تأليف تأليف د. ضيو مطوك ديينق وول

الفصل الثالث

المشهد الحادي عشر

بعد المؤتمر العالمي الإسلامي في الخرطوم، اعتمدت الدولة سياسات جديدة تحت شعار “المشروع الحضاري”، وهي فكرة تدعو للعودة إلى جذور وتقاليد الدولة الإسلامية الأولي.

 تم تصنيف الغرب والمسيحية والجنوبيين بأخطر أعداء الإسلام. تم تجميد العلاقات مع أميركا وكثير من الدول الأوربية وكل ما له علاقة بهذا المحور. تم تصنيف الولايات المتحدة كعدو رقم واحد، طبعاً بعد إسرئيل التي قاطعتها السودان منذ قمة اللاءات الثلاثة بالخرطوم؛ لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني.  وظهرت على السطح الأغنيات الجهادية لرفع معنويات المقاتلين، مثل أنشودة “أنا المسلم” لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، حيث تقول القصيدة:

 دستوري ومنهاجي كتاب الله

 وقائد دربي الهادي محمدنا رسول الله

ودارى موطن الإسلام ما دوَّى نداء الله

وأهلي أمة الإسلام هم حزبي وحزب الله

إلي آخر بيت في القصيدة.

أيضاً أنشودة:

  يا أمريكان ليكم تدربنا

دولتنا ليس بنما

ورئيسنا ليس نورييغا

 (في إشارة إلى حرب أميركا ضد بنما واعتقال إيمانويل نورييغا رئيس بنما الأسبق).

في هذا الظرف الدقيق من تاريخ السودان والمشحون بالحماس الزائد الذي يتجاهل وجود الجماعات الإثنية والدينية غير العربية والإسلامية، تم إصدار المراسم الجمهورية لتنظيم المجتمع وتغيير المشهد في الشارع وفرض الزي الإسلامي خاصة الحجاب للفتيات داخل مؤسسات الدولة والجامعات والمدارس، والتدريب العسكري الإلزامي لجميع العاملين في الدولة خاصة قيادات الخدمة المدنية. وتم فرض الصلاة كواجب يقوم به أي عامل في الدولة. تم إلزام المؤسسات بإنشاء المساجد والمصليات داخل المقرات وعمل رقابة للذين لا يقيمون الصلاة بحيث يتم إحالتهم إلى المعاش. ولم تسلم القوات النظامية من هذه الإجراءات بل كانت الأكثر تأثراً.

 فُرض الحظر على ترخيص الكنائس ومراقبة أنشطتها ومصادرة مبانيها خاصة مبني الكنيسة الكاثوليكية الواقعة على شارع المطار التي أصبحت دار حزب الموتمر الوطني نتيجة لموقعها الاستراتيجي، بحجة أن وجود الكنيسة في هذا الموقع الاستراتيجي يدحض فكرة دولة إسلامية في السودان، وهي نفس الفكرة التي كادت تقضي على حياة الرقيب سانتو، أثناء زيارة بن لادن والظواهري إلى معسكرات المجاهدين بكادوقلي.

الجهات القضائية كانت على رأس قائمة المؤسسات التي تضررت كثيراً، حيث شهدت إحالة كبار القضاة إلى التقاعد وتعيين عناصر أخرى موالية للنظام. تمت مراجعة النظام القضائي، بما في ذلك القضايا التي تم الحكم فيها بغرض تجريم الخصوم والقضاء عليهم أو إدخالهم السجون.

تأزم الوضع في الجنوب وجبال النوبة والانقستنا، فتم استنفار المجاهدين بغرض القضاء على التمرد في هذه المناطق وتشريد المواطنين، وهو امتداد للبرنامج الذي بدأه الصادق المهدي وشهد التطور الخطير في مدينة الضعين بجنوب دارفور، ووصل الأمر إلى حرق المواطنين الجنوبيين أحياءً داخل عربات القطار بالسكك الحديد، كما شهدت المنطقة هجمات المراحيل واختطاف آلاف الأطفال والنساء من الضحايا، وما يزال كثير منهم يقيمون في كردفان ودارفور.

         في الاستوائية شهد الإقليم حرباً مدمرةً بتفويج كتائب الجهاد، بدأت بالطلاب الذين يريدون الإلتحاق بالجامعات، حيث فرض عليهم القتال قبل الالتحاق بالجامعات كجزء من الخدمة الإلزامية العسكرية. يلاحظ أن هؤلاء المجاهدين في مناطق العمليات الحربية كانوا ينتقمون من المواطنين كلما تم هزيمتهم من قبل الجيش الشعبي في المعركة. هذا حدث في جوبا والمناطق الأخرى. علاوة على استغلال بترول الجنوب في الحرب ضد شعبه بالتعاون مع بعض المليشيات التي تم تدريبها وتسليحها لزعزعة الاستقرار في الجنوب.

         كما حدث استهداف ضد الجنوبيين بالخارج بالترصد، واعتقال العائدين منهم إلى البلاد في جرائم تافهة لا ترتقي إلى مستوي الجرائم ضد الدولة، حيث تم اعتقال انطوني كوين ابن خال جوزيف في وادي حلفا بعد عودته من مصر، بحجة أن المصريين تساهلوا معه في إجراءات السفر بميناء أسوان النهري، والسبب بسيط؛ أثناء السفر كانت السلطات المصرية تشدد الإجراءات ضد المسافرين إلى السودان نتيجة لفتح السلطات السودانية البلاد للجماعات الإسلامية وتوتر العلاقة بين الدولتين، فقرر الأمن المصري تشديد إجراءات تفتيش المسافرين إلى السودان. وعندما جاء دور انطوني كوين، ضابط الأمن المصري قدم له التحية وطلب منه الجواز دون أي إجراء أو تفتش وقال له.

  • يا انطوني كوين تعال اركب فين حقيبتك؟

انطوني كوين صعد الباخرة دون تفتيش في ظل التشدد على الركاب السودانيين الآخرين. هذا لم يعجب أفراد الأمن السوداني الذين كانوا في نفس الرحلة داخل الباخرة. فعندما وصلت الباخرة وادي حلفا جاء ضابط أمن سوداني وقال: وين المعرص الاسمو أنطوني كوين فيكم.

الصمت يخيم بالمكان. وبما ان انطوني كوين هو الجنوبي الوحيد في الباخرة الضابط اتجه اليه وقال:

  • موش انت انطوني كوين؟
  • نعم انا انطوني كوين.
  • ومالك ساكت؟ قوم فوق. وين شنطتك؟
  • هنا شنطتي… انطوني كوين يرد.
  • يلا اطلع معي.

 ينهض ويخرج مع الضابط إلى العربة وتم اعتقاله لمدة ثلاثة أيام دون جريمة، فقط لأن الأمن المصري لم يفتش عليه. هذا كان حال الجنوبيين في بلدهم السودان.

أيضاً في الكلاكلة، تم إعدام سبعة أشخاص من أفراد أسرة واحدة بتهمة قتل صاحب بقالة، وهي جريمة كيدية فقط لأن هولاء الناس جنوبيين رغم عدم وجود علاقة لهم بالجريمة.     

كل هذه العوامل والسياسات الأخرى- التي لم يتسع المجال لذكرها هنا- جعلت الجنوبيين يقررون التصويت لصالح الانفصال في الاستفتاء على تقرير المصير وقيام دولتهم، جمهورية جنوب السودان، عام 2011.

***

المشهد الثاني عشر

تأثرت القضائية والنيابات العامة والشرطة وكل المنظومة العدلية بسياسات الثورة الجديدة، حيث تم فصل القضاة والمستشارين القانونيين وتعيين آخرين موالين للنظام بدلاً عنهم.

أيضاً تم دمج القوات النظامية، خاصة الشرطة والسجون وحرس الصيد والمطافي، تحت قوة واحدة أطلق عليها “الشرطة الموحدة” يستطيع الضابط الانتقال بين وحداتها دون قيد، مما يسهل فصل عناصرها غير الموالية للنظام وتعيين أصحاب الولاءات مكانهم. فتم فصل معظم القضاة وتعيين آخرين موالين للنظام في المحاكم وكذلك في السجون.

المقدم يس ابن خال المرحوم محي الدين، تم تعيينه في سجن كوبر مسؤولاً عن الزنزانات والمعتقلين السياسيين. هذه التغييرات حدثت أيضاً في المؤسسات الأخرى.

ومنذ وصول يس إلى إدارة السجن، تغيرت ظروف السجين جوزيف جون إلى الأسوأ. ومن ذلك تشديد الزيارة له إلا بطلب منه شخصياً. جوزيف لم يجد المعلومات من الخارج كما كان يحدث في السابق وتم حظر كل من يتعامل معه، وإلا سيتم فصله.

         لم يعلم أحد داخل السجن بالعلاقة الأسرية بين المرحوم محي الدين والمقدم يس إلا بعدما تم تنفيذ عقوبة الإعدام ضد جوزيف. الرجل استخدم خلفيته السياسية والإسلامية لعمل برنامج زيارة الشيخ أسامة بن لادن إلى السجن والإلتقاء بالسجناء ويطلب منهم تقديم الاعترافات بما فعلوه من الجرائم، ويمكن له بعد ذلك دفع الديات أو الغرامات للسجناء العاجزين عن السداد بعد كل هذا الابتزاز.

فعلاً بن لادن وصل سجن كوبر في زيارة كانت تعتبر للبر والإحسان- حسب قراءاته الشخصية- إلا أنها كانت كارثية للمتهم جوزيف جون الذي كان يعتقد بأنها فرصة ذهبية للخروج من السجن بسبب المؤامرة التي دبرها ضده المقدم يس. فهو لم يشاور أحداً في قراره هذا، ربما لغياب ابن خاله انطوني كوين المقرب له، في الزيارة خارج البلاد وكذلك صديقه اوانطجي الذي كان في مصر بغرض الدراسة.

جوزيف، ومع آخرين، تقدموا بطلباتهم عبر إدارة السجن وتم إرفاق شهادة إشهاره للإسلام، رغم أنه مسيحي كاثوليكي.

 المقدم يس بدل تسليم طلب جوزيف إلى مكتب بن لادن، رأى أنها فرصة للإنتقام من الإنسان الذي لم يكن هو قاتل ابن خاله، بحيث ذهب على الفور إلى خاله أحمد شريف بمنزله باللاماب بحر أبيض الساعة الخامسة مساءً. قرع الباب بشدة وبنوع من الابتهاج. الشيخ أحمد يسال باستغراب:

  •  منو انت؟
  • انا يس يا خال.

فتح الباب… تفضل يس. أحوالك شنو؟

  • بخير يا خال. أخيراً المجرم اعترف.
  • كيف الكلام دا؟
  • والله العظيم- يخرج له المستند- هذه هي اعترافاته،
  • أخيراً. الشكرلله. طيب المطلوب شنو؟ الشيخ أحمد يسال.
  • نمشي نجلس في الصالون ونحكي يا خال.
  • طيب، تفضل يا ولدي.
  • انت عارف يا خال نحن محتاجين نستأنف القضية ونستخدم هذه الاعترافات لأن السبب في عدم الحكم بالإعدام كان غياب الأدلة. الآن الأدلة في أيدينا ولازم نمشي للمحامي عشان يبدأ الإجراءات مباشرة.
  • فكرة جميلة يا يس لكن هل يمكن استئناف قضية حكمت قبل ست سنوات؟
  • دا الشي العايز مننا الشغل يا خال. هناك تغييرات كبيرة في المنظومة العدلية ولازم نستفيد من وجود عناصرنا في القضائية.
  • صحيح، يا يس، يلا نمشي إلى الأستاذ المحامي عبد العظيم.

 يخرجا إلى منزل عبد العظيم بالخرطوم 2.

يصلا منزل الأستاذ عبد العظيم.

 يس يطرق الباب ويخرج الخفير ليبلغهما بأن مولانا خارج البلاد وسيعود بعد أسبوع.

  • شكرا. مافي مشكلة- يركبا العربة.
  • الشيخ أحمد يسأل يس: ماذا نفعل؟
  • لازم ننتظره يا خال.
  • طيب، كلام جميل سيتم ببركة الله.

الشيخ أحمد ينزل في منزله ويس يواصل الرحلة إلى الصحافة التي يوجد بها منزلهم.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *