د. مدحت حماد: هل سيكرر العرب مرة أخرى حساباتهم الإستراتيجية الخاطئة؟ (الحلقة الأولى)
الأحداث الجارية في شرق المتوسط الآن، هي أحدث "خطيرة" بامتياز، وهي أحداث "مفصلية فارقة"، وهي أيضًا أحداث "مُنشِئة كاشفة". الواقع العسكري "المُخيف" في شرق المتوسط لا يدل على أن المقصود هو "محور المقاومة" بقيادة إيران فحسب، إنما يدل على أننا بصدد "حدث إقليمي دولي إستراتيجي" يتشكَّل في رحم شرق المتوسط، وأن "طوفان الأقصى" كان بمثابة العُنصر أو العامل المحَّفِز لنشوء وميلاد هذا الحدث.
تمامًا مثلما كانت جريمة صدام حسين بغزوه الكويت هي العنصر والعامل المحَّفِز لما حدث بعده، من غزو للعراق، إحداث تغيير جذري في خريطة وهيكلية وبنية "النظام السياسي العراقي" من جهة، وقطع "الحبل السُري العربي" الذي كان يربط العراق مباشرة بجميع دوائر الأمن القومي العربي.
فبسبب جريمة إحتلال الكويت التي لم تستمر سوى شهور معدودات، والتي صاحبتها "مشاعر زائفة بالزهو النصر السياسي" لدى صدَّام حسين ونظامه، إنفك "عقد التضامن العربي الخليجي العراقي" لعقود طويلة، ولسوف تستمر لأجل غير مُسمى.
فلقد انقطعت كل أواصر الصلة والعلاقات بين "دول مجلس التعاون الخليجي" وبين "العراق" ما بعد صدام حسين، بل صار هناك عداء محكم، وتشكلت خريطة عدم الثقة والكراهية _عبر وسائل وآليات متنوعة عديدة_ وصلت لحد العداء بين الطرفين لقرابة ثلاثين عامًا أو يزيد، مما نتج عنه وبشكل غير مسبوق، منذ سقوط الخلافة العباسية، أن صار العراق بمثابة العمق الإستراتيجي النوعي لإيران، بعد أن كان "بوابة الأمن القومي العربي الشرقية"!
منذ ذلك التاريخ، ومنذ تبلورت تلك المتغيرات والمستجدات، فَقَدَ العربُ العراقَ. وتحول وضع العراق إلى أن صار شبيهًا بوضع "الدول الإقليمية" المجاورة للوطن العربي، وذلك بالرغم من كل "ظواهر أو مَظاهر العروبة الشكلية" التي ترسم الصورة السياسية "للنظام السياسي العراقي". لكن الحقيقة أن العراق قد بات مكونًا أصيلاً من مكونات "التحالف الإقليمي" الذي يعرفه الجميع بمسمى "محور المقاومة" الإسلامية بقيادة إيران.
واقع الأمر الذي تعيشه الدول العربية في المشرق ومعها مصر يقول ما يلي:
1- إن جميع هذه الدول _باستثناء سوريا واليمن_ رفعت رسميًا إسم "إسرائيل" من قائمة الأعداء، سواء من خلال وعن طريق توقع معهدات السلام، أو من خلال وعن طريق التطبيع أو من خلال وعن طريق إعلان النيِّة للتطبيع المشروط.
2- إن جميع هذه الدول _باستثناء سوريا واليمن_ تقيم علاقات سياسية، اقتصادية مع إسرائيل.
3- بعض هذه الدول تقيم علاقات أمنية عسكرية مع إسرائيل.
4- إن جميع هذه الدول _باستثناء سوريا واليمن_ قد تخلت عن الكفاح المسلح لتحرير فلسطين والقدس وإقامة الدولة الفلسطينية ولو على أراضي الرابع من يونيو1976بعاصمة محدودة في القدس الشرقية.
5- جميع هذه الدول _باستثناء سوريا واليمن_ تقيم علاقات سياسية، اقتصادية، أمنية وعسكرية بل وربما استراتيجية مع أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا وإيطاليا، وجميعها من الدول الراعية لإسرائيل الضامنة لبقائها وإستمرار وجودها.
فقط "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" هي التي تقود المقاومة الفلسطينية ومنذ عودة الخميني لإيران في فبراير 1979 وإعلانه سحب الإعتراف الإيراني بإسرائيل، ثم إعتراف الجمهورية الإسلامية بفلسطين كدولة وتسليم سفارة إسرائيل لياسر عرفات لتكون "سفارة دولة فلسطين"، تقود العملية الإستراتيجية الشاملة _طويلة الأجل" لتحرير فلسطين والقدس، قيادة سياسية، دينية بل وإستراتيجية. وهي قيادة تتميز بعدد من الخصائص والسمات النوعية مثل:
1- أنها لم تسعى لإذابة المقاومة الفلسطينية في "بوابة المذهبية الدينية"، وإنما تعاملت معها من منظور الثوابت والقواسم الإسلامية المشتركة بين جميع المسلمين على إختلاف مذاهبهم(سيدنا محمد هو خاتم الأنبياء والمرسلين، الإسلام هو الديانة السماوية الخاتمة، القرآن الكريم هو كتاب الله الحبل المتين، القِبلة الدينية كانت المسجد الأقصى ثم أصبحت مكة المكرمة).
2- أنها لم تسعى إلى فرض إرادة سياسية ما على المقاومة الفلسطينية، هي فقط قدمت نفسها كظهير إستراتيجي: سياسي، إعلامي، اقتصادي، علمي، تكنولوجي بل وعسكري.
3- أنها قد نزلت معها الميدان _عبر ومن خلال فيلق القدس_ من أجل الإعداد والتخطيط والمشاركة الوجدانية الروحية، الميدانية العسكرية.
4_ أنها قدمت للمقاومة الفلسطينية "سابقة أعمالها" بشأن عقيدتها المعادية لإسرائيل. أقصد هنا "حزب الله اللبناني"، وهي سابقة الأعمال التي تميزت بالقدرة على البقاء والقدرة على الإنتصار ومن ثم القدرة على تحرير الأرض و"فرض الإرادة" وهذه جميعها متطلبات ومكونات وعوامل البقاء لأي حركة مقاومة. (مصر عبد الناصر والمقاومة الجزائرية نموذجًا).
5- أنها قدمت كذلك للمقاومة الفلسطينية "سجلاً ناجحًا ناصعًا" لدورها الإقليمي، المتمثل في دعم وتأييد وحماية النظام السوري بصفة عامة و"بشار الأسد" بصفة خاصة.
6- أنها تقدم "الأدلة الدامغة" للمقاومة الفلسطينية والعالم الإسلامي بأسره، على مشروعية ومصداقية مواقفها وإستقامة عقيدتها وأيديوليجتها الدينية الإسلامية، وهي الأدلة التي تجسدها "جميع أشكال ومستويات وأنماط الحظر والعقوبات السياسية، التكنولوجية، الاقتصادية، العسكرية... إلخ كل ذلك بسبب مواقفها الثابتة تجاه القضية الفلسطينية.
فإذا ما نظرنا لطوفان الأقصى في ظل وفي إطار جميع "المعطيات" السابقة، وأضفنا عليها ما يلي:
1- أن الدول العربية سالفة الذكر، عجزت فعليًا وحقيقيًا عن منع إراقة الدماء الفلسطينية.
2- أنها أيضًا عجزت عجزًا تامًا ومطلقًا عن تقديم الدعم الاقتصادي للفلسطينيين.
3- أن جميع هذه الدول لم تغضب الغضبة القومية الدينية أو حتى الإنسانية التي كان يجب أن تكون إثر وقوع قرابة خمسين ألف شهيدًا فلسطينيًا معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، وقرابة 100 ألف جريحًا أيضًا معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ.
4- أنه ما من دولة عربية من الدول سالفة الذكر كانت لديها القدرة الدينية على نُصرة الفلسطينيين بالسلاح لصد الأعداء التاريخيين للأمة الإسلامية، أي اليهود.
5- أن بعض الدول العربية سالفة الذكر حرصت -ولأسباب متنوعة- على إقامة مهرجانات الترفيه والغناء والرقص طول العام الأول من طوفان الأقصى.
من هنا يعود السؤال الذي سبق وأن قمتُ بطرحه في عدة مقالات قبل إنطلاق "طوفان الأقصى" بعامين، السؤال هو:
ماذا لو تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحرير فلسطين والقدس بمساعدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟
إن هذا السؤال هو "الحقيقة الوحيدةالكامنة" التي قصدتها من إختاري لعنوان هذا المقال وهو: هل سيكرِّر العرب مرة أخرى حساباتهم الإستراتيجية الخاطئة؟
مبدئيًا أُجيب على سؤالي هذا فأقول: نَعَم. نَعَم سوف يكرِّر العرب حساباتهم الإستراتيجية الخاطئة مرة أخرى.