفع المحكمة ويحدد الجلسة القادمة بعد شهر… وتوالي الجلسات.

         وقبل يومين من جلسة الإستماع الأخيرة، سقطت مدينة الكرمك بالنيل الأزرق في أيدي متمردي الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق، وانتشرت إشاعات بوصول تعزيزات عسكرية إلى مشارف ولاية الجزيرة، وربما العاصمة القومية الخرطوم، واتخذت أجهزة الدولة موقفاً ضد الجنوبيين، وأصبح ينظر إليهم كطابور خامس، وأخذت الحرب طابعاً عنصرياً ضد الجنوبيين خاصة أجهزة الدولة.

وفي هذا الجو المشحون، قدم المتهم جوزيف جون إلى قاعة المحكمة التي كانت ممتلئة بأصحابه، في نفس الوقت تتعالى الهتافات المضادة من أفراد أسرة المرحوم بالقصاص، والاستفزاز ضد الأستاذ بابكر المحامي واتهامه بالعمالة ومساندة المجرمين، دون علم بأن الدفاع حق يكفله القانون حتى للمجرمين الذين ينتهكون القوانين، لكن هذه الإدعاءات كان يبررها الوضع السياسي في البلاد.

         يواصل محامي الإتهام… هذه الأيام سيدي القاضي، نتيجة لما يدور في البلاد، كثرت حوادث أخوتنا الجنوبيين في الخرطوم، حيث تم قتل شخص في متجره بالكلاكلة، ولذلك لا نستبعد بأن هذا الحادث له علاقة بما يدور في البلاد، خاصة هجوم المتمردين على النيل الأزرق، ولذلك وحسب طلب أولياء الدم الذين أجمعوا بأن يتم إعدام المتهم شنقاً حتى الموت، أطلب من المحكمة الموقرة إصدار عقوبة الإعدام ضد المتهم.

 أصحاب جوزيف من التجار الشماليين الذين كانوا موجودين في الجلسة، يهتفون: الحرية الحرية لـ “يوسف” فهو ليس مجرماً ولم يكن هو القاتل.

 الأستاذ بابكر نهض واستاذن القاضي بالحديث:

سيدي القاضي، هذه القضية تنقصها البينات، وأي ربط لهذه القضية بما يدور في النيل الأزرق ليس له سند قانوني، ولذلك أطلب من المحكمة الموقرة شطب هذا البلاغ والإفراج عن المتهم فوراً.    

القاضي رفع الجلسة قليلاً لإجراء المشاورات، واستأنف الجلسة بعد نصف ساعة، وبعد الرجوع إلى القاعة،

حكم القاضي على جوزيف جون الملقب بـ”يوسف”، بدفع دية قدرها واحد وعشرين ألف جنيه، وفي حالة عدم الدفع يقضي المتهم عشرة سنين بالسجن. 

الكل غير راضٍ عن هذا الحكم، فأولياء الدم يرون بأن المحكمة لم توقع عقوبة الإعدام ضد المتهم، لكن أسرة جوزيف ترى بأن المحكمة ظلمته لأنه لم يكن هو القاتل وأن هذه القضية فيها تسييس، وكان من المفترض أن يتم إطلاق سراح جوزيف فوراً نتجة لغياب الأدلة التي تدعم الإدعاء بأنه هو القاتل.

***

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *