تأليف: د. ضيو مطوك ديينق وول

المشهد الخامس

 قبل انتهاء المدة المقررة، قدمت هيئة الإتهام طلب استئناف أمام المحكمة العليا، استغرق بضعة أيام خرج بتأييد قرار المحكمة الأولية.

         أسرة المتهم حاولت جمع الدية لكن كان الأمر صعبًا عليها رغم المساهمات من قبل رجال الأعمال بسوق السجانة.

بعد فشل العائلة في دفع الدية، قررت إدارة السجون نقل جوزيف إلى سجن بورتسودان ليقضي فيه عقوبته طالما فشل في سداد الدية.

هناك في بورتسودان، شعر جوزيف بالوحدة، ولذلك طالب بنقله إلى سجن كوبر حتى يتسنى للأسرة زيارته بصورة دورية، وهي الخطة التي مكنت أفراد العائلة من القيام بالزيارات المنتظمة له في سجن كوبر، خاصة ابن خاله أنطوني كوين وصديقه أوانطجي اللذان بذلا جهداً كبيراً في سبيل الإفراج عنه لكن لم يوفقا.

أنطوني كوين كان طالباً بجامعة جوبا، كلية الدراسات الإجتماعية والإقتصادية، وأوانطجي يدرس التجارة بجامعة الزقازيق، وكانا يتناوبان في الزيارات إلى السجن وبذلا جهداً لجمع المال بغرض دفع الدية إلا أن ظروف الأسرة لم تسمح بذلك، فاختصر التبرعات في رسوم المحامي الذي طلب نصف القيمة تقديراً لعلاقته بأحد أقرباء المتهم الذي كان يعمل معه بمنزله.

بعد نقله إلى سجن كوبر، وجد جوزيف البئية الملائمة والتعامل الراقي، ربما يعود السبب إلى مركز سجن كوبر السياسي داخل العاصمة القومية، بحيث يوجد فيه المعتقلون السياسيون، ويحظي بزيارات متكررة من قبل الوفود الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان والبعثات الدبلوماسية التي تتابع الأوضاع بالسودان في عهد حكومة الديمقراطية الثالثة التي تكونت من حزب الأمة والاتحاد الديمقراطي بقيادة السيد الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي، ومولانا محمد عثمان علي الميرغني، على التوالي.

في ذلك الوقت كانت الجبهة الإسلامية القومية بقيادة الدكتور حسن عبد الله الترابي تتبوأ مقاعد المعارضة في البرلمان بقيادة الأستاذ علي عثمان محمد طه زعيماً لها. كما يوجد تمثيل ضيئل لبعض الأحزاب الجنوبية لأن الانتخابات كانت جزئية في الجنوب نتيجة للحرب الدائرة هناك.

 رغم موقف المهدي من الحرب بالجنوب ومحاولاته المستمرة لعرقلة المبادرات السياسية التي تهدف لإنهاء الحرب، إلا أن اللعبة السياسية داخل البرلمان كانت تسير حسب الأسس الديمقراطية تحكمها مصالح الأحزاب والتنظيمات السياسية. مثلا انتقلت الجبهة الإسلامية القومية من مقاعد المعارضة إلى الحكومة وخرج الإتحادي الديمقراطي نتيجة لتوقيعه اتفاق ميرغني- قرنق بمدينة كوكدام الأثيوبية. استمر هذا التحالف ضد السلام في السودان لمدة عام تدهورت فيه الأوضاع في البلاد، وشهدت سقوط العديد من المدن في أيدي مقاتلي الجيش الشعبي للتحرير، مما جعل رئيس الوزراء الصادق المهدي يغير رأيه ويقبل بمبادرة ميرغني-قرنق، الأمر الذي أدى إلى خروج الجبهة الإسلامية القومية وعودتها مجدداً إلي مقاعد المعارضة، وتم تشكيل الحكومة الإئتلافية بين المهدي والميرغني مجدداً، مما أثار حفيظة الإسلاميين فنفذوا انقلابهم الشهير برئاسة العميد عمر حسن أحمد البشير الذي كان قائداً لمنطقة ميوم العسكرية بغرب النوير، 30 يونيو 1989.         

***

حفل التورتة الذي اقيم الخامس من فبراير 2025 بمناسبة حفل توقيع رواية “حكاية إعدام جوزيف”
جانب من جمهور المشاركين في حفل توقيع رواية “حكاية إعدام جوزيف”

الفصل الثاني

المشهد السادس

لا يمكن الجزم بأن تدهور العدل بدأ في عهد البشير؛ لأنه كانت هناك إرهاصات تومئ بغياب حكم القانون، وانهيار النظام الدستوري في عهد الصادق المهدي، نتيجةً للحرب الأهلية في البلاد، والتي ظهرت جلياً في الجنوب والشرق ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق.

في صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989 بدأت التحركات غير العادية داخل سجن كوبر، حيث وصلت إلى السجن شخصيات هامة في السياسة السودانية.

إدارة السجن طلبت من السجناء إخلاء بعض العنابر لصالح المعتقلين الجدد، وتم إعادة المتهمين في جرائم القتل خاصة الذين شارفت مدتهم على الانتهاء إلى الزنزانات بما فيهم جوزيف جون الذي نقل إلى زنزانة رقم 9.

 في اليوم التالي وصل حسن الترابي والصادق المهدي إلى سجن كوبر. ويُقال إن اعتقال الترابي كان مسرحية من الإسلاميين حتى لا تكتشف خطتهم بأنهم وراء انقلاب القوات المسلحة. تم اعتقال الكثير من الوزراء وأعضاء البرلمان وقادة الجيش وزجّ بهم في السجن.

 الوضع أصبح يتأزم يوماً بعد يوم ويتغير إلى الأسوأ داخل السجون. السجين جوزيف يتلقى المعلومات عن الانقلاب وأوضاع البلاد من الرقيب عثمان خاطر آدم.

بعد عام من الاستيلاء على السلطة، أعلنت حكومة الإنقاذ الوطني الجهاد في جنوب السودان، حيث نشطت في كردفان ودارفور خاصة جبال النوبة، وتم تأهيل معسكرات تدريب المجاهدين في كادوقلي ولقاوة والمجلد والضعين، وهي نفس المراكز التي فتحت في عهد الصادق المهدي حتى تستطيع أن تستوعب أعداداً كبيرة من المجاهدين. ونتيجة لذلك، تم تزويد هذه المعسكرات بالخبراء الدوليين، خاصة من دول محور الإسلام السياسي والقوميين العرب، حيث جاءت هذه الفكرة متلازمة مع فتح حكومة الإنقاذ البلاد لجميع حركات الإسلام السياسي ومقاطعتها للغرب بناء على مخرجات المؤتمر الجامع الذي حضرته قيادات الحركات الإسلامية العالمية في الخرطوم، صدرت منه قررات تدعو للجهاد والعنف، ومن بين الحضور في هذا الموتمر قيادات إسلامية مؤثرة، مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وراشد الغنوشي وعبدالمجيد الزنداني وخالد مشعل وأبو سياف والشيخ صبحي الطفيلي وآخرون. 

أيضاً أصبح السودان مقصداً لمطلوبين دوليين، حيث كان “الييتش راميريز سانشيز” المعروف باسمه الحركي “كارلوس” يختفي في الخرطوم، لكن أُعتقل وسُلِّم إلى السلطات الفرنسية بعد المفاصلة بين البشير والترابي.

 هذه الجماعات الإسلامية بعضها نقلت استثماراتها إلى السودان، خاصة حركتي الطالبان وحركة المقاومة الإسلامية المعروف اختصاراً بـ (حماس) اللتان استثمرتا أموالهما في الطرق والزراعة والصناعات الحديدية والأغذية، مثل طريقي شريان الشمال والإنقاذ الغربي اللذان يربطان السودان بجمهورية مصر العربية، وشركة السندس الزراعية بجنوب الخرطوم، وكثير من شركات المنتجات الغذائية.

وفعلاً نجحت هذه الخطة وشهد السودان نهضة تنموية كبيرة، ودخلت في التصنيع الحربي والدوائي والسيارات والطائرات والآليات العسكرية والأسلحة الخفيفة والثقيلة، خاصة في مناطق اليرموك وجياد وكوبر وكرري.

         السودان استطاع أن يستخرج البترول بالتعاون مع الصين وماليزيا والهند والمليشيات المحلية في الجنوب، وأصبح يصدر النفط وتحسن وضعه القتالي ضد الجيش الشعبي لتحرير السودان.

 الإسلاميون بذلوا جهوداً كبيرة في سبيل إنهاء الحرب في جنوب السودان عسكرياً، وهي أساساً خطتهم المرسومة قبل الإنقلاب على النظام الدستوري، بحيث كانت الخطة هي حسم التمرد عسكرياً، وإذا لم تنجح الخطة يتم اللجوء إلى انفصال الجنوب، وهو الخيار الذي أخذوه بعد اثنتين وعشرين عاماً من الحكم.

حاول النظام تغيير الديموغرافية في جنوب السودان من خلال تهجير السكان الأصليين من مناطقهم بغرض استغلال الموارد خاصة في أعالي النيل وبحر الغزال، وهذه السياسة هدفها استلام الأرض خالية من البشر، ولذلك زادت هجمات المراحيل والدفاع الشعبي والمجاهدين على المواطنين بالجنوب في غياب الإعلام نتيجة لقرار النظام باستبعاد الوسائط الإعلامية عن المشهد حتى لا تظهر الحقائق، غير أن المفاصلة التي حدثت بين الرجلين، الترابي والبشير، نهاية 1999 كشفت المستور.

وعلى الصعيد الداخلي، نفذ النظام المشروع الحضاري كمحاولة لتغيير السلوك والمظهر العام للمواطن ولإبراز العروبة وطمس الهوية الإفريقية. الجنوبيون الذين نزوحوا إلى الشمال وفي مناطق سيطرة الحكومة كانوا أكثر الفئات تضرراً. تأسيساً على هذا الفهم كان يتم اعتقالهم وملاحقتهم في قضايا تافهة مثل صنع الخمر واللبس غير المحتشم- كما يدعون- واتهام بالطابور الخامس والتخابر لصالح التمرد.

         أيضا تم استهداف الكنائس والأندية التي لا تعبر عن الثقافة العربية والإسلامية. في هذا السياق، تم تأسيس شرطة الآداب العامة ومحاكم للنظام العام حتى يتم ملاحقة الجنوبيين وضجت بهم السجون. 

في هذه الأجواء، اشتدت الحرب في الجنوب والشرق وجبال النوبة والأنقسنا، ورغم دفع الجيش الشعبي بالكتائب والوحدات العسكرية إلى مناطق سيطرت الحكومة إلا أن مستوي التعبئة الجماهيري الحكومي كان يفوق التوقعات، حيث تم تعبئة المستجدين وإدخالهم المعسكرات وتفويجهم إلى مناطق العمليات، كما طلبت الحكومة من حلفائها الدوليين الزيارات إلى مراكز التدريب حتى يكون بمثابة دفع معنوي للمجاهدين في صفوف القتال الأمامية.

***

بعض الشخصيات السودانية المشاركة في حفل توقيع رواية “حكاية إعدام جوزيف”

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *