مركز الفارابي للبحوث والدراسات الأمنية

معركة احتواء «طوفان الأقصى»

منذ تأسيس كيان الاحتلال الإسرائيلى على أرض فلسطين بـ «مؤامرة دولية» قادتها بريطانيا، شن الكيان الصهيونى ثلاث حروب كبرى ضد العرب ، الأولى عام 1948 والتى بها اكتمل فرض كيان الاحتلال كواقع على صدر الأمة العربية عندما أقر العالم تقسيم فلسطين إلى دولتين «فلسطينية وإسرائيلية»، وقبول إسرائيل عضوا فى الأمم المتحدة. والثانية عام 1956 ضد مصر، وفى عباءة العدوان البريطانى – الفرنسى الذى استهدف استرداد قناة السويس من مصر بعد أن أممها جمال عبدالناصر . كان هدف المشاركة الإسرائيلية فى هذه الحرب فرض الكيان كطرف فى معادلة النظام الإقليمى للشرق الأوسط ، وكسب القبول الغربى لمنح إسرائيل دور«الدولة الوظيفية»، أى الدولة الحليف للغرب فى الشرق الأوسط القادرة على القيام بوظائف لها اعتبارها لخدمة الأهداف والمصالح الغربية فى الشرق الأوسط .

أما الحرب الثالثة فكانت عدوان يونيو 1967 التى جرى تدبيرها فى واشنطن لتحقيق هدفين، أولهما أمريكى وهو إجهاض مشروع «النهضة المصرية» والحيلولة دون تمكين مصر بزعامة جمال عبدالناصر أن تصبح قوة إقليمية قادرة على تحدى الهيمنة الغربية، وتهديد المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط . وثانيهما إسرائيلى يرمى إلى فرض إسرائيل كـ «قوة إقليمية عظمى» فى الشرق الأوسط ، عبر التمدد والتوسع فى أراضى فلسطين وأراض عربية أخرى، والتخلص نهائياً من مصر كمنافس إقليمى للمشروع الصهيونى الشرق أوسطى. هذه الحروب الثلاث كانت ترتكز على قاعدة واضحة من الفهم الاستراتيجى، وهى أنها «حروب من أجل تثبيت وجود الكيان الإسرائيلى ، وفرض «المشروع الإسرائيلى» بمفاهيمه الصهيونية والتوراتية. لذلك لم تخض إسرائيل حروب حدود مع العرب، بل خاضت حروبها ، بالأصل، مع المشروع العربى، أو بدقة أكثر، للحيلولة دون وجود مشروع عربى يكون فى مقدوره زعزعة وجود وأمن إسرائيل.

فى مقابل هذه الحروب شن العرب ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى فى أكتوبر 1973 ما يمكن اعتباره «حرباً تحريرية» للأرض التى احتلت عام 1967 . كان يمكن لهذه الحرب أن تتحول من مجرد حرب لتحرير الأرض المحتلة عام 1967 إلى حرب تأسيس لمشروع النهضة العربية، لو كانت النتائج قد تواءمت مع المقدمات. مقدمات هذه الحرب تأسست من حرب نكسة 1967 مباشرة، إذ بعد سويعات قلائل من إعلان الرئيس جمال عبدالناصر قراره التنحى عن الحكم يوم 9 يونيو 1967، انطلقت صرخة «حنحارب» المليويينية من جميع أرجاء الوطن العربى، رافضة الهزيمة ومعلنة إصرارها على «إكمال المشوار» والمشوار الذى تعنيه هو ذاته الذى كان يشكل خلفية القرار الأمريكى – الإسرائيلى بضرب وتصفية تجربة «النهضة المصرية»، أى أن الشعب العربى كان يريد للأمة أن تستعيد إرادتها لتنتصر على الهزيمة أولاً، ولتعاود بناء مشروعها ثانياً، لذلك بدأ العمل من أجل ذلك ابتداءً من يوم 10 يونيو 1967، بعودة جمال عبدالناصر لقيادة الأمة، واختيار قيادة عسكرية جديدة لإعادة بناء الجيش القادر على تحقيق النصر، ثم جاءت معركة «رأس العش» وبعدها تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات قبيل أيام من أول قمة عربية بعد النكسة فى الخرطوم التى حددت معالم الطريق العربى الجديد: «لا صلح .. لا اعتراف.. لا تفاوض مع كيان الاحتلال قبل انسحابه الكامل من كل الأراضى التى احتلت عام 1967»، ثم جاء إعلان جمال عبدالناصر لـ «بيان 30 مارس» الذى قدم مراجعة نقدية لتجربة ما قبل النكسة، وأسبابها، ومعالم الطريق لمعاودة النهوض .

لم يكتمل مشوار المراجعة وإعادة البناء بعد وفاة جمال عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، ومجيء قيادة جديدة قادت معركة الانتصار فى أكتوبر 1973 على قاعدة مفهوم «التحرير» فقط، دون الخوض فى تحويل النصر إلى «ركيزة نهوض قومى»، حيث حدث أخطر ما كان يجب ألا يحدث وهو «احتواء النصر» عبر مشروع سموه «السلام» مع كيان الاحتلال أدارته الولايات المتحدة الأمريكية ليحول دون تحويل النصر العسكرى المصري- السورى إلى انتصار للإرادة العربية ، ولوضع ركائز جديدة لمشروع عربى للنهضة . نحن الآن نواجه ونعايش هذه المخاطرة فى ظل ما بات يحدث من تآمر على الحرب العربية الثانية التى قادتها المقاومة العربية الفلسطينية فى قطاع غزة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى ابتداء من هجوم «طوفان الأقصى» فى السابع من أكتوبر 2023، أى بعد 50 عاماً كاملة من حرب الانتصار الكبير فى السادس من أكتوبر 1973 ، وامتداداً إلى معركة الصمود الشعبى الأسطورى للمقاومة الفلسطينية وللشعب الفلسطينى فى قطاع غزة دفع أثمانها عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين على مدى ما يقرب من خمسة أشهر كاملة متصلة . يحدث الآن للحرب العربية الثانية ضد كيان الاحتلال ما سبق أن حدث للحرب العربية الأولى عام 1973 ، بعد أن حققت هذه الحرب ما لم يخطر على بال. فقد هزم عشرات الآلاف من المقاتلين الأبطال فى المقاومة الفلسطينية، الجيش الذى وصف بأنه «لا يقهر» وأنهت الدور الوظيفى لكيان الاحتلال ومبرر وجوده كقلعة متقدمة للدفاع عن المصالح الغربية، ووضعت نهاية لـ «أسطورة القوة الإقليمية العظمى»، ودورها كـ «شرطى للمنطقة»، والأكثر من ذلك أنها أجرت تغييراً هائلاً فى الوعى العالمى والتعاطف العالمى مع شرعية الحقوق الفلسطينية، ولعل فى صرخة ضابط القوات الجوية الأمريكية «أورون بوشنيل» الذى أشعل النيران فى نفسه أمام مبنى السفارة الإسرائيلية فى واشنطن ما يكفى لإدراك معالم هذا التحول فى الوعى العالمى المؤيد للحقوق الفلسطينية والرافض لإسرائيل وللهيمنة الأمريكية . صرخة «لن أكون شريكاً فى الإبادة الجماعية بعد الآن.. تحيا فلسطين» يجب أن توقظ الوعى العربى بأن نجاحاً عربياً هائلاً قد تحقق بـ «طوفان الأقصى» يجب عدم التفريط فيه، وأن ما حدث يجب أن يكون مجرد «بداية» عربية جديدة لرسم معالم مستقبل عربى أفضل، وهذا لن يتحقق إلا بمواجهة مؤامرة احتواء هذا النصر وإصرارهم على تحويله إلى هزيمة.

الجديد الذى ننتظره حلمي النمنم

يُطلعنا د. محمد حسين هيكل (باشا)، في مذكراته السياسية، على الكثير من خبايا جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتى انتهت بصدور القرار ١٨١ الخاص بتقسيم فلسطين.معظمنا يعرف هيكل (باشا)، صاحب رواية زينب، الرواية العربية الأولى المكتملة فنيًّا ودراميًّا، وإن لم تكن الأولى تاريخيًّا، والتى أصدرها وهو شاب- سنة 1914 - هو أيضًا الليبرالى، صاحب كتاب «جان جاك روسو» في جزءين، وهو من أهم ما كُتب عن روسو قاطبة، لذا شاهدت صورة ضخمة لهيكل في مدخل متحف روسو في مدينة جنيف، وهو كذلك صاحب الدراسات المتميزة في مجال الإسلاميات، مثل «حياة محمد».. «فى منزل الوحى».. «الفاروق عمر» وغيرها.لكن تاريخ حسين هيكل السياسى جرى تجاهله مع الكثير من تاريخنا، خاصة في السنوات الأخيرة من العصر الملكى برموزه وأحداثه.كان هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين حين قامت ثورة يوليو 52، وترأس مجلس الشيوخ، وتولى وزارة المعارف، وفى سنة 1947، اختاره رئيس الوزراء، محمود فهمى النقراشى، كى يترأس وفد مصر في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة قضية فلسطين، خاصة أن لجنة شكلتها الجمعية لدراسة الملف، انتهت إلى التوصية بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام، قسم لليهود بنسبة 55 % من مساحة فلسطين، ويضم الساحل، بما فيه عكا وحيفا، ويترك للعرب يافا فقط على الساحل، أما القدس فتخضع لإدارة دولية.انزعجت الدول العربية، واحتشدت في الأمم المتحدة للدفاع عن عروبة فلسطين. العراق أرسل نورى السعيد على رأس الوفد، صاحب السمو الملكى الأمير فيصل بن عبدالعزيز ترأس وفد المملكة السعودية، مصر باتفاق الملك فاروق ورئيس الوزراء تكلف هيكل، وهو يومها رئيس الاتحاد الدولى للبرلمان، صاحب صلات دولية عتيدة، فضلًا عن أنه كان رئيسًا لتحرير جريدة السياسة الأسبوعية فترة طويلة، وله صلات جيدة بالصحافة الغربية، وكان محمود فوزى، وزير الخارجية الأشهر في زمن عبدالناصر، عضوًا بالوفد.نشطت الوفود العربية، ونشط وفد باكستان تحديدًا، وكان رئيسه، ظفرالله خان، من أشد المدافعين عن عروبة فلسطين، لديه إلمام واسع بتاريخ فلسطين وتفاصيل ما جرى فيها من بريطانيا والمنظمات الصهيونية، لكن صدمهم جميعًا الرئيس الأمريكى ترومان، الذي أعلن في كلمته بالجلسة الافتتاحية لاجتماعات المنظمة الدولية تأييده وتأييد بلاده مشروع التقسيم، بما أضفى حالة من التشاؤم على المشاركين العرب، حاول وزير الخارجية الأمريكى تخفيف صدمة رؤساء الوفود العربية بالقول إنهم مازالوا يفكرون، ودعاهم إلى جلسة عشاء، واستمع منهم إلى أسباب اعتراضهم على فكرة التقسيم، وأثبتت الأيام صحة مخاوفهم وتوقعاتهم، الأمير فيصل وكذا نورى السعيد قررا أن القرار سيشعل حربًا دائمة في المنطقة، د. هيكل أضاف أن التقسيم سوف يشعل أجواء العصور الوسطى والحروب الدينية مجددًا في المنطقة، وذكّر الأمريكيين بالحروب الصليبية، التي دارت معظمها في فلسطين، حول القدس، خاصة أن إسرائيل تتأسس وفق تصور دينى.وسط هذا كله، شرح رئيس وفد الإكوادور، لرئيس الوفد المصرى، وكانا صديقين، صعوبة الموقف العربى، واقترح عليه أن يقدموا مشروع قرار خاص بهم، وليكن قرار الفيدرالية في فلسطين، على غرار سويسرا.كان هناك مشروع وحيد مقدم، وهو التقسيم. قبلها بشهور، كان قرار مماثل قد صدر بخصوص تقسيم الهند، وتم تنفيذه بدماء غزيرة، في العادة إذا كان هناك مشروع واحد يتم غالبًا إقراره، حتى لو تعددت جولات التصويت، أما إذا كان هناك أكثر من مشروع يمكن التوفيق بينها، وربما تأجيل التصويت على أي منها، وإذا حدث ذلك يكون العرب قد كسبوا بعض الوقت حتى يتدبروا الأمر، طرح رئيس الوفد المصرى الاقتراح على عدد من رؤساء الوفود العربية، وتحدثوا مع ممثل فلسطين، «جمال بك الحسينى»، وكانت الأمم المتحدة قد دعته إلى الحديث عن فلسطين، كما دعت د. حاييم وايزمان، وكان كهلًا، إلى الحديث عن اليهود.كان الاقتراح خارج دائرة تكليف واختصاص رؤساء الوفود العربية، ولم يكن يحق لأى وفد عربى أن يتقدم بمشروع باسم فلسطين، وما كان الفلسطينيون يقبلون بذلك.رئيس الوفد المصرى كان متابعًا جيدًا للقضية منذ صدور وعد بلفور، ولديه الكثير من الخبايا. قبل الاجتماعات الأممية، أصدرت سلسلة اقرأ التابعة لدار المعارف كتاب «قضية فلسطين» للمؤرخ المصرى المعروف «محمد رفعت بك»، في أغسطس من السنة نفسها، وبه متابعة القضية بالتفصيل منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأنهاه باحتمالات أربعة لمسار القضية.كان مشروع التقسيم أحدها، لكن لم يكن بمقدور غير الفلسطينى أن يأخذ بأى اقتراح، لذا اقتصر دور العرب على رفض قرار التقسيم، ومحاولة تعطيل إصداره، لكن أمام نصيحة الصديق الإكوادورى، وضعوا الأمر أمام صاحب الحق الأصيل، لذا طلبوا من «جمال» أن يسافر فورًا إلى بيروت، ويجتمع بالحاج أمين الحسينى في أي مكان، ويعرض عليه الأمر، ويعود منه باقتراح مشروع فلسطينى مقابل مشروع التقسيم، رفض جمال الحسينى قائلًا إن ذلك يُعرضه للاتهام بالخيانة، وقد يُقتل.وهكذا مر قرار التقسيم بضغوط الرئيس الأمريكى شخصيًّا، كان رئيس وفد الفلبين- كما يذكر هيكل- مدافعًا قويًّا عن فلسطين، فاتصل الرئيس الأمريكى برئيس الفلبين، مهددًا، مما ألزم رئيس الوفد الفلبينى الصمت المطبق، وحدث شىء مشابه من ترومان مع عدة دول أخرى، (من ترومان إلى جو بايدن لا فارق)، ومر القرار دون أغلبية، لكن عدد الموافقين (33) تجاوز ضعف عدد الرافضين (13)، فاعتُبر صحيحًا.من الدول التي صوتت بالاعتراض، إلى جوار الدول العربية وكذا الإسلامية، الهند واليونان، ومن الدول التي وافقت الصين والاتحاد السوفيتى، وامتنعت بريطانيا عن التصويت وكذا إثيوبيا.هذه التفاصيل كلها ليست بكاء على لبن سُكب مرات عديدة في تاريخنا، ولا هي من باب التبكيت التاريخى، ولا حتى من باب التساؤل الوجودى: «ماذا.. لو؟»، لكنها تفاصيل ترتبط باللحظة الراهنة في فلسطين، وقد تكون مفيدة.حرب الطوفان كشفت أن الجيش الإسرائيلى استهدف المدنيين فقط، لم يكن يستهدف قادة حماس، كما ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلى. هذه الحرب هي أقل المواجهات استهدافًا لقادة حماس، لكنها ركزت على المواطنين المدنيين، الذين لم يشاركوا في عملية الطوفان، ولا تمت استشارتهم فيها من قبل ولا أخذ رأيهم فيها، ولا مَسَّ أحدهم إسرائيليًّا بأذى، مدنيًّا كان أو عسكريًّا، المؤكد أنهم فوجئوا بها مثل كثيرين، ومع ذلك قُتل منهم أكثر من 14 ألفًا، معظمهم أطفال ونساء وشيوخ، والمصابون أكثر من ضعف هذا الرقم، أي أننا إزاء قرابة 50 ألفًا ما بين شهيد وجريح، ناهيك عن مئات الآلاف من المشردين خارج بيوتهم، وهناك تدمير كامل للبنية الأساسية في غزة من مدارس ومستشفيات وغيرها، إنه شىء أقرب إلى ما وقع في هيروشيما ونجازاكى باليابان ومدينة درسدوف الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية، ذلك هو تاريخ الغرب في الحروب والصراعات، لا يُحدثنا أحد عن حقوق الإنسان وعن حرمة حياة المدنيين، تذكروا دائمًا مقتل نصف مليون عراقى في مطلع هذا القرن.ومع ذلك، هناك في الجانب العربى بعض الممتعضين من الهدنة، التي بدأت صباح الجمعة الماضى، بجهود مصرية وقطرية حثيثة، جاءت الهدنة مطلبًا للفصائل الفلسطينية وكذا إسرائيل. أحد الكُتاب العرب اعتبر الهدنة خطأً وخطرًا، كاتب آخر يحتج بأنه لم يتم إطلاق «كل الأسرى العرب».القتال حتى «آخر مدنى فلسطينى» موقف مدمر، بل موقف صهيونى. إذا كانت مصر قد تصدّت لمخططات التهجير القسرى وتصفية القضية، فإن القتال إلى آخر مدنى فلسطينى تصفية أخرى لها، إنهاء للوجود الفلسطينى.المشكلة الآن ألّا يتكرر موقف جمال الحسينى مجددًا، وألّا تتكرر معركة الحاج أمين الحسينى مع راغب النشاشيبى سنة 1936، بما هدد بأن تتحول الثورة الفلسطينية الكبرى إلى ما يشبه الحرب الأهلية، ويذهب فريق إلى أن الوطن القومى لليهود أفضل له من الفريق الآخر (الفلسطينى)، يجب ألّا تذهب كل تضحيات الفلسطينيين هذه المرة هباء، وتكون وقودًا لخلافات الفصائل والسلطة.هل نجد مشروعًا وطنيًّا فلسطينيًّا معلنًا يجتمع حوله الكل الفلسطينى، ويكون له رمز وطنى ودولى كبير ومسموع، مثل سعد زغلول في مصر وغاندى في الهند ومانديلا في جنوب إفريقيا وبن بلة في الجزائر؟

أما بعد حلمي النمنم

كل حروبنا مع إسرائيل، بغض النظر عن نتيجتها العسكرية، كانت تنتهى إلى حروب أهلية داخلية، عربية-عربية حينًا وحروب داخل كل بلد أو قطر، ليست بالضرورة حروبًا عسكرية، ولكن سياسية وثقافية في المقام الأول، وأظن أن تلك هي النكبة الحقيقية.وارد أن يُهزم أي جيش في معركة ما، الجيش الأمريكى هُزم في فيتنام، الجيش السوفيتى هُزم في أفغانستان، واضطر إلى الانسحاب تلقائيًّا، دونما اتفاق أو تفاوض مع الطرف الآخر.الهزيمة في حرب ١٩٤٨ كانت شبه يقينية لدى فريق من المطلعين على الأمور جيدا، لذا رفضوا دخولها في البداية، مثل النقراشى وإسماعيل صدقى باشا، بل حتى قيادات الوفد، كانت الزعامات المصرية على دراية كاملة بالقضية الفلسطينية منذ أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وكانوا على تواصل بالقيادات الفلسطينية سواء جناح الحاج أمين الحسينى أو الجناح المناوئ له، جناح «النشاشيبى».محمد فراج طايع، أول وزير خارجية في عهد اللواء محمد نجيب، نشر مذكراته في مطلع الستينيات وفيها هجوم شديد على الحكام العرب سنة ٤٨، الذين تجاهلوا رأى دبلوماسييهم في القدس بخطورة الوضع في فلسطين والتحذير من دخول الحرب، كان الوزير «طايع» أحد هؤلاء، حيث كان بالقنصلية المصرية في القدس وقتها، كان لديها نفس تقدير الموقف حربيًّا.إسرائيل كانت قائمة بالفعل وعلى الأرض قبل الحرب، وحتى قبل صدور قرار التقسيم بسنوات بعيدة، «تل أبيب» العاصمة بُنيت منذ سنة ١٩٠٩، لديهم جيش قوى، مدرب ومسلح، عندهم جهاز مخابرات نشط منذ نهاية العشرينيات، لديهم إذاعة وصحف، فضلًا عن سائر مؤسسات الدولة، كان ينقصها فقط الإشهار ورفع العَلَم والحصول على الاعتراف الأممى.لكن ما إن انتهت الحرب، حتى نسى الجميع «الكيان الصهيونى»، وتجاهلوا «إسرائيل المزعومة»، أكثر من ذلك تجاهلوا مستقبل فلسطين ومصير شعبها، وتفرغوا لحروب أهلية، افتتحها الراحل إحسان عبدالقدوس بحملته الشهيرة حول ما سماه «الأسلحة الفاسدة»، وهلّل الجميع للحملة نكاية في الملك فاروق، الذي صار أشبه بلوحة التنشين في ساحة التدريب على إطلاق الرصاص، ليس داخل مصر فقط.كتاب الصحفى الإسرائيلى رون بيرجمان «اقتل أولًا»، صدر سنة ٢٠١٨، الكتاب عن التاريخ الدموى لجهاز الموساد، حتى قبل قيام الدولة، وأنه جهاز يفضل القتل، حتى لو لم تكن هناك ضرورة لذلك، ورد فيه أن «بن جوريون» تصور مشكلة إسرائيل في الحكام العرب الذين دخلوا الحرب مع إسرائيل، لذا قرر قتلهم جميعًا، حتى مَن كان لا يمانع في الصلح والسلام مع إسرائيل، مثل الزعيم اللبنانى رياض الصلح، على هذا الأساس وصلت خلية من الموساد إلى القاهرة بهدف واحد، هو اغتيال مَن أعلن الحرب على إسرائيل الملك فاروق، ولما أطاح به محمد نجيب، وغادر مصر يوم ٢٦ يوليو ٥٢، تم تعديل الخطة، اكتشف بن جوريون أن الحكام الجدد أكثر رفضًا له من النظام الملكى، كُلفت مجموعة الموساد بالعمل في الداخل، والاستعانة باليهود المحليين، وقامت الخلية بتنفيذ العملية «سوزانا»، التي عُرفت إعلاميًّا باسم «فضيحة لافون»، حيث تم الكشف عنها، وأُلقى القبض عليهم جميعًا.لم يقتصر الأمر على الملك فاروق، جرى تبادل الاتهامات والطعن في الوطنية إلى النخب الثقافية، اتهم لطفى السيد وطه حسين، مازالت الاتهامات قائمة إلى اليوم، لفقت الصحافة العربية اتهامات للفنانة ليلى مراد بالتبرع ماليًّا لدولة إسرائيل، ثم انتقل الاتهام ونُشر في بعض الصحف المصرية التي برعت في إضافة البهارات إليه، ولما اتسعت مساحة الاتهامات قامت القوات المسلحة بالتحقيق في كل ما قيل، وتبينت براءة ليلى مراد وعُرفت الحقيقة، لكن بعد انكسار روح الفنانة المصرية العظيمة.خارج مصر، جرى اتهام ملك الأردن، عبدالله الأول، وتم اغتياله عند باب المسجد الأقصى يوم ٢٠ يوليو ١٩٥١، وتحققت أمنية بن جوريون، ولأن طاحونة التخوين والاتهامات لم تتوقف، جرى اتهام الفلسطينيين بأنهم هم مَن باعوا الأرض والوطن لليهود، لم يتردد بعض الحمقى في اتهام شعب بأكمله بالخيانة، ورد فريق من الفلسطينيين بأن فلسطين ضاعت بسبب خيانة العرب، خاصة الحكام، وأنهم كانوا قادرين من البداية على إنهاء الوجود الإسرائيلى على أرضهم، لكن «الحكام العرب» كانوا يتدخلون لمنعهم، سرديات كاملة من التخوين وأبشع الاتهامات نحو الجميع وفى كل الاتجاهات، لا تزال أصداؤها بيننا إلى اليوم.وهكذا حروب أهلية على كافة المستويات، دون الالتفات إلى الضفة الأخرى من النهر. وزعم كل فريق أنه كان بصدد القضاء على الكيان لولا أن خصومه السياسيين منعوه، وكانوا في ذلك بين مُدَّعٍ أو كاذب أو مُغَيَّب عن الحقيقة.تم التحقيق في قضية الأسلحة الفاسدة زمن الملك، ثم زمن محمد نجيب، وثبت في المرتين زيفها، لكن أحدًا لم يجرؤ على أن يرفع صوته خشية أن يُتهم بالدفاع عن «الملك الخائن» أو أن يقر بقوة «الكيان الصهيونى»، وهكذا الحال في سائر الأقوال- الاتهامات والأحكام- الأخرى.حين كان «على صبرى»، وزير دولة برئاسة الجمهورية بعث خطابًا إلى إحسان عبدالقدوس يلفت انتباهه بلطف إلى أن مسألة الأسلحة الفاسدة ليست صحيحة، فغضب إحسان بشدة من الخطاب وصاحبه.ما حدث بعد حرب ٤٨ تكرر مع كل حرب من «العدوان الثلاثى» سنة ٥٦ إلى حرب أكتوبر، لا فارق بين هزيمة أو نصر. انتصرنا في ٥٦ وفى ٧٣، في حرب الاستنزاف لم نُهزم ولم نحقق نصرًا كبيرًا، أثبت الجيش المصرى أنه لم ينتهِ مع هزيمة ٦٧، بل أُعيد بناؤه، وصار قادرًا على المواجهة وندًّا قويًّا، في حرب أكتوبر كان نصرنا كبيرًا وعظيمًا.بعض محاضر اجتماعات الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة يونيو ٦٧، ثم أثناء حرب الاستنزاف العظيمة، تكشف معاناة الرجل من تلك الحالة عربيًّا وداخل مصر.في أكتوبر ٧٣، حققت القوات المسلحة المصرية إنجازًا ضخمًا يوم السادس من أكتوبر، لكن الحروب الأهلية نشبت أثناء الحرب وبعدها، حتى إن كاتبًا كبيرًا أصدر كتابًا اعتبر الحرب مسرحية مدبرة بين السادات وجولدا مائير برعاية هنرى كيسنجر.في كل مرة تطغى الخلافات السياسية والأيديولوجية، تسود الصراعات والإحَن أو الأحقاد الخاصة، وربما بعض المطامح والتطلعات الشخصية الصغيرة، فضلًا عن الولع بالمكايدات الشخصية والسياسية.ومنذ حرب السابع من أكتوبر الماضى، ونحن نتابع شرر الحروب الأهلية العربية، الحرب لا تزال قائمة، وفيما يبدو أنها لن تتوقف قريبًا، وقد تصبح حرب استنزاف، يوم اندلاعها أثار إعلام مكايدة الدولة المصرية مسألة أن مصر كانت على علم مسبق بالعملية، وأنها نبهت إسرائيل وأحاطت حكومتها علمًا، وهذا يعنى- بين السطور- اتهام الدولة بالتعاون والتنسيق التام مع إسرائيل ضد الفلسطينيين، على مستوى الشارع المصرى والعربى هو اتهام بالخيانة، لكن هذا الاتهام يعنى عمليًّا اتهام الحكومة الإسرائيلية أمام شعبها بالتقصير والخيانة، لذا رد بنيامين نتنياهو في بيان حمل تكذيبًا حادًّا وقاطعًا، الغريب أن مَن روجوا تلك الأكذوبة خرسوا تمامًا أمام تكذيب نتنياهو، وهم عادة لا يأبهون بأى تكذيب. ثم هبّت علينا ميليشيات افتحوا الحدود أمام إخوتنا، ونجحت الدبلوماسية المصرية في إثبات «صهيونية» هذا المطلب أو الطرح.ورغم أن الدماء لا تزال تتدفق في غزة والضفة أيضًا، ورغم أن أداء الدولة المصرية في مستوى رفيع من الوطنية وحماية الحق المصرى وكذا الحق الفلسطينى، فإن أبواق المزايدة والكيد الرخيص لم تتوقف، ليس على المستوى المصرى فقط، لكنها ممتدة في كل ناحية. ألسنة الحروب الأهلية تبدو في كل بقعة حولنا وبيننا.يومًا ما، نرجوه قريبًا، ستتراجع المذابح، فهل نتفرغ وننساق إلى الحروب الأهلية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وفنيًّا واقتصاديًّا، ونتجاهل الطرف الآخر كما في كل مرة أم نتجه إلى المستقبل لاستكمال المشروع الوطنى المصرى والحفاظ عليه؟.لقد أكدت الأحداث الأخيرة أن المشروع الوطنى ليس حذلقة سياسية ولا وجاهة فكرية، كما يتراءى للبعض، بل هو ضرورة وجودية، كما أنها وجوبية.ومن ضرورات المشروع الوطنى المصرى العمل على إقامة دولة فلسطينية، مستقلة، معترف بها أمميًّا، تتجمد بقيامها بحيرات الدم، وتزول الروح العنصرية المقيتة، وتتراجع دوافع الإرهاب، أيًّا كان مصدره ومَن يرتكبه وأيًّا كان اسمه وشكله أو اللافتة التي يختبئ خلفها.

بحيرات الدم حلمي النمنم

مَن لديه إحاطة، ولو محدودة، بالثقافة والفكر الغربى يدرك بعض الملامح الأساسية فى ذلك الفكر، بعضها إيجابى وبَنّاء، نعرفه وندرسه، منذ رحلة أو بعثة رفاعة رافع الطهطاوى الشهيرة إلى فرنسا فى زمن محمد على.وفيها كذلك ما هو سلبى ومدمر، من ذلك كراهية عميقة لليهود، اليهود كأفراد ومجموعات بشرية وليس الديانة اليهودية، راجع- مثلًا- شخصية «شيلوك»، المُرابى المجرم فى مسرحية وليم شكسبير «تاجر البندقية». فى عديد من الأعمال الأدبية والفكرية الأوروبية من السهل أن تجد إشارات ازدراء لليهود، ليس من باب التفكه والتندر، بل من باب الكراهية البغيضة والعنصرية المباشرة.فيما بعد، ومع نهاية القرن التاسع عشر، سوف يتم تصنيف ذلك كله تحت اسم «العداء للسامية»، خاصةً أن ذلك الازدراء انتقل إلى الشارع، وربما كان موجودًا من قبل، واقعة الجندى الفرنسى/ اليهودى «دريفوس» كانت كاشفة ودليلًا على ذلك العداء، جرَت الواقعة فى فرنسا، ولم تقع فى مصر ولا شرق «المتوسط».إلى جوار هذه الكراهية، هناك كراهية شديدة للإسلام دينًا ونبيًّا وتاريخًا، ليس صحيحًا أن ذلك مرتبط بحالة «الإسلاموفوبيا»، التى تفشت مع جريمة ١١ سبتمبر وشبح أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة (الإرهابى).الجذر الثقافى قديم، لن نتوقف أمام كثير من أعمال المستشرقين، التى تنضح بالكراهية والخلل العلمى والمعرفى الشديد، لكن هناك أعمال أدبية وفنية كاشفة، مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتى، ودون كيخوته للإسبانى سيرفانتس، ومسرحية فولتير الشهيرة عن النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- ولما كان الإسلام الأول عربيًّا، ثقافة وفكرًا وحضارة، لذا تجسد ذلك فى كراهية العرب بالمجمل.أولئك الذين صنعوا ذلك التاريخ، خاصة فى حواضره الكبرى، بلاد الشام ومصر والعراق، حيث الدول الأموية والعباسية ثم الفاطمية وكذا الأيوبية والمملوكية، حقبة الحروب الصليبية تجسد تلك الكراهية. جرى معظمها على أراضى فلسطين ومصر، تاريخيًّا حسم أمر تلك الحملات فى مصر وفلسطين، ما بين المنصورة ودمياط والقدس.ما قام به الغرب من إزاحة سكان الأندلس، وكانوا جميعًا من المسلمين واليهود، يعكس ذلك التوجه الثقافى الدفينالعصر الحديث، لم تسقط تلك الكراهية، ولكن جرى التعبير عنها بطرق مختلفة، طريقة أودلف هتلر، الزعيم الألمانى، بالتخلص المباشر من اليهود فى أفران الغاز، خلال الحرب العالمية الثانية، وقد ثار نقاش مطول حول عدد مَن أُحرقوا والمواد التى استُعملت، بالمناسبة طُرح هذا النقاش داخل أوروبا أولًا، ثم انتقل إلينا، وهذا لا يؤثر كثيرًا، إحراق مواطن واحد جريمة كبرى، فما بالنا بمَن يحرق ملايين، أيًّا كان الرقم!.كان هتلر عنصريًّا يكره اليهود ويرغب فى التخلص منهم، ولكن على طريقته النازية، أى الإبادة الجماعية.بقية الغرب أو أعضاء ما يسمى «العالم الحر» لديهم نفس الثقافة تجاه اليهود، ولكن بغير الطريقة النازية، لذا قرروا التخلص منهم بطريقة أخرى، وهى إزاحتهم من أوروبا والولايات المتحدة، بلاد الغرب عمومًا إلى بلاد الشرق، بلاد العرب فى فلسطين تحديدًا، حيث قبر ومجد صلاح الدين الأيوبى، وهنا تكون المحرقة للاثنين معًا، اليهود والعرب، ويتخلص الغرب بذلك من الإحن والعقد الثقافية التى تحكمه. يحدث ذلك باسم الحب لليهود والتعاطف معهم، تم اختزال اليهود فى اتباع وأهداف الحركة الصهيونية.قبل وعد بلفور بسنة- ١٩١٦- صدر وعد ألمانى مشابه من قيصر أو إمبراطور ألمانيا «فيلهم الثانى»، نعرفه نحن باسم «غليوم الثانى»، ولما كانت الهزيمة فى انتظار ألمانيا جرى تجاهل وعده من المنظمة الصهيونية والتمسك بوعد لورد بلفور، وزير الخارجية البريطانى.حين صدر وعد بلفور، ثم بدأ تنفيذه مع الانتداب البريطانى على فلسطين، كان واضحًا للجميع أن الدم ينتظر ذلك الوعد، كانت فلسطين مزدحمة بالأهالى، كانت الكثافة السكانية فى القدس وقتها تفوق الكثافة السكانية فى مدينة نيويورك وفق تقرير علمى موثق، لكنهم زعموا أن فلسطين أرض بلا شعب، كانوا يعرفون ويدفعون الأمور نحو القتل والدم، دماء العرب واليهود، كان ممكنًا، بل واجبًا، بذل الجهود لتلافى ذلك بدفع الأمور نحو التعايش والتفاهم فى فلسطين.وكان ذلك يسيرًا، هناك العديد من الشواهد عليه داخل فلسطين نفسها وبين الفلسطينيين، سواء فى القرن العشرين أو قبل ذلك بقرون، ذلك أن أرض فلسطين تضم تاريخًا روحيًّا عميقًا ومقدسات إسلامية ومسيحية ويهودية، من ثَمَّ هى أرض التعايش والتوادّ والتسامح، لكن مع خفة واستسهال، لنقل استهبال، تصير أرض الدماء الغزيرة، وهذا ما جرى العمل عليه مع الانتداب البريطانى، تمت إثارة النفوس وإسالة المزيد من الدماء.ليتنا نتذكر أن فكرة تقسيم فلسطين فى الأصل مقترح بريطانى أُعلن سنة ١٩٣٦، كان ذلك قبل نشوب الحرب العالمية الثانية وقبل توحش هتلر وقيامه بالمحرقة، كان ذلك الاقتراح أحد أسباب الثورة الفلسطينية الكبرى فى السنة نفسها، وبدلًا من تفهم الوضع، أخفت بريطانيا الاقتراح فى الأدراج انتظارًا لفرصة ثانية، أفكارهم ومشروعاتهم لا تموت، يمكن أن تُرجأ فقط.وليس صحيحًا ما يتردد فى الأدبيات العربية، خاصة فى الأيام الأخيرة، من أن الدم تدفق مع قرار التقسيم فى نوفمبر سنة ١٩٤٧ ثم حرب ١٩٤٨ وإلى يومنا هذا.. الدماء تسيل على أرض فلسطين منذ مائة عام. كانت أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وقد سبقتها بسنوات صدامات وأعمال عنف حول القدس وفى مدينة الخليل، كل تلك الوقائع كانت تنذر بالخطر القادم، لم يكن اللهب تحت الرماد، بل كان قريبًا جدًّا من السطح، بوادر الاشتعال كانت ظاهرة للعيان، لكن دول الغرب، وفى مقدمتها «بريطانيا العظمى»، دفعت نحو المزيد من التفاقم والدماء. فعلت ذلك عن قصد.واليوم، يجب ألا نندهش من موقف الرئيس جو بايدن، منذ يوم السابع من أكتوبر، تصرف باعتباره طرفًا رئيسًا فى القتال وليس صانعًا ولا راغبًا فى السلام، قدم السلاح والذخيرة إلى إسرائيل، أرسل حاملة الطائرات جيرالد فورد، ثم غواصة نووية إلى ساحل «المتوسط» قبالة فلسطين، أعلن أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، هدد الدول المجاورة من محاولة التدخل فى القتال، يحاول الضغط على الدولة المصرية للقبول بتفريغ غزة من سكانها، ثم فوجئنا بوجود قاعدة عسكرية أمريكية فى صحراء النقب على بُعد ٣٢ كيلومترًا من غزة، تضم القاعدة رادارًا يرصد أى طيران أو صواريخ تحاول أن تتجه نحو إسرائيل، كل هذا، ولا يضغط لوقف إطلاق النار.نصف هذا الجهد أو ربعه كان يكفى لمنع اشتعال النيران، خاصة أن لدى الإدارة الأمريكية قنوات اتصال مع القيادة السياسية لحماس منذ سنوات، تصريحات السفير القطرى لدى الأمم المتحدة واضحة بأن الإدارة الأمريكية طلبت من قطر استضافة قيادة حماس ليسهل التواصل معهم.حتى بعدما وقع يوم السابع من أكتوبر الماضى، كانت هناك طرق أخرى عديدة للرد والردع، لكن الهدف العميق هو الإبادة وإقامة المحرقة للعرب واليهود معًا.سوف تنتهى هذه الحرب، لكن لن تكون آخر الحروب ولا آخر العمليات الدموية، حتى «لابيد»، زعيم المعارضة فى إسرائيل، قال، مساء الخميس، على قناة العربية، إنه مع حل الدولتين، لكن الطريق إليه «طويل وبالغ التعقيد»، أى لا تتوقعوا قيام الدولة الفلسطينية قريبًا، هو استعمل جملة أن حل الدولتين لن يتحقق «فى المنظور القريب». هو تعبير مفتوح، هذا المنظور قد يمتد إلى جيل أو نصف قرن، وربما لقرن آخر.أما عن المقاومة الفلسطينية وحماس تحديدا، وما قامت به، فإن القضية الفلسطينية قائمة وملف الدم مفتوح قبل ظهور حماس بأكثر من أربعة عقود، وتؤكد الوقائع أن حماس لا تسيطر على الضفة الغربية، حيث تتواجد السلطة الوطنية الفلسطينية، ورغم ذلك قتلت إسرائيل أكثر من ١٦٠ فلسطينيا فى الضفة منذ اندلاع الحرب الأخيرة، كما أن حماس لا تسيطر على القدس ودائما المواجهات مشتعلة بها.يعلمنا التاريخ أن كل احتلال يفرز المقاومة التى يستحقها وتليق به، فالاحتلال البريطانى للهند أفرز زعيما فى قامة غاندى، وفى مصر مصطفى كامل ثم سعد زغلول وثورة سنة ١٩١٩.الاحتلال الإسرائيلى، الذى لم يحتمل إسحق رابين ولا ياسر عرفات، وتخلص منهما، الأول بالرصاص والثانى كما تردد بالسم، عليه أن يستقبل وينتظر ما بعد حماس والجهاد والشعبية، على الناحية الأخرى، هم يقدمون السلاح ويسعدون ببحيرات الدم عربيًّا ويهوديًّا. البحيرات لن تجف قريبًا. لم تمتلئ بعد.

فلسطين ليست الأندلس حلمي النمنم

اختفت الأندلس من الواقع الإنسانى والسياسى والاجتماعى.. لم يختفِ الاسم فقط، بل اختفى وزال كل شىء، بقى منها بعض الأطلال وبعض المشاهد للذكرى فقط، ولدينا التراث الأدبى والثقافى الأندلسى الذي يذكّرنا بفداحة الخسارة الإنسانية.حين هُزم الجيش العربى أمام جيش فرديناندو وإيزابيلا، بقيت الأندلس.. وحتى حين وقّع آخر الأمراء معاهدة الصلح وغادر بلاده، كان هناك المجتمع والثقافة الأندلسية العظيمة.. حدث الزوال مع التهجير القسرى أو الطرد الجماعى لسكانها.في البداية، فُرض عليهم تغيير دينهم، لكن بقيت ثقافتهم وبقى وجودهم الحضارى.. هنا نشأت محاكم التفتيش لتتتبعهم، وصل الأمر إلى أن من كان يرتدى ملابس بيضاء يوم الجمعة يُتهم ويحاكم.. أخيرا كان القرار المفزع بإجبارهم على مغادرة البلاد نهائيا.. هناك من ذهبوا إلى المغرب وإلى الجزائر وتونس، احتفظوا بتسمية «الموريسكيين»، وهناك من جاءوا إلى مصر بأعداد كبيرة، كانوا مسلمين وكانوا يهودا.الطرد كان من نصيب الاثنين معًا، أحسنَ المصريون استقبالهم فعاشوا واندمجوا، ذابوا وسط المصريين، تمصروا تماما، من هؤلاء كان «أبوالعباس المرسى»، المتصوف الذي أحبه أهل الإسكندرية، وصار من رموزها وأعلامها إلى اليوم. أصدرت عنه مؤخرا الروائية الموهوبة ريم بسيونى روايتها «ماريو وأبوالعباس».ربما كان حظ أهل الأندلس الذين وفدوا إلى مصر أفضل من أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد أخرى، خاصةً جنوب فرنسا أو العالم الجديد.. في بعض البلدان قُبض عليهم وعرضوا في أسواق العبيد.. في النهاية، ذابت الأندلس واختفت باختفاء أهلها. أذيب شعبٌ بأكمله واختفى من الوجود، ربما كان ذلك واردًا في العصور القديمة والوسطى ومطلع العصر الحديث.ويبدو أن هناك إصرارًا غربيًا بريطانيًا وأمريكيًا وإسرائيليًا، في المقام الأول، على تكرار النمط نفسه في فلسطين، لكن عبر خطوات ومراحل وأجيال.في العام ١٩٤٧، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم القارة الهندية إلى دولتين هما: الهند وباكستان، على أن تضم باكستان المسلمين، وتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة لليهود وأخرى للعرب. وكانت بريطانيا تحتل الهند وتحتل فلسطين أو صاحبة الانتداب عليها، كانت بريطانيا قد بدأت في تصفية بعض مستعمراتها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أفلت شمسها وتقدمت الولايات المتحدة.. في حالة الهند، حرصت بريطانيا على أن يتم إعلان قيام واستقلال الهند وباكستان قبل أن تخرج من هناك، ورسمت الحدود بين الدولتين بإقناع قيادات ورموز كل جانب من الإمبراطورية، وتم توزيع السكان في بعض مناطق التماس.. طبعا، وقعت مآسٍ ومجازر مع تلك الحركة، لكن في النهاية هناك دولتان معترف بهما، وإنْ عُلِّقت بعض مشاكل الحدود، مثل تلك التي نراها في مناطق عديدة حول العالم.في فلسطين، فعلت بريطانيا العكس، قررت الانسحاب من فلسطين نهائيًا قبل منتصف مايو سنة ١٩٤٨، خرجت بريطانيا دون ترتيب الأوضاع، ودون تنفيذ قرار التقسيم، دون حتى إجراءات تسليم وتسلم... في مصر حين كانت بريطانيا تخرج من مدينة كانت تقوم بعملية تسليم للسلطات المحلية والحكومة الوطنية، فعلت ذلك بعد تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، ثم بعد معاهدة ١٩٣٦، وأخيرا بعد توقيع معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤.في فلسطين، يمكن القول إنهم هربوا وتركوا السكان أبناء الوطن وكذلك المهاجرون اليهود، كانت بريطانيا تعلم أن الأمور متفاقمة وستنفجر حتما في فلسطين، ويبدو أن ذلك ما كانوا يسعون إليه.نظريًا، تركت بريطانيا الفلسطينيين واليهود يواجهون بعضهم البعض، وأشاعوا وقتها أنهم لا يريدون التدخل بين العرب واليهود، يفضلون الحياد.عمليًا، كانت بريطانيا، منذ وعد وزير خارجيتها لورد بلفور سنة ١٩١٧ مع اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، تدعم بكل قوة ودهاء إقامة دولة إسرائيل وتستبعد إقامة وبناء دولة فلسطين.. منذ العشرينيات، كانت بريطانيا تدعم الهجرات اليهودية الكثيفة إلى فلسطين بذرائع إنسانية، ثم راحت تتحدث منذ سنة ١٩٣٦، قبل الهولوكوست عن تقسيم فلسطين.الآن، وصلنا إلى اللحظة الفاصلة تاريخيا؛ وهى تكرار ما حدث في الأندلس بإزاحة الفلسطينيين جميعًا من وطنهم وبلادهم.. بدأ السيناريو بمذابح وإبادة أكبر عدد منهم لترويع الآخرين.. والحق أن ما يقع اليوم ليس جديدًا. يتحدث بعض المعلقين باندهاش بالغ عن قتل الأطفال والنساء والمذابح في «غزة»، وماذا عن مذبحة دير ياسين وكفر قاسم سنة ١٩٤٨؟.. ماذا عن مقتل الطفل «محمد الدرة» قبل أكثر من عشرين عاما؟.. هل نسينا مقتل زميلتنا «شيرين أبوعاقلة» العام الماضى؟، ونحن في مصر، ألم نعش مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية أثناء حرب الاستنزاف ونحن أطفال؟.. وقتها ألغت وزارة التربية «الفسحة الطويلة»، خوفا علينا من احتمال وقوع غارات إسرائيلية على المدارس أثناءها. لا أظن أن أبناء جيلى نسوا تلك الأيام.ليتنا ننفض عن ذاكرتنا غبار النسيان وأحاديث السلام المجانى ورومانسية التطبيع.المذابح والمجازر البشرية لم تنجح في دفع الفلسطينيين إلى المغادرة، وبتنا الآن أمام المرحلة الفاصلة وهى الطرد الجماعى أو التهجير القسرى.. الفكرة قديمة، بدأ الحديث عنها بعد حرب ٦٧، لكنها مطروحة للتنفيذ الآن، والهدف أن تستقبل تركيا عدة آلاف، وكذا بعض الدول الإسلامية والأوروبية، وأن تستوعب مصر أكبر عدد منهم، ليس هذا فقط، بل حددوا الشريط الحدودى في سيناء لبناء مخيمات لاجئين لأهل غزة.. مصريًّا، لا نقبل بوجود مخيمات ولا يليق بمصر العظيمة أن تقيم «جيتو» للأشقاء.. الثقافة المصرية الإنسانية لم تسمح يومًا بجيتو على أرضها، نعيش التواصل والانفتاح الإنسانى.. دعك الآن من محاولة العبث بالوطنية المصرية.عمومًا، الدولة المصرية رفضت ذلك قطعيا.. الرئيس عبدالفتاح السيسى أعلنها واضحة، قاطعة: رفض التهجير القسرى ورفض تصفية القضية الفلسطينية. الفلسطينيون أكدوا عبر كل المستويات أنهم لن يغادروا وطنهم، باقون حتى الموت، استوعبوا تجربة حرب ٤٨، الذين غادروا وقتها قيل لهم ثلاثة أيام على الأكثر، حتى تهدأ الأمور وتعودون.. لكن لم يسمح لهم بالعودة إلى يومنا هذا، وتقول إسرائيل إنها لن تسمح لهم ولن تقبل بهم، رغم وجود قرار من الأمم المتحدة بحقهم في العودة.يبدو أن احتفاء المصريين بالأشقاء من السودان والعراق وليبيا وسوريا أغرى بعض قصار النظر والفهم بأنه يمكن إزاحة ٢ مليون فلسطينى. يقولون إن لدى مصر أكثر من تسعة ملايين من الأشقاء.. وهذا صحيح.. لكن هؤلاء جميعًا ضيوف، وإقامتهم في مصر ليست بهدف القضاء على بلادهم وأوطانهم ولا بغرض تذويب وانقراض شعب بأكمله.ما يحدث في غزة وكل فلسطين منذ يوم السبت السابع من أكتوبر يثير بعض المغرمين بفكرة المؤامرة في كل اتجاه. صحيح أن هناك الكثير من المعلومات ليست واضحة، والعديد من التساؤلات بل الشكوك.. كل هذا مشروع.. المعلومات سوف تتكشف، والخفى سوف يظهر ويعلن، لكن القضية الكبرى الآن هي ألا نقبل بوجود أندلس أخرى.. فلسطين ليست الأندلس.. القدس ليست قرطبة.. ولا يصح أن نسمح بذلك وإلا فلا معنى للقانون الدولى ولا حقوق الإنسان ولا معنى للوطن وعصر الحريات والديمقراطية.هنا علينا أن نعمل بكل قوة لدعم صمود وبقاء الشعب الفلسطينى داخل فلسطين بتقديم كل ما هو ممكن.. وأثق بأن القمة العربية المقبلة في الرياض سوف تتخذ خطوات وقرارات في هذا الصدد.علينا كذلك أن نضغط بكل الوسائل المشروعة لإقامة دولة فلسطين، مستقلة وذات سيادة.. الضمان الأقوى لبقاء إسرائيل وأمنها هو وجود دولة فلسطين كاملة السيادة والاستقلال.

أما بعد حلمي النمنم

كل حروبنا مع إسرائيل، بغض النظر عن نتيجتها العسكرية، كانت تنتهى إلى حروب أهلية داخلية، عربية-عربية حينًا وحروب داخل كل بلد أو قطر، ليست بالضرورة حروبًا عسكرية، ولكن سياسية وثقافية في المقام الأول، وأظن أن تلك هي النكبة الحقيقية.وارد أن يُهزم أي جيش في معركة ما، الجيش الأمريكى هُزم في فيتنام، الجيش السوفيتى هُزم في أفغانستان، واضطر إلى الانسحاب تلقائيًّا، دونما اتفاق أو تفاوض مع الطرف الآخر.الهزيمة في حرب ١٩٤٨ كانت شبه يقينية لدى فريق من المطلعين على الأمور جيدا، لذا رفضوا دخولها في البداية، مثل النقراشى وإسماعيل صدقى باشا، بل حتى قيادات الوفد، كانت الزعامات المصرية على دراية كاملة بالقضية الفلسطينية منذ أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وكانوا على تواصل بالقيادات الفلسطينية سواء جناح الحاج أمين الحسينى أو الجناح المناوئ له، جناح «النشاشيبى».محمد فراج طايع، أول وزير خارجية في عهد اللواء محمد نجيب، نشر مذكراته في مطلع الستينيات وفيها هجوم شديد على الحكام العرب سنة ٤٨، الذين تجاهلوا رأى دبلوماسييهم في القدس بخطورة الوضع في فلسطين والتحذير من دخول الحرب، كان الوزير «طايع» أحد هؤلاء، حيث كان بالقنصلية المصرية في القدس وقتها، كان لديها نفس تقدير الموقف حربيًّا.إسرائيل كانت قائمة بالفعل وعلى الأرض قبل الحرب، وحتى قبل صدور قرار التقسيم بسنوات بعيدة، «تل أبيب» العاصمة بُنيت منذ سنة ١٩٠٩، لديهم جيش قوى، مدرب ومسلح، عندهم جهاز مخابرات نشط منذ نهاية العشرينيات، لديهم إذاعة وصحف، فضلًا عن سائر مؤسسات الدولة، كان ينقصها فقط الإشهار ورفع العَلَم والحصول على الاعتراف الأممى.لكن ما إن انتهت الحرب، حتى نسى الجميع «الكيان الصهيونى»، وتجاهلوا «إسرائيل المزعومة»، أكثر من ذلك تجاهلوا مستقبل فلسطين ومصير شعبها، وتفرغوا لحروب أهلية، افتتحها الراحل إحسان عبدالقدوس بحملته الشهيرة حول ما سماه «الأسلحة الفاسدة»، وهلّل الجميع للحملة نكاية في الملك فاروق، الذي صار أشبه بلوحة التنشين في ساحة التدريب على إطلاق الرصاص، ليس داخل مصر فقط.كتاب الصحفى الإسرائيلى رون بيرجمان «اقتل أولًا»، صدر سنة ٢٠١٨، الكتاب عن التاريخ الدموى لجهاز الموساد، حتى قبل قيام الدولة، وأنه جهاز يفضل القتل، حتى لو لم تكن هناك ضرورة لذلك، ورد فيه أن «بن جوريون» تصور مشكلة إسرائيل في الحكام العرب الذين دخلوا الحرب مع إسرائيل، لذا قرر قتلهم جميعًا، حتى مَن كان لا يمانع في الصلح والسلام مع إسرائيل، مثل الزعيم اللبنانى رياض الصلح، على هذا الأساس وصلت خلية من الموساد إلى القاهرة بهدف واحد، هو اغتيال مَن أعلن الحرب على إسرائيل الملك فاروق، ولما أطاح به محمد نجيب، وغادر مصر يوم ٢٦ يوليو ٥٢، تم تعديل الخطة، اكتشف بن جوريون أن الحكام الجدد أكثر رفضًا له من النظام الملكى، كُلفت مجموعة الموساد بالعمل في الداخل، والاستعانة باليهود المحليين، وقامت الخلية بتنفيذ العملية «سوزانا»، التي عُرفت إعلاميًّا باسم «فضيحة لافون»، حيث تم الكشف عنها، وأُلقى القبض عليهم جميعًا.لم يقتصر الأمر على الملك فاروق، جرى تبادل الاتهامات والطعن في الوطنية إلى النخب الثقافية، اتهم لطفى السيد وطه حسين، مازالت الاتهامات قائمة إلى اليوم، لفقت الصحافة العربية اتهامات للفنانة ليلى مراد بالتبرع ماليًّا لدولة إسرائيل، ثم انتقل الاتهام ونُشر في بعض الصحف المصرية التي برعت في إضافة البهارات إليه، ولما اتسعت مساحة الاتهامات قامت القوات المسلحة بالتحقيق في كل ما قيل، وتبينت براءة ليلى مراد وعُرفت الحقيقة، لكن بعد انكسار روح الفنانة المصرية العظيمة.خارج مصر، جرى اتهام ملك الأردن، عبدالله الأول، وتم اغتياله عند باب المسجد الأقصى يوم ٢٠ يوليو ١٩٥١، وتحققت أمنية بن جوريون، ولأن طاحونة التخوين والاتهامات لم تتوقف، جرى اتهام الفلسطينيين بأنهم هم مَن باعوا الأرض والوطن لليهود، لم يتردد بعض الحمقى في اتهام شعب بأكمله بالخيانة، ورد فريق من الفلسطينيين بأن فلسطين ضاعت بسبب خيانة العرب، خاصة الحكام، وأنهم كانوا قادرين من البداية على إنهاء الوجود الإسرائيلى على أرضهم، لكن «الحكام العرب» كانوا يتدخلون لمنعهم، سرديات كاملة من التخوين وأبشع الاتهامات نحو الجميع وفى كل الاتجاهات، لا تزال أصداؤها بيننا إلى اليوم.وهكذا حروب أهلية على كافة المستويات، دون الالتفات إلى الضفة الأخرى من النهر. وزعم كل فريق أنه كان بصدد القضاء على الكيان لولا أن خصومه السياسيين منعوه، وكانوا في ذلك بين مُدَّعٍ أو كاذب أو مُغَيَّب عن الحقيقة.تم التحقيق في قضية الأسلحة الفاسدة زمن الملك، ثم زمن محمد نجيب، وثبت في المرتين زيفها، لكن أحدًا لم يجرؤ على أن يرفع صوته خشية أن يُتهم بالدفاع عن «الملك الخائن» أو أن يقر بقوة «الكيان الصهيونى»، وهكذا الحال في سائر الأقوال- الاتهامات والأحكام- الأخرى.حين كان «على صبرى»، وزير دولة برئاسة الجمهورية بعث خطابًا إلى إحسان عبدالقدوس يلفت انتباهه بلطف إلى أن مسألة الأسلحة الفاسدة ليست صحيحة، فغضب إحسان بشدة من الخطاب وصاحبه.حدث بعد حرب ٤٨ تكرر مع كل حرب من «العدوان الثلاثى» سنة ٥٦ إلى حرب أكتوبر، لا فارق بين هزيمة أو نصر. انتصرنا في ٥٦ وفى ٧٣، في حرب الاستنزاف لم نُهزم ولم نحقق نصرًا كبيرًا، أثبت الجيش المصرى أنه لم ينتهِ مع هزيمة ٦٧، بل أُعيد بناؤه، وصار قادرًا على المواجهة وندًّا قويًّا، في حرب أكتوبر كان نصرنا كبيرًا وعظيمًا.بعض محاضر اجتماعات الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة يونيو ٦٧، ثم أثناء حرب الاستنزاف العظيمة، تكشف معاناة الرجل من تلك الحالة عربيًّا وداخل مصر.في أكتوبر ٧٣، حققت القوات المسلحة المصرية إنجازًا ضخمًا يوم السادس من أكتوبر، لكن الحروب الأهلية نشبت أثناء الحرب وبعدها، حتى إن كاتبًا كبيرًا أصدر كتابًا اعتبر الحرب مسرحية مدبرة بين السادات وجولدا مائير برعاية هنرى كيسنجر.في كل مرة تطغى الخلافات السياسية والأيديولوجية، تسود الصراعات والإحَن أو الأحقاد الخاصة، وربما بعض المطامح والتطلعات الشخصية الصغيرة، فضلًا عن الولع بالمكايدات الشخصية والسياسية.ومنذ حرب السابع من أكتوبر الماضى، ونحن نتابع شرر الحروب الأهلية العربية، الحرب لا تزال قائمة، وفيما يبدو أنها لن تتوقف قريبًا، وقد تصبح حرب استنزاف، يوم اندلاعها أثار إعلام مكايدة الدولة المصرية مسألة أن مصر كانت على علم مسبق بالعملية، وأنها نبهت إسرائيل وأحاطت حكومتها علمًا، وهذا يعنى- بين السطور- اتهام الدولة بالتعاون والتنسيق التام مع إسرائيل ضد الفلسطينيين، على مستوى الشارع المصرى والعربى هو اتهام بالخيانة، لكن هذا الاتهام يعنى عمليًّا اتهام الحكومة الإسرائيلية أمام شعبها بالتقصير والخيانة، لذا رد بنيامين نتنياهو في بيان حمل تكذيبًا حادًّا وقاطعًا، الغريب أن مَن روجوا تلك الأكذوبة خرسوا تمامًا أمام تكذيب نتنياهو، وهم عادة لا يأبهون بأى تكذيب. ثم هبّت علينا ميليشيات افتحوا الحدود أمام إخوتنا، ونجحت الدبلوماسية المصرية في إثبات «صهيونية» هذا المطلب أو الطرح.ورغم أن الدماء لا تزال تتدفق في غزة والضفة أيضًا، ورغم أن أداء الدولة المصرية في مستوى رفيع من الوطنية وحماية الحق المصرى وكذا الحق الفلسطينى، فإن أبواق المزايدة والكيد الرخيص لم تتوقف، ليس على المستوى المصرى فقط، لكنها ممتدة في كل ناحية. ألسنة الحروب الأهلية تبدو في كل بقعة حولنا وبيننا.يومًا ما، نرجوه قريبًا، ستتراجع المذابح، فهل نتفرغ وننساق إلى الحروب الأهلية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وفنيًّا واقتصاديًّا، ونتجاهل الطرف الآخر كما في كل مرة أم نتجه إلى المستقبل لاستكمال المشروع الوطنى المصرى والحفاظ عليه؟.لقد أكدت الأحداث الأخيرة أن المشروع الوطنى ليس حذلقة سياسية ولا وجاهة فكرية، كما يتراءى للبعض، بل هو ضرورة وجودية، كما أنها وجوبية.ومن ضرورات المشروع الوطنى المصرى العمل على إقامة دولة فلسطينية، مستقلة، معترف بها أمميًّا، تتجمد بقيامها بحيرات الدم، وتزول الروح العنصرية المقيتة، وتتراجع دوافع الإرهاب، أيًّا كان مصدره ومَن يرتكبه وأيًّا كان اسمه وشكله أو اللافتة التي يختبئ خلفها.

فلسطين ليست الأندلس حلمي النمنم

اختفت الأندلس من الواقع الإنسانى والسياسى والاجتماعى.. لم يختفِ الاسم فقط، بل اختفى وزال كل شىء، بقى منها بعض الأطلال وبعض المشاهد للذكرى فقط، ولدينا التراث الأدبى والثقافى الأندلسى الذي يذكّرنا بفداحة الخسارة الإنسانية.حين هُزم الجيش العربى أمام جيش فرديناندو وإيزابيلا، بقيت الأندلس.. وحتى حين وقّع آخر الأمراء معاهدة الصلح وغادر بلاده، كان هناك المجتمع والثقافة الأندلسية العظيمة.. حدث الزوال مع التهجير القسرى أو الطرد الجماعى لسكانها.في البداية، فُرض عليهم تغيير دينهم، لكن بقيت ثقافتهم وبقى وجودهم الحضارى.. هنا نشأت محاكم التفتيش لتتتبعهم، وصل الأمر إلى أن من كان يرتدى ملابس بيضاء يوم الجمعة يُتهم ويحاكم.. أخيرا كان القرار المفزع بإجبارهم على مغادرة البلاد نهائيا.. هناك من ذهبوا إلى المغرب وإلى الجزائر وتونس، احتفظوا بتسمية «الموريسكيين»، وهناك من جاءوا إلى مصر بأعداد كبيرة، كانوا مسلمين وكانوا يهودا.الطرد كان من نصيب الاثنين معًا، أحسنَ المصريون استقبالهم فعاشوا واندمجوا، ذابوا وسط المصريين، تمصروا تماما، من هؤلاء كان «أبوالعباس المرسى»، المتصوف الذي أحبه أهل الإسكندرية، وصار من رموزها وأعلامها إلى اليوم. أصدرت عنه مؤخرا الروائية الموهوبة ريم بسيونى روايتها «ماريو وأبوالعباس».ربما كان حظ أهل الأندلس الذين وفدوا إلى مصر أفضل من أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد أخرى، خاصةً جنوب فرنسا أو العالم الجديد.. في بعض البلدان قُبض عليهم وعرضوا في أسواق العبيد.. في النهاية، ذابت الأندلس واختفت باختفاء أهلها. أذيب شعبٌ بأكمله واختفى من الوجود، ربما كان ذلك واردًا في العصور القديمة والوسطى ومطلع العصر الحديث.ويبدو أن هناك إصرارًا غربيًا بريطانيًا وأمريكيًا وإسرائيليًا، في المقام الأول، على تكرار النمط نفسه في فلسطين، لكن عبر خطوات ومراحل وأجيال.في العام ١٩٤٧، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم القارة الهندية إلى دولتين هما: الهند وباكستان، على أن تضم باكستان المسلمين، وتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة لليهود وأخرى للعرب. وكانت بريطانيا تحتل الهند وتحتل فلسطين أو صاحبة الانتداب عليها، كانت بريطانيا قد بدأت في تصفية بعض مستعمراتها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أفلت شمسها وتقدمت الولايات المتحدة.. في حالة الهند، حرصت بريطانيا على أن يتم إعلان قيام واستقلال الهند وباكستان قبل أن تخرج من هناك، ورسمت الحدود بين الدولتين بإقناع قيادات ورموز كل جانب من الإمبراطورية، وتم توزيع السكان في بعض مناطق التماس.. طبعا، وقعت مآسٍ ومجازر مع تلك الحركة، لكن في النهاية هناك دولتان معترف بهما، وإنْ عُلِّقت بعض مشاكل الحدود، مثل تلك التي نراها في مناطق عديدة حول العالم.في فلسطين، فعلت بريطانيا العكس، قررت الانسحاب من فلسطين نهائيًا قبل منتصف مايو سنة ١٩٤٨، خرجت بريطانيا دون ترتيب الأوضاع، ودون تنفيذ قرار التقسيم، دون حتى إجراءات تسليم وتسلم... في مصر حين كانت بريطانيا تخرج من مدينة كانت تقوم بعملية تسليم للسلطات المحلية والحكومة الوطنية، فعلت ذلك بعد تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، ثم بعد معاهدة ١٩٣٦، وأخيرا بعد توقيع معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤.في فلسطين، يمكن القول إنهم هربوا وتركوا السكان أبناء الوطن وكذلك المهاجرون اليهود، كانت بريطانيا تعلم أن الأمور متفاقمة وستنفجر حتما في فلسطين، ويبدو أن ذلك ما كانوا يسعون إليه.نظريًا، تركت بريطانيا الفلسطينيين واليهود يواجهون بعضهم البعض، وأشاعوا وقتها أنهم لا يريدون التدخل بين العرب واليهود، يفضلون الحياد.عمليًا، كانت بريطانيا، منذ وعد وزير خارجيتها لورد بلفور سنة ١٩١٧ مع اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، تدعم بكل قوة ودهاء إقامة دولة إسرائيل وتستبعد إقامة وبناء دولة فلسطين.. منذ العشرينيات، كانت بريطانيا تدعم الهجرات اليهودية الكثيفة إلى فلسطين بذرائع إنسانية، ثم راحت تتحدث منذ سنة ١٩٣٦، قبل الهولوكوست عن تقسيم فلسطين.الآن، وصلنا إلى اللحظة الفاصلة تاريخيا؛ وهى تكرار ما حدث في الأندلس بإزاحة الفلسطينيين جميعًا من وطنهم وبلادهم.. بدأ السيناريو بمذابح وإبادة أكبر عدد منهم لترويع الآخرين.. والحق أن ما يقع اليوم ليس جديدًا. يتحدث بعض المعلقين باندهاش بالغ عن قتل الأطفال والنساء والمذابح في «غزة»، وماذا عن مذبحة دير ياسين وكفر قاسم سنة ١٩٤٨؟.. ماذا عن مقتل الطفل «محمد الدرة» قبل أكثر من عشرين عاما؟.. هل نسينا مقتل زميلتنا «شيرين أبوعاقلة» العام الماضى؟، ونحن في مصر، ألم نعش مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية أثناء حرب الاستنزاف ونحن أطفال؟.. وقتها ألغت وزارة التربية «الفسحة الطويلة»، خوفا علينا من احتمال وقوع غارات إسرائيلية على المدارس أثناءها. لا أظن أن أبناء جيلى نسوا تلك الأيام.ليتنا ننفض عن ذاكرتنا غبار النسيان وأحاديث السلام المجانى ورومانسية التطبيع.المذابح والمجازر البشرية لم تنجح في دفع الفلسطينيين إلى المغادرة، وبتنا الآن أمام المرحلة الفاصلة وهى الطرد الجماعى أو التهجير القسرى.. الفكرة قديمة، بدأ الحديث عنها بعد حرب ٦٧، لكنها مطروحة للتنفيذ الآن، والهدف أن تستقبل تركيا عدة آلاف، وكذا بعض الدول الإسلامية والأوروبية، وأن تستوعب مصر أكبر عدد منهم، ليس هذا فقط، بل حددوا الشريط الحدودى في سيناء لبناء مخيمات لاجئين لأهل غزة.. مصريًّا، لا نقبل بوجود مخيمات ولا يليق بمصر العظيمة أن تقيم «جيتو» للأشقاء.. الثقافة المصرية الإنسانية لم تسمح يومًا بجيتو على أرضها، نعيش التواصل والانفتاح الإنسانى.. دعك الآن من محاولة العبث بالوطنية المصرية.عمومًا، الدولة المصرية رفضت ذلك قطعيا.. الرئيس عبدالفتاح السيسى أعلنها واضحة، قاطعة: رفض التهجير القسرى ورفض تصفية القضية الفلسطينية. الفلسطينيون أكدوا عبر كل المستويات أنهم لن يغادروا وطنهم، باقون حتى الموت، استوعبوا تجربة حرب ٤٨، الذين غادروا وقتها قيل لهم ثلاثة أيام على الأكثر، حتى تهدأ الأمور وتعودون.. لكن لم يسمح لهم بالعودة إلى يومنا هذا، وتقول إسرائيل إنها لن تسمح لهم ولن تقبل بهم، رغم وجود قرار من الأمم المتحدة بحقهم في العودة.يبدو أن احتفاء المصريين بالأشقاء من السودان والعراق وليبيا وسوريا أغرى بعض قصار النظر والفهم بأنه يمكن إزاحة ٢ مليون فلسطينى. يقولون إن لدى مصر أكثر من تسعة ملايين من الأشقاء.. وهذا صحيح.. لكن هؤلاء جميعًا ضيوف، وإقامتهم في مصر ليست بهدف القضاء على بلادهم وأوطانهم ولا بغرض تذويب وانقراض شعب بأكمله.ما يحدث في غزة وكل فلسطين منذ يوم السبت السابع من أكتوبر يثير بعض المغرمين بفكرة المؤامرة في كل اتجاه. صحيح أن هناك الكثير من المعلومات ليست واضحة، والعديد من التساؤلات بل الشكوك.. كل هذا مشروع.. المعلومات سوف تتكشف، والخفى سوف يظهر ويعلن، لكن القضية الكبرى الآن هي ألا نقبل بوجود أندلس أخرى.. فلسطين ليست الأندلس.. القدس ليست قرطبة.. ولا يصح أن نسمح بذلك وإلا فلا معنى للقانون الدولى ولا حقوق الإنسان ولا معنى للوطن وعصر الحريات والديمقراطية.هنا علينا أن نعمل بكل قوة لدعم صمود وبقاء الشعب الفلسطينى داخل فلسطين بتقديم كل ما هو ممكن.. وأثق بأن القمة العربية المقبلة في الرياض سوف تتخذ خطوات وقرارات في هذا الصدد.علينا كذلك أن نضغط بكل الوسائل المشروعة لإقامة دولة فلسطين، مستقلة وذات سيادة.. الضمان الأقوى لبقاء إسرائيل وأمنها هو وجود دولة فلسطين كاملة السيادة والاستقلال.

حلمي النمنم: الحدود المصرية؟؟

مجددًا، هذا الأسبوع، وضعت الدولة المصرية النقاط على الحروف فيما يخص حدودنا مع فلسطين وما يجرى فى غزة وإسرائيل.

الواقع أن حدودنا كلها ملتهبة، جنوبًا وغربًا وفى الشمال الشرقي، حيث قطاع غزة، المشكلة فى حدودنا مع غزة مختلفة، من الغرب والجنوب كان ممكنًا أن يتم تهريب السلاح إلى الداخل المصري، وربما تهريب وعبور إرهابيين. من ناحية غزة، كانت هناك نفس المشكلات، يُضاف إليها أن هناك مَن يصر على دفع سكان القطاع إلى الهرولة جماعيًّا، نحو سيناء، ليس إقامة مؤقتة ولا ضيافة، بل استيطان تام بها.

«افتحوا المعبر».. «افتحوا الحدود»

منذ حوالي عشرين عامًا، وكلما تعرضت غزة لغارات إسرائيلية، كانت مجموعات منظمة فى مصر والعالم العربي تتوقف تمامًا عن انتقاد إسرائيل أو توجيه اللوم إليها، ولا تفكر فى حل جذري للأزمة، بينما تصب جام غضبها على الحكومة المصرية، تحت شعار: «افتحوا المعبر».. «افتحوا الحدود».. «ارفعوا الحصار عن غزة». أدبيات تلك المرحلة مليئة بالكثير من ذلك، وهناك نجوم لمعوا وأفراد تكسّبوا تحت تلك الشعارات. والمعنى المباشر لهذه المطالب هو اجتياح الحدود المصرية، وتفريغ فلسطين من أهلها ومواطنيها ليملأها المستوطنون، وتتمدد إسرائيل. الفلسطينيون، مع الوقت- طبقًا لهذا التصور- قد يذوبون، حيث استقروا، أو يؤسسون وطنًا بديلًا. تلك الخطورة أو هذا المعنى للنزوح الجماعي كان واضحًا طوال الوقت لدى المعنيين فى الدولة المصرية والقيادات الفلسطينية، خاصةً رموز السلطة الوطنية، لكنه لم يكن كذلك لدى آخرين، خاصة ملوك المزايدة السياسية.

فى وقت من الأوقات، راهنت أطراف دولية على أن تعود مصر إلى إدارة القطاع، وتتولى المملكة الأردنية الضفة الغربية. وصل الأمر، زمن الرئيس السادات، إلى التلويح بإمكانية ضم القطاع نهائيًّا إلى مصر، لكن كان هناك إصرار مصري رسمي على رفض ذلك التصور نهائيًّا، كان واضحًا أن المقصود هو إنهاء فعلى للقضية الفلسطينية.

دويلة «غزة الكبرى»، بديلًا عن دولة فلسطين.

الواقع أن ذلك الطرح داعب فريقًا من الإسرائيليين مجددًا، لكن بشكلٍ آخر، يقوم على تفريغ غزة من سكانها إلى سيناء للاستيطان بها أو ضم جزء من سيناء إلى غزة، تُقام عليه دويلة «غزة الكبرى»، بديلًا عن دولة فلسطين. من أسف أن بيننا مَن تبنى ذلك التصور فى وقت ما، وسعى إلى تنفيذه، لكن رفضه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ورفضته بشدة القوات المسلحة المصرية وأجهزة الدولة. وفوجئنا بتسريب صوتي للرئيس السابق حسنى مبارك بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حاول مناقشة هذا الأمر معه، لكنه- مبارك- أغلق الموضوع نهائيًّا، وبحسم، كان ذلك قبل أن يغادر مبارك موقعه بحوالي ستة شهور. رغم هذا الوضوح، ومع صراخ الابتزاز السياسي والتخوين الوطني، كانت الدولة المصرية، حتى سنة ٢٠١١، تؤثر الصمت، ويتخوف رجالها من قول ما يرونه، ويبحثون عن تبريرات خارج الموضوع، فتبدو الدولة ضعيفة ومهتزة، كسيرة أمام الرأي العام ومتخاذلة بجوار الصارخين وجماعات الضغط، فيزداد الابتزاز والترهيب.

السابع من أكتوبر 2023 يوم «طوفان الأقصى»: «افتحوا الحدود أمام إخوتنا»!

كنا بصدد السيناريو نفسه هذه المرة، حين بدأت السبت الماضي عملية «طوفان الأقصى»، التي تواكبت مع الذكرى الخمسين لانتصار أكتوبر سنة ٧٣. مع الأخبار التي تُنشر حول الذكرى المجيدة، ظهرت تعليقات بذيئة تُهون من المناسبة، بل تسخر منها ومن الاحتفاء بها، وتطالب بفتح الحدود: «افتحوا الحدود أمام إخوتنا». توافق ذلك المطلب مع آراء نُشرت فى إسرائيل تطالب سكان غزة بالتوجه إلى سيناء والبقاء بها، الآراء لم تصدر عن الحكومة الإسرائيلية ولا عن جيش الدفاع، لكن المعتاد فى مثل هذه القضايا أن تتطاير هكذا آراء أو اقتراحات لجَسّ النبض واختبار مدى تقبُّلها، فإن رُفضت نُسيت (مؤقتًا)، وإذا بدَت احتمالات قبولها أو النقاش حولها أو رددها بعض ببغاوات السياسة، تُقدم بشكل رسمي، حدث ذلك كثيرًا فى التاريخ بشأن العديد من القضايا الكبرى.

رد الفعل الرصين والواضح.. الصارم من الدولة المصرية جاء أولًا على هيئة تصريحات من «مصدر أمنى» إلى قناة القاهرة الإخبارية، تحذر من دفع أهل غزة إلى سيناء، نُقل عنها فى معظم المنصات الإعلامية، ثم جاءت تصريحات الرئيس السيسي فى هذا الأمر قاطعة ومحددة بخصوص الأمن القومي المصري وموقفنا من القضية الفلسطينية. هذا الموقف ألزم معظم الأطراف بجادة الصواب. الحكومة الإسرائيلية نفت أن يكون لديها هذا الطرح، كررت هذا النفي، وأكدته وزارة الدفاع الإسرائيلية وكذا السفارة الإسرائيلية فى القاهرة. الذباب الإلكتروني صاحب هتاف «افتحوا الحدود أمام إخوتنا» بان موقعه بالضبط وأين يصب صراخه. يكشف أيضًا، لنقل «يُعَرِّى».. الكثير من الحملات التي تشنها دوائر أمريكية حول مسؤول أو حاكم عربي هنا أو هناك، دائمًا الذريعة غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان.

الحقيقة دائمًا أيضًا أن الرضا أو الغضب الأمريكي على نظام أو حاكم فى منطقتنا أو خارجها يرتبط مباشرةً بمدى الانصياع أو الاعتراض على المطالب- الأوامر- الأمريكية. ولدينا عشرات النماذج، من ستالين نفسه إلى شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى نورييجا، وحتى ما شئت من الأسماء، خاصة فى منطقتنا العربية.

ما الذي يحدث منذ حرب ١٩٤٨ إلى يومنا هذا؟

حماية الحدود المصرية ورفض اجتياحها واجب الدولة الأول ومهمة النظام السياسي حماية للحق الفلسطيني فى تشكيل دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة. قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين سنة ١٩٤٧ نص على وجود دولة لليهود ودولة للعرب على أرض فلسطين، إلى يومنا هذا لم تتم إقامة دولة فلسطين. تحاول إسرائيل بكل الوسائل منع قيامها، وتجد مساندة فى ذلك من الدولة العظمى. هذا الموقف الرسمي والإعلان عنه بهذه الدرجة من الشفافية يجب أن يضعا حدًّا لحالة نشأت وتكونت فى الإعلام والثقافة العربية، واتسع نطاقها فى الشارع وبين بعض التيارات السياسية، خاصة تلك التي تقف فى أقصى اليسار واليمين الديني تحديدًا، منذ حرب ١٩٤٨ إلى يومنا هذا.

تتلخص هذه الحالة فى أنه مع كل هجوم تشنه إسرائيل أو انتصار تحققه، فإننا نتوجه باللعن وجلد الذات، ولا نتهم الطرف الذى اعتدى ولا الظروف الدولية التي تعمل كلها لحسابه.ربما كانت الحملة التي سُميت صحفيًّا وسياسيًّا (صفقة الأسلحة الفاسدة) هي البداية لتدشين تلك الحالة، والآن طبقًا لكل الوثائق والشهادات والتحقيقات التي تمت زمن الملك فاروق ثم زمن اللواء محمد نجيب، لم تكن هناك أسلحة فاسدة، لكن كان جيش إسرائيل يفوق عدديًّا كل الجيوش العربية التي شاركت، وكان لديه أحدث الأسلحة ومقاتلوه من خيرة مقاتلي الحرب العالمية الثانية، خاصة الطيارين، لكن أطرافًا سياسية عديدة فى القاهرة أمسكت بتلك الحملة، وراحت تُغذيها لحسابات خاصة بها. دشنت هذه الحملة نظرية أن المشكلة ليست فى إسرائيل واحتلال الأراضي الفلسطينية ورفض إقامة دولة فلسطينية، بل فى المجتمع والحكومات العربية، وأن إقامة الدولة الفلسطينية لا تبدأ من داخل فلسطين، بل من القاهرة أو دمشق أو بغداد وغيرها من العواصم العربية.

هذه الإدانة كانت مريحة- عز الطلب- للحكومات الإسرائيلية وللعواصم الكبرى فى الغرب، تُعفيهم من أي مسؤولية أخلاقية أو أمام القانون الدولي، هي كذلك أرض خصبة لمَن أرادوا إحراج حكوماتهم وابتزازها أو الخلاص من نخب معينة أو إزاحتها والقفز عليها، وكان الغرب على استعداد دائم لتغذية ودعم بعض هؤلاء.

السؤال: هل آن الأوان لتغيير تلك العقليات ومراجعة تلك الأفكار؟

اللواء الدكتور شوقي صلاح: بوتين يراهن على عامل الوقت.. فاحذروه 

تمهيد

لا شك أن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحرش من زمن بروسيا، فخطط لتفكيك الاتحاد السوفيتي ونجح في ديسمبر١٩٩١، ثم ضم أغلب الدول التي انفصلت عنه، وعلى المستوى السياسي؛ يشار إلى أن كييف أنتجت عام 2015 مسلسلا بعنوان "خادم الشعب" تناولت أحداثه الوضع السياسي في البلاد، وسلط المسلسل الضوء على عدد من القضايا في إطار كوميدي...! ولم يتوقع أحد أن بطل المسلسل فولوديمير زيلينسكي (44 عاما) سيصبح الرئيس الفعلي للبلاد عام 2019.. فهل هذا من قبيل الصدفة أم أنه مخطط دُبر بعناية؟؟؟ وكاد الغرب أن يضم أوكرانيا لعضوية الناتو، رغم كل التحذيرات التي أطلقتها روسيا، ولا من مجيب، مما اضطرت معه الأخيرة لاتخاذ قرارها بغزو أوكرانيا في 24 فبراير 2022.

* الناتو وروسيا يراهنان على عامل الوقت:

 بعد أن تدخلت روسيا عسكريًا في أوكرانيا، اعتقد الناتو أن روسيا ستغرق في دوامة الصراع، حيث تندلع حرب هجينة تخوضها أوكرانيا بالوكالة، حيث المواجهة فيها عسكرية واقتصادية وسياسية، فيتم دعم أوكرانيا بالسلاح من جانب، وتوقيع عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا من جانب آخر، وضغوط سياسية لعزل روسيا، مع اللعب على عامل الوقت، حيث ستضطر الأخيرة – وفقًا لخطط الغرب- للانسحاب بعد مارثون طويل من القتال، وذلك حال وصولها لحالة من الانهاك الجسيم.. واضعين في الاعتبار أن لجوء روسيا إلى استخدام السلاح النووي يعد أمرًا مستبعدًا، باعتباره سلاحًا للتدمير الشامل. هذا وأكد الواقع أن روسيا احتلت حتى تاريخ كتابة هذه السطور حوالي 20% من الأراضي الأوكرانية، ومازالت قادرة حتى الآن على استخدام قدراتها العسكرية غير النووية في إدارة الصراع بكفاءة وقدرة عالية، ولم تنهزم اقتصاديا، ومازال الناتو يُصِر على إطالة أمد النزاع، بمزيد من الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي لأوكرانيا، وأيضًا بمحاولات مستديمة ومضطردة لعزل روسيا على كل الأصعدة...

"الخنجر" صاروخ روسي فرط صوتي يصعب اعتراضه

رسالة للناتو "احذروا مفاجآت بوتين"

  • لعل الكثير من المحللين تساءلوا: لماذا لم يحسم بوتين الحرب من زمن باستخدام القليل من قدرات روسيا النووية التكتيكية؟ وبهذا يحسم الصراع متجنبًا إزهاق الأرواح والأموال التي أهدرت في حرب لا تبدو لها نهاية قريبة، وذلك على غرار الحسم الأمريكي للحرب العالمية الثانية واستخدامها للسلاح النووي ضد اليابان في أغسطس عام 1945، وذلك بإلقائها قنبلتين؛ الأولى أسقطت على هيروشيما والثانية على ناجازاكي، وتحقق للولايات المتحدة الأمريكية ما أرادت؛ حيث حسمت الصراع واضطرت اليابان للاستسلام، وأعتقد أنه بفرض استخدام روسيا للسلاح النووي التكتيكي، فإن الناتو لن يُصَعد الأمر لمواجهة نووية مع روسيا، فالسلاح النووي الاستراتيجي يعد بحسب الأصل سلاحًا للردع.

- ومع هذا، فإنه وعلى جانب آخر، ومن منطلق تحليل أمني يستند على محاولة لقراءة فكر الرئيس بوتين، أنه يسعى بتُؤَدة أيضًا لكسب الوقت، ولكن هدفه من وجهة نظري قد يكون مفاجئا ومباغتًا.. فالرجل ربما يدفع بكل قوة لتطوير تكنولوجيا أسلحة الردع، وصولاً لهدف استراتيجي ألا وهو: "ابتكار أسلحة من شأنها تحييد القدرات النووية الاستراتيجية للناتو" ليتمكن إذا اقتضى الأمر من بدء الهجوم وإنهاء الصراع الأخطر.. ولما لا، ووفقًا لما أعلنه بوتين وقادة روس آخرون، فقد استطاعت روسيا تطوير صواريخ فرط صوتية سرعاتها أضعاف سرعة الصوت، وبهذا لا تستطيع قدرات الدفاعات الجوية للناتو اعتراضها.. فإذا انتجت المصانع الروسية شبكات للدفاع الجوي وذخائر بكميات هائلة.. من شأنها اعتراض الصواريخ النووية المضادة، بجانب توفير ابتكارات تكنولوجية عسكرية لتعطيل منظومات الإطلاق من العمل ولو لبعض الوقت.. وهنا لن يتردد بوتين في التهديد بالمواجهة باستخدام السلاح النووي التكتيكي ضد أوكرانيا، وإن لم تستسلم فسيفعلها، وهو على يقين بألا يُقدِم الناتو على مواجهة نووية مباشرة.. ولتحري مزيد من الدقة فقد استطلعت رأي أحد الأصدقاء من لواءات قادة الدفاع الجوي المصري السابقين، للتعرف على رأيه في إمكانية تحييد الصواريخ النووية التكتيكية للناتو فأجاب: "أعتقد أن روسيا لديها أقوى غطاء دفاع جوي في العالم، ورغم هذا لا يمكن الجزم أن بإمكانها صد الهجمات الجوية النووية للناتو بنسبة 100%".

صاروخ سارمات: من مقدمات الجيل السادس؟

يا أولي الأمر: شعوبكم سئمت طول الصراع:

لعله من الحكمة البالغة ولمصلحة أطراف الصراع كافة، أن تبدأ وبسرعة مرحلة التفاوض على إنهاء هذه الحرب، التي أنهكت العالم بأسره، ولعل هناك بارقة أمل بدت مؤخرًا في تصريح "ستيان يينسين" مدير مكتب الأمين العام لحلف الناتو، الذي لم يستبعد قبول عضوية أوكرانيا في الحلف حال قدمت تنازلات عن جزء من أراضيها لروسيا، وذلك كجزء من صفقة لإنهاء الحرب.

** أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بكلية الشرطة

رئيس برنامج الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات

وخبير مكافحة الإرهاب

اللواء الدكتور شوقي صلاح: رؤية تحليلية لأحداث شغب فرنسا “يونيو 2023” (الحلقة الثالثة)

موجز بشأن المقالين السابقين:

- تناولنا في المقال التحليلي الأول واقعة قتل الشاب "نائل" خاصة من زاوية قانونية، مؤكدين على أنها تمثل جريمة قتل عمد، وأن الشرطة الفرنسية تحاول في مثل هذه الأحداث أن تحتويها بدعوى تنفيذها للقانون وفقاً لأحدث تعديلاته.. إلا أن الجرم الأخير انتشر بفضل تداول أحداثه من خلال تسجيل مرئي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وأظهر التسجيل أن الشرطي ارتكب جرم القتل بدم بارد، لشاب غير مسلح، ومن أصول أفريقية.

- كما حاولنا في المقال الثاني الإجابة على سؤال جوهري: لماذا تحولت الاحتجاجات لأعمال عنف وإحراق وسلب ونهب واسعة النطاق؟؟؟ وتناولنا في وقفة تحليلية تصريحات كبار المسئولين في الدولة الفرنسية، كما عرضنا بشكل موضوعي الجوانب السلبية والإيجابية لأداء الشرطة الفرنسية.

- سنحاول الإجابة في مقالنا هذا على سؤال نراه جوهري بامتياز؛ ألا وهو: هل كانت هناك خيارات أفضل للقيادة السياسية الفرنسية للتعامل مع الأزمة منذ بدايتها؟

ماكرون والخيارات المتاحة لمواجهة الأزمة:

- لقد صاحبت بداية الأزمة (وقع القتل يوم الثلاثاء، الساعة الثامنة صباحا تقريباً، في 27 يونيو، بمدينة نانتير الفرنسية) وبالطبع أُخطر على الفور ماكرون بتفاصيله، ورغم هذا، حضر في اليوم التالي مباشرة، أي مساء الأربعاء، رغم بدء أعمال الاحتجاجات، حفلاً غنائياً للمغني "إلتون جون" ورقص هو وزوجته على أنغام موسيقى الحفل، وكأن شيئاً لم يكن، مما يؤكد أن الرئيس وكبار مستشاريه يفتقدون للحس الأمني والسياسي معاً.. وبعد انتشار أعمال التخريب المتعمدة على نطاق واسع، فقد رأس ماكرون اجتماع خلية أزمة يوم الجمعة الموافق 30 يونيو، وكان من باب أولى أن تنعقد خلية الأزمة هذه وقت الحفل الموسيقي، فسرعة التدخل في مثل هذه الأزمات، واتخاذ القرارات المناسبة، على المستوى الأمني والإعلامي والقانوني والإنساني.. عوامل حاسمة في التخفيف من الأضرار المتوقع حدوثها.

هل إعلان ماكرون لحالة الطوارئ واستدعاء الجيش كان الخيار الأفضل؟؟؟

* بداية، ماهي السلطات التي تُـمنح لأجهزة الإدارة بعد إعلان حالة الطوارئ؟

- قنن المشرع الفرنسي حالة الطوارئ في فرنسا بموجب قانون صدر في 3 أبريل 1955 وتم تعديله عدة مرات؛ لا سيما بموجب الأمر الصادر في 15 أبريل 1960 وقانون 20 نوفمبر 2015، حيث يمكن بقرار من مجلس الوزراء أن تعلن حالة الطوارئ في كل أو جزء من إقليم الدولة، وذلك لمواجهة أخطار وشيكة الحدوث، أو انتهاكات خطيرة للنظام العام، أو في حالات الكوارث العامة (كارثة طبيعية ذات حجم استثنائي).

- وتعلن حالة الطوارئ في فرنسا لمدة أولية قدرها اثنى عشر يومًا، ويمكن تمديدها بالتصويت بالموافقة يصدر من البرلمان. وهذا النظام الاستثنائي يعزز سلطات الدولة؛ حيث يمكن فرض بعض القيود على الحريات العامة أو الفردية، ويخوِّل وزير الداخلية وقيادات إدارية أخرى، السلطات الآتية:

* حظر التظاهرات والمواكب والمسيرات والتجمعات على الطرق العامة؛

*إنشاء محيط حماية لضمان أمن مكان أو حدث؛                                           

*حظر بعض الاجتماعات العامة أو إغلاق الأماكن العامة ودور العبادة؛                    

* حجب المواقع التي تدعو أو تمجد الأعمال الإرهابية؛

* حظر الإقامة في أماكن معينة أو فرض الإقامة الجبري في أماكن بعينها.

ترأس ماكرون اجتماع خلية أزمة:
(أن تأتي متأخرًا أفضل من ألا تأتي على الاطلاق!!)

ربما لم يُعلن ماكرون حالة الطوارئ لتخوفه _وخلية الأزمة التي رأسها_ من التداعيات الاقتصادية التي تترتب على إعلانها، فمؤكد أن السياحة في فرنسا ستتأثر كثيرا بهذا الإعلان. ونرى من جانبنا أن متطلبات حماية الأمن الداخلي وإنهاء هذه الاضطرابات يفترض أن تكون له الأولوية لدى متخذ القرار السياسي، وليُنهي حالة الطوارئ، إن استقرت الحالة الأمنية، وبهذا تنحسر الخسائر في أدنى مستوياتها. ورغم انتشار أعمال التخريب على نطاق واسع، إلا أن ماكرون ومسئوليه اكتفوا فقط بإصدار قرارات لحظر التجوال في بعض المدن، بجانب تعزيز قوات الأمن في مختلف مدن فرنسا، وذلك بما يقرب من 45 ألفاً من عناصر الشرطة، خاصة في المدن الأشد تأثراً بالأحداث.

45 ألف شرطي فرنسي:
هل يحمون فرنسا من عنصرية قادتها؟

خطورة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على تأجيج أعمال العنف

- أشار ماكرون في خطابه للجمهور الفرنسي بأنه أمر بالتحقيق في أعمال التحريض التي ارتكبت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. ولنتوقف هنا أمام الدور الخطير لهذه المواقع في تأجيج أعمال العنف، ولا نبالغ بالقول بأن هذه المواقع تساهم أيضاً في ارتكاب أعمال السلب والنهب، وغني عن البيان أنه يمكن توظيفها أيضا للقيام بدور إيجابي في هذا الأحداث.

- وهدياً على ما سبق طرحه من تقييم لجدوى السلطات التي تُمنح لجهات الإدارة في ظل إعلان حالة الطوارئ، نرى أن أهم سلطة تؤثر إيجاباً أم سلباً في السيطرة على مثل تلك الأحداث؛ هو ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي، ونقترح على المشرع الفرنسي أن يُعدل قانون الطوارئ المشار إليه، بما يسمح لسلطات الدولة أثناء إعلان هذه الحالة بحجب أو تقييد هذه المواقع بشكل مؤقت، وذلك في حالات اندلاع أعمال شغب واسعة النطاق، على أن يكون الحجب لمدة زمنية لا تتجاوز الأسبوع، وتجدد لمرة واحدة فقط حال استمرار أعمال الشغب والتخريب والجرائم الخطيرة المصاحبة لهما.     

https://www.youtube.com/watch?v=lD1mzqyt9ec

- جدير بالذكر هنا، أن النقابة التي تمثل العاملين بأجهزة الشرطة الفرنسية طالبت السلطات بضرورة إعلان حالة الطوارئ، واستدعاء الجيش للقيام بتأمين المدن خاصة الأهداف الحيوية، حتى تستطيع الشرطة السيطرة على الموقف وتأمين باقي الأهداف. ونؤيد دعوة النقابة فيما ذهبت إليه، حيث كان من الأولى أن يُعلن ماكرون حالة الطوارئ يوم الجمعة الموافق 30 يونيو 2023، أي بعد يومين من بدء أعمال التخريب والسلب والنهب، لتبدأ مهام الجيش في الساعات الأولى من صباح السبت مباشرة. واعتقد أنه في ظل هذين الإجراءين، فإن أعمال التخريب والجرائم الخطيرة التي ارتكبت، كانت سترتكب ولكن على نطاق محدود جداً. 

- ولعلنا نتذكر معاً أن حالة الطوارئ تم فرضها بفرنسا في أعقاب الهجمات الإرهابية التي وقعت في 2015، وفي 2020، حيث تم إعلان حالة الطوارئ الصحية للتعامل مع وباء (Covid-19)، لنتساءل بشكل مقارن في هذا المقام: هل أحداث شغب يونيو 2023 أقل خطورة من الظروف المحيطة بهاذين الموقفين المشار إليهما؟.

- في ختام هذا المقال أقول: شكراً لكل من اهتم بمتابعة المقالات الثلاث التي قدمتها حتى تاريخ كتابة هذه السطور، في شأن طرح رؤية تحليلية لأزمة أحداث شغب فرنسا، وبإذن الله سنستأنف تسليط الضوء على ملفات أخرى مرتبطة بالموضوع المشار إليه.

** أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بكلية الشرطة

رئيس برنامج الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات

وخبير مكافحة الإرهاب