معركة احتواء «طوفان الأقصى»
منذ تأسيس كيان الاحتلال الإسرائيلى على أرض فلسطين بـ «مؤامرة دولية» قادتها بريطانيا، شن الكيان الصهيونى ثلاث حروب كبرى ضد العرب ، الأولى عام 1948 والتى بها اكتمل فرض كيان الاحتلال كواقع على صدر الأمة العربية عندما أقر العالم تقسيم فلسطين إلى دولتين «فلسطينية وإسرائيلية»، وقبول إسرائيل عضوا فى الأمم المتحدة. والثانية عام 1956 ضد مصر، وفى عباءة العدوان البريطانى – الفرنسى الذى استهدف استرداد قناة السويس من مصر بعد أن أممها جمال عبدالناصر . كان هدف المشاركة الإسرائيلية فى هذه الحرب فرض الكيان كطرف فى معادلة النظام الإقليمى للشرق الأوسط ، وكسب القبول الغربى لمنح إسرائيل دور«الدولة الوظيفية»، أى الدولة الحليف للغرب فى الشرق الأوسط القادرة على القيام بوظائف لها اعتبارها لخدمة الأهداف والمصالح الغربية فى الشرق الأوسط .
أما الحرب الثالثة فكانت عدوان يونيو 1967 التى جرى تدبيرها فى واشنطن لتحقيق هدفين، أولهما أمريكى وهو إجهاض مشروع «النهضة المصرية» والحيلولة دون تمكين مصر بزعامة جمال عبدالناصر أن تصبح قوة إقليمية قادرة على تحدى الهيمنة الغربية، وتهديد المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط . وثانيهما إسرائيلى يرمى إلى فرض إسرائيل كـ «قوة إقليمية عظمى» فى الشرق الأوسط ، عبر التمدد والتوسع فى أراضى فلسطين وأراض عربية أخرى، والتخلص نهائياً من مصر كمنافس إقليمى للمشروع الصهيونى الشرق أوسطى. هذه الحروب الثلاث كانت ترتكز على قاعدة واضحة من الفهم الاستراتيجى، وهى أنها «حروب من أجل تثبيت وجود الكيان الإسرائيلى ، وفرض «المشروع الإسرائيلى» بمفاهيمه الصهيونية والتوراتية. لذلك لم تخض إسرائيل حروب حدود مع العرب، بل خاضت حروبها ، بالأصل، مع المشروع العربى، أو بدقة أكثر، للحيلولة دون وجود مشروع عربى يكون فى مقدوره زعزعة وجود وأمن إسرائيل.
فى مقابل هذه الحروب شن العرب ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى فى أكتوبر 1973 ما يمكن اعتباره «حرباً تحريرية» للأرض التى احتلت عام 1967 . كان يمكن لهذه الحرب أن تتحول من مجرد حرب لتحرير الأرض المحتلة عام 1967 إلى حرب تأسيس لمشروع النهضة العربية، لو كانت النتائج قد تواءمت مع المقدمات. مقدمات هذه الحرب تأسست من حرب نكسة 1967 مباشرة، إذ بعد سويعات قلائل من إعلان الرئيس جمال عبدالناصر قراره التنحى عن الحكم يوم 9 يونيو 1967، انطلقت صرخة «حنحارب» المليويينية من جميع أرجاء الوطن العربى، رافضة الهزيمة ومعلنة إصرارها على «إكمال المشوار» والمشوار الذى تعنيه هو ذاته الذى كان يشكل خلفية القرار الأمريكى – الإسرائيلى بضرب وتصفية تجربة «النهضة المصرية»، أى أن الشعب العربى كان يريد للأمة أن تستعيد إرادتها لتنتصر على الهزيمة أولاً، ولتعاود بناء مشروعها ثانياً، لذلك بدأ العمل من أجل ذلك ابتداءً من يوم 10 يونيو 1967، بعودة جمال عبدالناصر لقيادة الأمة، واختيار قيادة عسكرية جديدة لإعادة بناء الجيش القادر على تحقيق النصر، ثم جاءت معركة «رأس العش» وبعدها تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات قبيل أيام من أول قمة عربية بعد النكسة فى الخرطوم التى حددت معالم الطريق العربى الجديد: «لا صلح .. لا اعتراف.. لا تفاوض مع كيان الاحتلال قبل انسحابه الكامل من كل الأراضى التى احتلت عام 1967»، ثم جاء إعلان جمال عبدالناصر لـ «بيان 30 مارس» الذى قدم مراجعة نقدية لتجربة ما قبل النكسة، وأسبابها، ومعالم الطريق لمعاودة النهوض .
لم يكتمل مشوار المراجعة وإعادة البناء بعد وفاة جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، ومجيء قيادة جديدة قادت معركة الانتصار فى أكتوبر 1973 على قاعدة مفهوم «التحرير» فقط، دون الخوض فى تحويل النصر إلى «ركيزة نهوض قومى»، حيث حدث أخطر ما كان يجب ألا يحدث وهو «احتواء النصر» عبر مشروع سموه «السلام» مع كيان الاحتلال أدارته الولايات المتحدة الأمريكية ليحول دون تحويل النصر العسكرى المصري- السورى إلى انتصار للإرادة العربية ، ولوضع ركائز جديدة لمشروع عربى للنهضة . نحن الآن نواجه ونعايش هذه المخاطرة فى ظل ما بات يحدث من تآمر على الحرب العربية الثانية التى قادتها المقاومة العربية الفلسطينية فى قطاع غزة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى ابتداء من هجوم «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023، أى بعد 50 عاماً كاملة من حرب الانتصار الكبير فى السادس من أكتوبر 1973 ، وامتداداً إلى معركة الصمود الشعبى الأسطورى للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطينى فى قطاع غزة دفع أثمانها عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين على مدى ما يقرب من خمسة أشهر كاملة متصلة . يحدث الآن للحرب العربية الثانية ضد كيان الاحتلال ما سبق أن حدث للحرب العربية الأولى عام 1973 ، بعد أن حققت هذه الحرب ما لم يخطر على بال. فقد هزم عشرات الآلاف من المقاتلين الأبطال فى المقاومة الفلسطينية، الجيش الذى وصف بأنه «لا يقهر» وأنهت الدور الوظيفى لكيان الاحتلال ومبرر وجوده كقلعة متقدمة للدفاع عن المصالح الغربية، ووضعت نهاية لـ «أسطورة القوة الإقليمية العظمى»، ودورها كـ «شرطى للمنطقة»، والأكثر من ذلك أنها أجرت تغييراً هائلاً فى الوعى العالمى والتعاطف العالمى مع شرعية الحقوق الفلسطينية، ولعل فى صرخة ضابط القوات الجوية الأمريكية «أورون بوشنيل» الذى أشعل النيران فى نفسه أمام مبنى السفارة الإسرائيلية فى واشنطن ما يكفى لإدراك معالم هذا التحول فى الوعى العالمى المؤيد للحقوق الفلسطينية والرافض لإسرائيل وللهيمنة الأمريكية . صرخة «لن أكون شريكاً فى الإبادة الجماعية بعد الآن.. تحيا فلسطين» يجب أن توقظ الوعى العربى بأن نجاحاً عربياً هائلاً قد تحقق بـ «طوفان الأقصى» يجب عدم التفريط فيه، وأن ما حدث يجب أن يكون مجرد «بداية» عربية جديدة لرسم معالم مستقبل عربى أفضل، وهذا لن يتحقق إلا بمواجهة مؤامرة احتواء هذا النصر وإصرارهم على تحويله إلى هزيمة.