الدكتور مدحت حماد يكتب: تحديات انتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤(2/4)
عندما أخذ المصريون يستعدون لأول انتخابات رئاسية بعد ثورة ٢٥ يناير، كان لدى جميع القوى السياسية والاجتماعية آمالاً عريضة وطموحة، رغم أن الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية كانت مملوءة بالتحديات والمخاطر بل والتهديدات.
وكان سقف الطموحات السياسية لدى الجميع لا حدود له، بل كانت معدلات التفاؤل السياسي تصل عنان السماء و هي تنطلق من قلب ورحم شعار ثورة ٢٥ يناير "عيش، حرية.. عدالة اجتماعية".
المشهد بأسره كان يذكرنا بثورة ١٩١٩، حيث كانت الآمال والطموحات و… لا حدود لها، بينما كانت "مصر" تئن وتنتحب بل وتغلي وتفور كالبركان وهي تحت الاحتلال البريطاني.
لهذا.. وجدنا معدلات التصويت والمشاركة السياسية في الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٢، كما سبق القول في الحلقة السابقة، غير مسبوقة على الإطلاق في التاريخ السياسي المصري منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
إمتداد طوابير الناخبين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم السياسية الدينية الحزبية والاجتماعية والاقتصادية، كان بمثابة الدليل الدامغ على "حيوية" المجتمع المصري بأسرة.
مثل هذه الصورة اندثرت تماماً فيما بعد، وكأنها كانت بمثابة "سحابة صيف سياسية"، وليست "سحابة صيف سياسي".
لذلك فبمجرد أن انتهت الانتخابات على ما انتهت إليه من فوز مرشح الإخوان المسلمين"محمد مرسي"، حتى دخلت مصر "نفقاً سياسيًا" معتماً شديد العتمة حالكة السواد، لتعيش الدولة بأسرها أسوأ حالات الاحتقان السياسي، بعد ثورة يوليو ١٩٥٢.
لقد انقسم المصريون انقاسماً حاداً ومأزومًا، وبات الاستقرار السياسي للدولة في أعلى مستويات الخطر، وفشل الجميع.. بمعنى كلمة الجميع، في احتواء بعضهم البعض، لندخل وبشكل أذهل العالم ثورة ثانية في أقل من عامين، هي ثورة ٣٠ يونيو، ولقد اعتقدنا جميعاً أننا بصدد "العصر الذهبي" الحقيقي المنتظر "للحياة الحزبية والسياسية" الذي تتوق إليه جميع أطياف وفئات ومكونات المجتمع المصري، وهو ما جسده، يقيناً، شعار: "دولة مدنية حديثة".
من أهم خصائص وسمات الدولة المدنية الحديثة، وفق ما نعلمه جميعاً، هو الأمل الحقيقي في إمكانية وصول "أي حزب للسلطة السياسية.
الأمل الحقيقي في منافسة الرئيس الفلاني الذي يتولى الحكم.
الأمل الحقيقي في وصول المترشحين للانتخابات البرلمانية نتيجة مشاركة حقيقية من جانب الناخبين وليس مشاركة مقننة، أو محكومة بتوافقات، أو… أو… أو.
الحدث المهم الذي لم يكن يتوقعه أحد، يتمثل في حدوث التعديلات الدستورية الخاصة بمدة انتخاب رئيس الجمهورية، ولم يكن قد مرّ سوى أربع سنوات على الدستور الذي تم الاستفتاء عليه، بعد ثورة ٣٠ يونيو.
ليس هذا فحسب هو الذي ترك بصماته وأثاره السلبية على "الطموحات السياسية" للقوى السياسية والحزبية، إنما كان تعسكر، أو عسكرة الأحزاب السياسية الرئيسية التي وصلت إلى السلطة التشريعية، أو حتى وجود "صبغة عسكرية ما لعدد من الأحزاب"، كان هو الآخر بمثابة عودة سلبية للوراء، من خلال استدعاء الصورة لقاتمة التي لم تكن قد غابت بعد عن ذاكرة المصريين وهي صورة الحزب الوطني، وحزب الحرية والعدالة.
فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله "الحرب ضد الإرهاب"، كنتيجة طبيعية لعدم تسليم معظم الجماعات الدينية بثورة ٣٠ يونيو خاصة "التنظيم الإرهابي للإخوان المسلمين"، فضلاً عن تحالفها المتآمر على الوطن مع الكثير من أعداء الوطن أو بالأحرى أعداء ثورة ٣٠ يونيو التي أطاحت بالإخوان المسلمين وانتزعتهم من السلطة كالذي يقوم بخلع "ضرسه"، بينما كانوا يظنون في أنفسهم مشروعية نزعناها عنهم، ليستمر تحالفهم المتآمر مع العديد من القوى الدولية والإقليمية ما جعل الوطن بأسره في حالة حرب لأربع سنوات.
كل هذا بينما الوضع الداخلي كان على النحو التالي:
١) إستمرار استفحال ظاهرة المطالبات الفئوية.
٢) إستمرار تآكل الاحتياطي النقدي الإستراتيجي المصري.
٣) إستمرار تعاظم الأزمات الخاصة بالبنية التحتية، كهرباء، غاز، طرق، مواصلات،…
٤) إستمرار التعديات على الرقعة الزراعية، والبناء العشوائي في جميع أنحاء مصر.
٥) إستمرار ظاهرة انتشار الفوضى الإدارية في الكثير من أجهزة ومؤسسات الدولة.
٦) تعاظم التهديدات الإقليمية والدولية من جانب القوى التي كانت ما تزال ترى بإمكانية عودة التنظيم الإرهابي للحكم اي الإخوان المسلمين.
٧) الأهم من كل ذلك تسليم "الأحزاب السياسية" وبشكل مثير للدهشة، بحتمية إحكام إرادة المؤسسة العسكرية وفرض سيطرتها على الجهاز الإداري للدولة حتى تستقيم الأمور والأوضاع الداخلية، ما أخذ يشكل البذرة واللبنة الرئيسية لمشاركة الكثير من القيادات العسكرية السابقة في الحياة السياسية بل وقيامها بتدشين عدد من الأحزاب السياسية التي صارت خلال أقل من خمس سنوات الظهير والزراع السياسي للقيادة المصرية، أي للرئيس عبد الفتاح السيسي.
الأمر الذي أدى بدوره إلى انكفاء الكثير من الأحزاب السياسية خاصة التي قامت على أساس "الرجل الواحد"، وكذلك نتيجة مباشرة لإنحسار الدعم المالي من جانب الكثير من رجال الأعمال، الذين رأوا أن مصلحتهم ومصالحهم الاقتصادية يجب أن تسير على النحو الذي كانت عليه قبل ثورة ٢٥ يناير، أي في كنف وحماية الأحزاب السياسية التي تدعم القيادة السياسية بشكل مباشر وواضح.
٨) قراءة جموع وعموم المصريين قراءة صحيحة مباشرة وبشكل عبقري، مفادها عودة جميع "العمليات الانتخابية البرلمانية منها والرئاسية" إلى"المربع صفر"، أي عودتها إلى ما كانت عليه قبل ثورة ٢٥ يناير.
وأن الأمر برمته لن يعدو سوى "عملاً شكلياً" وهو ما جسدته تراجع جميع المترشحين للمنافسة على الانتخابات الرئاسية في عام ٢٠١٤ عدا السيد "حمدين صباحي"، وتحولها في ٢٠١٨ إلى "حدث مسرحي" خاصة عندما أعلن المستشار مرتضى منصور عن ترشحه أمام الرئيس السيسى، ثم انسحابه!! ليدخل المهندس موسى رئيس حزب الغد في الحدث في الدقيقة ٩٠!! ليس هذا فحسب، إنما جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة لتؤكد للناس جميعاً أن مصر بصدد حالة من "التراضي الحزبي السياسي" لتقسيم أو تقاسم "الكعكة البرلمانية" وهو ما يؤكده الانخفاض الكبير في معدلات التصويت من جانب الناخبين.
إن "الأزمة الحقيقية" من وجهة نظرنا، أن الجميع بمن فيهم القيادة السياسية قد انغمسوا تماماً في جميع الأزمات والتحديات والتهديدات السابق ذكرها، حتى أنهم لم يتمكنوا من قراءة "المشهد السياسي المستقبلي المأزوم"، الذي ستكون عليه الحياة السياسية في ٢٠٢٤، على النحو الصحيح، بل إنه عندما بدا أن القيادة السياسية أي الرئيس عبد الفتاح السيسي قد استشعرت الخطر، فأطلقت "الحوار الوطني"، تحول الحوار نفسه إلى آلية "لتجميل المشهد السياسي برمته في ٢٠٢٤" وليس آلية لإعادة الروح للحياة السياسية على النحو الذي كانت عليه مصر "وطناً وشعباً" في عام ٢٠١٢.
وللحديث بقية.