مركز الفارابي للدراسات السياسية والإستراتيجية

الدكتور مدحت حماد يكتب: تحديات انتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤(2/4)

عندما أخذ المصريون يستعدون لأول انتخابات رئاسية بعد ثورة ٢٥ يناير، كان لدى جميع القوى السياسية والاجتماعية آمالاً عريضة وطموحة، رغم أن الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية كانت مملوءة بالتحديات والمخاطر بل والتهديدات.
وكان سقف الطموحات السياسية لدى الجميع لا حدود له، بل كانت معدلات التفاؤل السياسي تصل عنان السماء و هي تنطلق من قلب ورحم شعار ثورة ٢٥ يناير "عيش، حرية.. عدالة اجتماعية".

المشهد بأسره كان يذكرنا بثورة ١٩١٩، حيث كانت الآمال والطموحات و… لا حدود لها، بينما كانت "مصر" تئن وتنتحب بل وتغلي وتفور كالبركان وهي تحت الاحتلال البريطاني.
لهذا.. وجدنا معدلات التصويت والمشاركة السياسية في الانتخابات الرئاسية في ٢٠١٢، كما سبق القول في الحلقة السابقة، غير مسبوقة على الإطلاق في التاريخ السياسي المصري منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
إمتداد طوابير الناخبين على اختلاف أطيافهم وتوجهاتهم السياسية الدينية الحزبية والاجتماعية والاقتصادية، كان بمثابة الدليل الدامغ على "حيوية" المجتمع المصري بأسرة.

مثل هذه الصورة اندثرت تماماً فيما بعد، وكأنها كانت بمثابة "سحابة صيف سياسية"، وليست "سحابة صيف سياسي".
لذلك فبمجرد أن انتهت الانتخابات على ما انتهت إليه من فوز مرشح الإخوان المسلمين"محمد مرسي"، حتى دخلت مصر "نفقاً سياسيًا" معتماً شديد العتمة حالكة السواد، لتعيش الدولة بأسرها أسوأ حالات الاحتقان السياسي، بعد ثورة يوليو ١٩٥٢.
لقد انقسم المصريون انقاسماً حاداً ومأزومًا، وبات الاستقرار السياسي للدولة في أعلى مستويات الخطر، وفشل الجميع.. بمعنى كلمة الجميع، في احتواء بعضهم البعض، لندخل وبشكل أذهل العالم ثورة ثانية في أقل من عامين، هي ثورة ٣٠ يونيو، ولقد اعتقدنا جميعاً أننا بصدد "العصر الذهبي" الحقيقي المنتظر "للحياة الحزبية والسياسية" الذي تتوق إليه جميع أطياف وفئات ومكونات المجتمع المصري، وهو ما جسده، يقيناً، شعار: "دولة مدنية حديثة".
من أهم خصائص وسمات الدولة المدنية الحديثة، وفق ما نعلمه جميعاً، هو الأمل الحقيقي في إمكانية وصول "أي حزب للسلطة السياسية.
الأمل الحقيقي في منافسة الرئيس الفلاني الذي يتولى الحكم.
الأمل الحقيقي في وصول المترشحين للانتخابات البرلمانية نتيجة مشاركة حقيقية من جانب الناخبين وليس مشاركة مقننة، أو محكومة بتوافقات، أو… أو… أو.
الحدث المهم الذي لم يكن يتوقعه أحد، يتمثل في حدوث التعديلات الدستورية الخاصة بمدة انتخاب رئيس الجمهورية، ولم يكن قد مرّ سوى أربع سنوات على الدستور الذي تم الاستفتاء عليه، بعد ثورة ٣٠ يونيو.
ليس هذا فحسب هو الذي ترك بصماته وأثاره السلبية على "الطموحات السياسية" للقوى السياسية والحزبية، إنما كان تعسكر، أو عسكرة الأحزاب السياسية الرئيسية التي وصلت إلى السلطة التشريعية، أو حتى وجود "صبغة عسكرية ما لعدد من الأحزاب"، كان هو الآخر بمثابة عودة سلبية للوراء، من خلال استدعاء الصورة لقاتمة التي لم تكن قد غابت بعد عن ذاكرة المصريين وهي صورة الحزب الوطني، وحزب الحرية والعدالة.

حشود المصريين للتصويت في انتخابات الرئاسة 2012

من طوابير انتخابات 2012

فإذا ما أضفنا إلى ذلك كله "الحرب ضد الإرهاب"، كنتيجة طبيعية لعدم تسليم معظم الجماعات الدينية بثورة ٣٠ يونيو خاصة "التنظيم الإرهابي للإخوان المسلمين"، فضلاً عن تحالفها المتآمر على الوطن مع الكثير من أعداء الوطن أو بالأحرى أعداء ثورة ٣٠ يونيو التي أطاحت بالإخوان المسلمين وانتزعتهم من السلطة كالذي يقوم بخلع "ضرسه"، بينما كانوا يظنون في أنفسهم مشروعية نزعناها عنهم، ليستمر تحالفهم المتآمر مع العديد من القوى الدولية والإقليمية ما جعل الوطن بأسره في حالة حرب لأربع سنوات.

حشود المصرييين المليونية في ثورة 30 يونيو

كل هذا بينما الوضع الداخلي كان على النحو التالي:
١) إستمرار استفحال ظاهرة المطالبات الفئوية.
٢) إستمرار تآكل الاحتياطي النقدي الإستراتيجي المصري.
٣) إستمرار تعاظم الأزمات الخاصة بالبنية التحتية، كهرباء، غاز، طرق، مواصلات،…
٤) إستمرار التعديات على الرقعة الزراعية، والبناء العشوائي في جميع أنحاء مصر.
٥) إستمرار ظاهرة انتشار الفوضى الإدارية في الكثير من أجهزة ومؤسسات الدولة.
٦) تعاظم التهديدات الإقليمية والدولية من جانب القوى التي كانت ما تزال ترى بإمكانية عودة التنظيم الإرهابي للحكم اي الإخوان المسلمين.
٧) الأهم من كل ذلك تسليم "الأحزاب السياسية" وبشكل مثير للدهشة، بحتمية إحكام إرادة المؤسسة العسكرية وفرض سيطرتها على الجهاز الإداري للدولة حتى تستقيم الأمور والأوضاع الداخلية، ما أخذ يشكل البذرة واللبنة الرئيسية لمشاركة الكثير من القيادات العسكرية السابقة في الحياة السياسية بل وقيامها بتدشين عدد من الأحزاب السياسية التي صارت خلال أقل من خمس سنوات الظهير والزراع السياسي للقيادة المصرية، أي للرئيس عبد الفتاح السيسي.
الأمر الذي أدى بدوره إلى انكفاء الكثير من الأحزاب السياسية خاصة التي قامت على أساس "الرجل الواحد"، وكذلك نتيجة مباشرة لإنحسار الدعم المالي من جانب الكثير من رجال الأعمال، الذين رأوا أن مصلحتهم ومصالحهم الاقتصادية يجب أن تسير على النحو الذي كانت عليه قبل ثورة ٢٥ يناير، أي في كنف وحماية الأحزاب السياسية التي تدعم القيادة السياسية بشكل مباشر وواضح.
٨) قراءة جموع وعموم المصريين قراءة صحيحة مباشرة وبشكل عبقري، مفادها عودة جميع "العمليات الانتخابية البرلمانية منها والرئاسية" إلى"المربع صفر"، أي عودتها إلى ما كانت عليه قبل ثورة ٢٥ يناير.
وأن الأمر برمته لن يعدو سوى "عملاً شكلياً" وهو ما جسدته تراجع جميع المترشحين للمنافسة على الانتخابات الرئاسية في عام ٢٠١٤ عدا السيد "حمدين صباحي"، وتحولها في ٢٠١٨ إلى "حدث مسرحي" خاصة عندما أعلن المستشار مرتضى منصور عن ترشحه أمام الرئيس السيسى، ثم انسحابه!! ليدخل المهندس موسى رئيس حزب الغد في الحدث في الدقيقة ٩٠!! ليس هذا فحسب، إنما جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة لتؤكد للناس جميعاً أن مصر بصدد حالة من "التراضي الحزبي السياسي" لتقسيم أو تقاسم "الكعكة البرلمانية" وهو ما يؤكده الانخفاض الكبير في معدلات التصويت من جانب الناخبين.

إن "الأزمة الحقيقية" من وجهة نظرنا، أن الجميع بمن فيهم القيادة السياسية قد انغمسوا تماماً في جميع الأزمات والتحديات والتهديدات السابق ذكرها، حتى أنهم لم يتمكنوا من قراءة "المشهد السياسي المستقبلي المأزوم"، الذي ستكون عليه الحياة السياسية في ٢٠٢٤، على النحو الصحيح، بل إنه عندما بدا أن القيادة السياسية أي الرئيس عبد الفتاح السيسي قد استشعرت الخطر، فأطلقت "الحوار الوطني"، تحول الحوار نفسه إلى آلية "لتجميل المشهد السياسي برمته في ٢٠٢٤" وليس آلية لإعادة الروح للحياة السياسية على النحو الذي كانت عليه مصر "وطناً وشعباً" في عام ٢٠١٢.

وللحديث بقية.

اللواء الدكتور شوقي صلاح: بوتين يراهن على عامل الوقت.. فاحذروه 

تمهيد

لا شك أن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تحرش من زمن بروسيا، فخطط لتفكيك الاتحاد السوفيتي ونجح في ديسمبر١٩٩١، ثم ضم أغلب الدول التي انفصلت عنه، وعلى المستوى السياسي؛ يشار إلى أن كييف أنتجت عام 2015 مسلسلا بعنوان "خادم الشعب" تناولت أحداثه الوضع السياسي في البلاد، وسلط المسلسل الضوء على عدد من القضايا في إطار كوميدي...! ولم يتوقع أحد أن بطل المسلسل فولوديمير زيلينسكي (44 عاما) سيصبح الرئيس الفعلي للبلاد عام 2019.. فهل هذا من قبيل الصدفة أم أنه مخطط دُبر بعناية؟؟؟ وكاد الغرب أن يضم أوكرانيا لعضوية الناتو، رغم كل التحذيرات التي أطلقتها روسيا، ولا من مجيب، مما اضطرت معه الأخيرة لاتخاذ قرارها بغزو أوكرانيا في 24 فبراير 2022.

* الناتو وروسيا يراهنان على عامل الوقت:

 بعد أن تدخلت روسيا عسكريًا في أوكرانيا، اعتقد الناتو أن روسيا ستغرق في دوامة الصراع، حيث تندلع حرب هجينة تخوضها أوكرانيا بالوكالة، حيث المواجهة فيها عسكرية واقتصادية وسياسية، فيتم دعم أوكرانيا بالسلاح من جانب، وتوقيع عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا من جانب آخر، وضغوط سياسية لعزل روسيا، مع اللعب على عامل الوقت، حيث ستضطر الأخيرة – وفقًا لخطط الغرب- للانسحاب بعد مارثون طويل من القتال، وذلك حال وصولها لحالة من الانهاك الجسيم.. واضعين في الاعتبار أن لجوء روسيا إلى استخدام السلاح النووي يعد أمرًا مستبعدًا، باعتباره سلاحًا للتدمير الشامل. هذا وأكد الواقع أن روسيا احتلت حتى تاريخ كتابة هذه السطور حوالي 20% من الأراضي الأوكرانية، ومازالت قادرة حتى الآن على استخدام قدراتها العسكرية غير النووية في إدارة الصراع بكفاءة وقدرة عالية، ولم تنهزم اقتصاديا، ومازال الناتو يُصِر على إطالة أمد النزاع، بمزيد من الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي لأوكرانيا، وأيضًا بمحاولات مستديمة ومضطردة لعزل روسيا على كل الأصعدة...

"الخنجر" صاروخ روسي فرط صوتي يصعب اعتراضه

رسالة للناتو "احذروا مفاجآت بوتين"

  • لعل الكثير من المحللين تساءلوا: لماذا لم يحسم بوتين الحرب من زمن باستخدام القليل من قدرات روسيا النووية التكتيكية؟ وبهذا يحسم الصراع متجنبًا إزهاق الأرواح والأموال التي أهدرت في حرب لا تبدو لها نهاية قريبة، وذلك على غرار الحسم الأمريكي للحرب العالمية الثانية واستخدامها للسلاح النووي ضد اليابان في أغسطس عام 1945، وذلك بإلقائها قنبلتين؛ الأولى أسقطت على هيروشيما والثانية على ناجازاكي، وتحقق للولايات المتحدة الأمريكية ما أرادت؛ حيث حسمت الصراع واضطرت اليابان للاستسلام، وأعتقد أنه بفرض استخدام روسيا للسلاح النووي التكتيكي، فإن الناتو لن يُصَعد الأمر لمواجهة نووية مع روسيا، فالسلاح النووي الاستراتيجي يعد بحسب الأصل سلاحًا للردع.

- ومع هذا، فإنه وعلى جانب آخر، ومن منطلق تحليل أمني يستند على محاولة لقراءة فكر الرئيس بوتين، أنه يسعى بتُؤَدة أيضًا لكسب الوقت، ولكن هدفه من وجهة نظري قد يكون مفاجئا ومباغتًا.. فالرجل ربما يدفع بكل قوة لتطوير تكنولوجيا أسلحة الردع، وصولاً لهدف استراتيجي ألا وهو: "ابتكار أسلحة من شأنها تحييد القدرات النووية الاستراتيجية للناتو" ليتمكن إذا اقتضى الأمر من بدء الهجوم وإنهاء الصراع الأخطر.. ولما لا، ووفقًا لما أعلنه بوتين وقادة روس آخرون، فقد استطاعت روسيا تطوير صواريخ فرط صوتية سرعاتها أضعاف سرعة الصوت، وبهذا لا تستطيع قدرات الدفاعات الجوية للناتو اعتراضها.. فإذا انتجت المصانع الروسية شبكات للدفاع الجوي وذخائر بكميات هائلة.. من شأنها اعتراض الصواريخ النووية المضادة، بجانب توفير ابتكارات تكنولوجية عسكرية لتعطيل منظومات الإطلاق من العمل ولو لبعض الوقت.. وهنا لن يتردد بوتين في التهديد بالمواجهة باستخدام السلاح النووي التكتيكي ضد أوكرانيا، وإن لم تستسلم فسيفعلها، وهو على يقين بألا يُقدِم الناتو على مواجهة نووية مباشرة.. ولتحري مزيد من الدقة فقد استطلعت رأي أحد الأصدقاء من لواءات قادة الدفاع الجوي المصري السابقين، للتعرف على رأيه في إمكانية تحييد الصواريخ النووية التكتيكية للناتو فأجاب: "أعتقد أن روسيا لديها أقوى غطاء دفاع جوي في العالم، ورغم هذا لا يمكن الجزم أن بإمكانها صد الهجمات الجوية النووية للناتو بنسبة 100%".

صاروخ سارمات: من مقدمات الجيل السادس؟

يا أولي الأمر: شعوبكم سئمت طول الصراع:

لعله من الحكمة البالغة ولمصلحة أطراف الصراع كافة، أن تبدأ وبسرعة مرحلة التفاوض على إنهاء هذه الحرب، التي أنهكت العالم بأسره، ولعل هناك بارقة أمل بدت مؤخرًا في تصريح "ستيان يينسين" مدير مكتب الأمين العام لحلف الناتو، الذي لم يستبعد قبول عضوية أوكرانيا في الحلف حال قدمت تنازلات عن جزء من أراضيها لروسيا، وذلك كجزء من صفقة لإنهاء الحرب.

** أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بكلية الشرطة

رئيس برنامج الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات

وخبير مكافحة الإرهاب

الدكتور مدحت حماد يكتب: تحديات انتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤(1/4)

بكل تأكيد فإن العد التنازلي لانتخابات الرئاسة المصرية ٢٠٢٤ بدأ مع أول يوليو الماضي، وهو أمر لا يخفى على أحد، خاصة في ظل حالة "الترقب الصامت" التي تكتنف هذه الانتخابات بشأن طبيعة وكينونة "الشخصيات" التي ستنافس الرئيس عبد الفتاح السيسي في هذه الانتخابات.

إن حالة "الترقب الصامت" هذه، لم تنشأ لا من فراغ ولا قدراً، إنما تشكلت ونشأت نتيجة تضافر مجموعة من "العوامل المركبة والمعقدة"، منها على سبيل المثال:

١_ الجمود التاريخي للحياة الحزبية في مصر. منذ أن أعاد الرئيس السادات الحياة الحزبية في مصر بعد انتصار أكتوبر العظيم. لقد ظلت الدولة المصرية منذ ذلك الوقت وحتى الآن تراوح مكانها فيما يخص إطلاق العمل الحزبي على النحو المعمول به في جميع الدول الديمقراطية بما يؤدي بالضرورة إلى ما يعرف بتناوب السلطة بين حزبين رئيسيين أو أكثر. فمنذ ذلك التاريخ وحتى الآن، تقوم الحياة السياسية الحزبية المصرية على أساس "حزب الرئيس"، وهو الأمر الذي يؤكده "بقاء الرئيس في السلطة بقاءً شبه أبدي"، حيث لم يترك الرؤساء الثلاثة السابقين (أنور السادات، حسني مبارك ومحمد مرسي)، لم يتركوا السُلطة "طوعاً واختياراً"، إنما تركوها "قدراً أو كُرهًا".

٢_ توارث، أو توريث، منظومة "القيم السلبية" فيما بين فئات وقطاعات الشعب المصري من جهة، والأحزاب السياسية ذاتها من جهة أخرى، مثل استحالة تحقيق تداول حقيقي للسلطة بالطرق الدستورية العادية أي الانتخابات. فلسبب ما _ يحتاج إلى دراسات حقيقية صادقة لمعرفة الجذور الفعلية لهذه المفاهيم والقناعات السلبية _ لا يزال الناس وبالطبع الأحزاب السياسية، على قناعة مفادها أن "الرئيس الفلاني" الموجود في السلطة هو "الفائز" لا محالة في الانتخابات، شاء من شاء وأبى مَن أبى!

من ثم كان الإحباط الذي شكّل البيئة الخصبة لليأس وفقدان الأمل في وجود انتخابات رئاسية حقيقية تؤدي بالفعل إلى رحيل رئيس ومجيء رئيس آخر، بشكل عادي.

٣_ عدم وجود انتخابات المحليات منذ أكثر من عقد من الزمن، الذي تكامل بشكل قَدَري، مع ما رافق الانتخابات البرلمانية من انطباعات واشاعات كلها سلبية، بخصوص آليات اختيار الأحزاب لمرشحيها من جهة، وحدوث تنسيق "حزبي _ حزبي" أقرب إلى "تقاسم وتقسيم" المقاعد الانتخابية بين الأحزاب وبشكل توافقي، قبل إجراء الانتخابات البرلمانية من جهة أخرى، الأمر الذي ضاعف من اليأس والإحباط على النحو الذي جسدته تراجع معدلات الإقبال _ ومن ثم التصويت _ الشعبي فيها، وهي كلها حقائق لا تقبل التشكيك، إذ تثبتها وتؤكدها الأرقام والإحصاءات.

(هنا تحديداً يلزم الإشارة والتأكيد على أن عام ٢٠١٢ كان عاماً استثنائياً في تاريخ الحياة السياسية والحزبية المصرية منذ ثورة 23 يوليو 1952، سواء فيما يخص التصويت في الاستفتاء الدستوري أو في الانتخابات البرلمانية وكذلك الانتخابات الرئاسية)

فإذا ما أضفنا لذلك كله وجود قناعات لدى الكثير من المصريين بأنّ الأحزاب القائمة الآن إن هي إلا "امتداد" أو "استنساخ" للحزب الوطني الديموقراطي، والأكثر من ذلك اعتقاد عدد غير قليل من المصريين ب "عسكرة الحياة السياسية والحزبية" من خلال سيطرة نخبة من القادة العسكريين السابقين خصوصًا من بعد ثورة 30 يونيو، نكون أمام مقدمات خطيرة تشير إلى "عزوف شعبي" متوقع عن المشاركة الكبيرة في انتخابات الرئاسة 2024.

نعود إلى عنوان المقال فنقول، إنه في إطار ما سبق، واستنادًا إلى بعض العوامل الأخرى مثل تعاظم الأزمة الاقتصادية المصرية، والصعوبات الحياتية الكبيرة التي بات يعاني منها الكثير من المصريين، فإن "الدولة المصرية" بأسرها باتت أمام امتحان مصيري مرتبط بالانتخابات الرئاسية القادمة في 2024.

عندما أقول "الدولة المصرية"، فأنا أقصد بذلك النظام السياسي والشعب المصري معًا. ذلك أن الخوف أو القلق المرتقب، المتمثل في عزوف غالبية المصريين عن المشاركة والتصويت فيهذه الانتخابات، سوف يشكِّل _ إذا ما حدث ذلك _ أزمة سياسية ستنال بكل تأكيد من المكانة الخاصة بالرئيس القادم، الذي هو "الرئيس عبد الفتاح السيسي" نفسه.

ثمة "تحديات ثلاث"، ترتبط بالانتخابات الرئاسية 2024، هذه التحديات هي: "المصداقية"، "الجديّة" و"المشروعية".

أولاً: المصداقية.

في ظل عدم الإعلان المبكِّر، عن وجود منافسين حقيقيين يخوضون الانتخابات أم الرئيس عبد الفتاح السيسي، واستنادًا على كل ما ذكرناه سابقًا، خاصة فيما يتعلق بجمود أو تكلّس الحياة الحزبية، وحالة الحذر، التي يفسرها الكثير من الناس بأنها حالة خوف، المتعلقة بالإعلان عن المنافسين المحتملين للرئيس السيسي، فإن تآكل حقيقي لـ "المصداقية" سيكون هو الانطباع السائد بين جموع المصريين.

المقصود بالمصداقية هنا، هو مصداقية المتنافسين أمام _وفي أعين_ المصريين، وهل هُم جادين فعليًا لخوض غمار منافسة انتخابية حقيقية للرئيس السيسي أم أنهم سيبدون كما لو أنهم يعملون على استكمال الشكل الظاهري للعملية الانتخابية فقط؟

ثانيًا الجديِّة.

أعني بها جديِّة _وبالتالي قدرة_ المرشحين المحتملين لخوض غمار مواجهة ومنافسة انتخابية حقيقية تحظى بقبول واحترام وتصديق الناس. هذه الجديِّة هي توأم مباشر للمصداقية، وبالتالي فإننا إذا ما افتقدنا تحقق الأولى في المنافسين الذين سيخوضون غمار الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس السيسي، فإن النتيجة المباشرة لذلك هي زوال وتلاشي "جديّة المنافسة".

ثالثًا: المشروعية.

وهذه بدورها ستكون النتيجة "المُطلقَة" إذا ما انعدمت "المصداقية والجديِّة". من ثم سيكون الرئيس عبد الفتاح السيسي عند فوزه، أمام تحدي كبير مرتبط بمشروعيته هو شخصيًا. الأمر الذي سيفرض عليه ضغوطًا جديدة، وسيخلق له "تحديات داخلية نوعية" _ وربما "تهديدات خارجية" _ غير متوقعة.

من المقدمات التي تقودنا لذلك؛ على الأقل من الناحية الواقعية الحياتية، نذكر ما يلي:

  1. تراجع نسبة التصويت في آخر تعديلات دستورية.
  2. 2- تراجع نسب التصويت في آخر انتخابات رئاسية.
  3. 3- تراجع نسب التصويت في آخر انتخابات برلمانية.
  4. 4- تعاظم الأزمات الاقتصادية الاجتماعية الداخلية.

جميع ما سبق نال بكل تأكيد من معدلات التأييد الشعبي للرئيس عبد الفتاح السيسي مقارنة بما كان عليه أعوام 2012_2016 الأمر الذي بات يشكِّل في حد ذاته أكبر تحدي أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي شخصيًا.

وللحديث بقية.

الدكتور حامد محمود: البريكس.. هل تعيد رسم خارطة الاقتصاد العالمي؟

د/ حامد محمود

المدير التنفيذى لمركز الفارابى للدراسات السياسية والاستراتيجية

يأتى اجتماع قادة دول بريكس ذات الاقتصادات الناشئة والتي تمثّل نحو رُبع ثروة العالم، في جوهانسبرغ في قمّة ترمي لتوسيع نفوذ التكتّل والدفع باتجاه تحول في السياسة العالمية. ويستضيف رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامابوزا كلاً من الرئيس الصيني شي جينبينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي والرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في القمة السنوية للتكتّل والتي تستمر ثلاثة أيام. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فسيشارك في القمّة عبر الفيديو، وسيتوجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى جوهانسبرغ بدلاً منه.
تمثّل دول بريكس مليارات الأشخاص عبر ثلاث قارات، مع اقتصادات تشهد مراحل متفاونة من النمو، لكنّها تتشارك في أمر واحد: ازدراء نظام عالمي تقول إنّه يخدم مصالح القوى الغربية الغنية.

تأتي القمة لدول البريكس التى تعقد تحت شعار “بريكس وأفريقيا: شراكة من أجل النمو المتسارع المتبادل، والتنمية المستدامة، والتعددية الشاملة”.، في لحظة حرجة من عمر تطور التكتل ذاته، والنظام الدولي على حدٍ سواء، حيث يتناول الاجتماع “إعادة التوازن” في النظام العالمي، وبحث تداعيات الحرب في أوكرانيا على المجتمع الدولي. كما تشاور الاجتماع في الطلبات التي قدمتها حوالي عشر دول للانضمام إلى المجموعة .

وفي الوقت الذي تسعى فيه دول المجموعة، بالفعل، إلى ضم أعضاء جدد، لكي تصبح ذات فاعلية أقوى في الساحة الدولية، ومن ثمَّ العمل على إعادة التوازن في قمة النظام الدولي، وإصلاح المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، وتعديل آليات العولمة وقواعدها، لتراعي مصالح الأسرة الدولية كافة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل دائمًا على تعطيل انضمام بعض الدول إلى هذا التكتل، بل وتوسيع الفجوة والخلافات بين أعضاء التكتل ذاته.

على الرغم من ذلك، تعطي مجموعة “بريكس” أملًا لدول العالم في أن عالم القطب الواحد اقتصاديًا لن يستمر إلى الأبد، وأن هناك دولًا تفكر في إحداث تغيير كبير في هذا النظام. كما أن الأرقام الاقتصادية التي صدرت مؤخرًا عن مجموعة بريكس، وإعلان دول عديدة رغبتها في الانضمام إلى المجموعة، يؤكدان أن هذه المجموعة ستعمل على تغيير كبير في موازين القوة الاقتصادية والسياسية عالميًا. وقد كشفت الأرقام تفوق مجموعة بريكس لأول مرة على دول مجموعة السبع الأكثر تقدمًا في العالم، وذلك بعد أن وصلت مساهمة “بريكس” إلى 31.5% في الاقتصاد العالمي، مقابل 30.7% للقوى السبع الصناعية.

في هذا الإطار، يتناول هذا التحليل، قراءة في مخرجات اجتماع وزراء خارجية المجموعة في كيب تاون، ونشأة وأهمية وأهداف المجموعة، ولماذا تسعى بعض الدول إلى الانضمام إلى هذا التكتل الآن، وما هي أهم التحديات التي تواجه المجموعة، وأخيرًا مآلات ومستقبل مجموعة بريكس.

ثلاثية النشأة والأهمية والأهداف:

تأسست مجموعة بريكس تحت مسمى “بريك”، أي الأحرف الأولى من الدول المشكلة لها، وهي البرازيل وروسيا والهند والصين، وعقدت أول قمة لها عام 2009، ثم انضمت إليها جنوب أفريقيا عام 2010، ليصبح اسمها “بريكس” (BRICS). وعلى الرغم من التطلعات الكبيرة لأعضائها ببناء عالم ثنائي القطبية، فإن المجموعة لم تتحول إلى تكتل اقتصادي وسياسي قوي ينافس الغرب وحلفاءه. وكانت روسيا هي التي شرعت في إنشائها. ففي 20 سبتمبر 2006 تم عقد أول اجتماع وزاري للمجموعة بدعوة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما تقرر خلال قمة بريكس بالبرازيل في 15-16 يوليو 2014، إنشاء بنك للتنمية وتبني معاهدة لوضع احتياطي طارئ للمجموعة، التي باتت تمتلك ما مجموعه 200 مليار دولار.

وتعمل مجموعة بريكس على تشجيع التعاون التجاري والسياسي والثقافي بين الدول المنضوية تحت عضويتها. وتعتبر كل دول بريكس الخمس دولًا صناعية، وتتميز بضخامة اقتصاداتها. وقد حققت كل الدول الأعضاء، ربما باستثناء روسيا، نموًا مستديمًا، أكثر من معظم البلدان الأخرى، ذلك ما عدا فترة أزمة كوفيد 19. وربما كان أهم الإشارات إلى أهمية “بريكس” للاقتصاد العالمي نصيبها من احتياطيات العملة الأجنبية. وتوجد أربع دول أعضاء في المجموعة من بين أكبر عشر دول تحتفظ باحتياطيات تبلغ نحو 40% من مجموع احتياطيات العالم. وتملك الصين وحدها 2.4 تريليون دولار، كما تعتبر ثاني أكبر دائن بعد اليابان. كما تمثل مجموعة بريكس أكبر اقتصادات خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهي نادي الأغنياء بالنسبة للاقتصادات الناشئة. وبالإضافة إلى الأهمية الاقتصادية للمجموعة، توجد الأهمية الديموغرافية، حيث يعيش بالدول الخمس نصف سكان العالم، ويوازي الناتج الاجمالي المحلي للدول مجتمعة ناتج الولايات المتحدة (13.6 تريليون دولار) ويبلغ مجموع احتياطي النقد الأجنبي لدول المنظمة أربعة تريليونات دولار.

الجدير بالذكر، أن بريكس ليس لديها سكرتارية أو ميثاق. ومنذ تأسيسها، تقوم الدولة التي تترأس المجموعة بتنظيم القمة التي تستضيفها، ويتم التنسيق على اختيار الدولة التي ستعقد القمة المقبلة بعد نهاية كل قمة، حيث تُعقد القمم بشكل سنوي. كما تختلف مجموعة بريكس كثيرًا عن بقية أشكال التجمعات والتحالفات والمنظمات التي شهدتها الساحة الدولية من قبل، فهذه الدول الخمس بينها رابط ثقافي مهم، وهو أنها لا تنتمي إلى “دائرة الحضارة الغربية”، بل تشكل مزيجًا متميزًا من حضارات مختلفة، حيث قمة الحضارة الشرقية العريقة؛ الهندوسية في الهند والبوذية في الصين، والحضارة السلافية الأرثوذكسية المتميزة عن الشرق والغرب معًا في روسيا، والحضارة الغربية اللاتينية في البرازيل، التي يتميز شعبها بثقافة وفنون متميزة كثيرًا، حتى عن الدول المحيطة بها، والحضارة الأفريقية في جنوب أفريقيا. لكن المؤكد أن الرابط السياسي الذي يربط هذه الدول الخمس، والذي على أساسه نشأت هذه المجموعة، هو رفض الهيمنة الغربية على الاقتصاد والسياسة العالمية، هذه الهيمنة التي تسببت في إغراق الاقتصاد العالمي في أزمات، يعاني الكثير للخروج منها، أنها لا يربطها نطاق جغرافي أو إقليمي. لذا يُمكن أن نسبغ عليها مصطلح المنظمة العابرة للقارات، أو بالأحرى المنظمة المرنة.

إجمالًا، يهدف تكتل بريكس إلى تقديم المساعدة المالية للدول الأعضاء، وغير الأعضاء، وتحقيق التنمية والتعاون، ودعم المشاريع والبنية التحتية، وتحقيق التكامل الاقتصادي للدول الأعضاء. كما تتمثل الأهداف الحقيقية لـ BRICS في عدة أمور منها ما يلي:

  1. إقامة نظام متعدد الأقطاب: منافسة مجموعة السبع التي تمثل 60% من الثروة العالمية، فيما تمثل دول بريكس 40% من مساحة العالم، حيث إنها تضم أكبر خمس دول في العالم من حيث المساحة. كما ارتكزت فكرة تأسيس مجموعة بريكس على تحقيق التوازن الدولي والخروج من سيطرة الغرب الاقتصادية، التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في المجالات كافة، إذ يعد أحد أهداف إنشاء التكتل إقامة نظام عالمي مُتعدد الأقطاب، وهو المطلب الذي تصاعدت وتيرته في الفترة الأخيرة، لتبدي عدة دول رغبتها في الانضمام إلى المجموعة. وقد أخذت “بريكس” اهتمامًا أكبر من السابق بعد الحرب الأوكرانية، والتشتت الحاصل في النظام العالمي، والاتجاه نحو تكتلات جيو-سياسية وجيو-اقتصادية أو جيو-استراتيجية. وبرزت أهمية “بريكس” خصوصًا بعد الاجتماع قبل الأخير الذي ضم تقريبًا عشرين دولة. وأصبحت هذه المجموعة تضاهي وتوازي منظمات، مثل مجموعتي السبع والعشرين”.
  2. دعم السلام وتحقيق التنمية: تهدف المجموعة إلى التعاون فيما بينها، ودعم السلام والأمن والتنمية الاقتصادية في العالم، خصوصًا أنها تضم فيما بينها الصين، التي تعد أكبر اقتصاد في العالم، والهند، وهي ثالث اقتصاد في العالم، ثم روسيا، التي هي أكبر مصدر للطاقة في العالم. كما تصبو دول المجموعة إلى خلق قطب اقتصادي آخر في العالم بدلًا من القطب الواحد، وخلق حالة من التوازن العالمي أمام هيمنة الاقتصاد الأمريكي والدولار على الاقتصاد العالمي، يعزز ذلك أن هذه المجموعة، من حيث الصناعات، ربما هي أقوى من مجموعة السبع، علاوة على قوة اقتصادات تلك الدول من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وتأتي ضمن العشر الكبار في العالم. كما تؤدي هذه المجموعة دورًا في تحييد أو تقليل تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا مؤخرًا، بعد أن رفضت الانضمام للعقوبات الاقتصادية، وبقيت تتعامل مع موسكو، خصوصًا الهند والصين، في مجال النفط والغاز.
  3. تعديل قواعد العولمة: التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، وترى دول المجموعة ضرورة العمل على تعديل قواعد العولمة لتستفيد منها كل دول العالم، وليس الولايات المتحدة وحلفاءها فقط. وما يساعد دول المجموعة على تحقيق هذا الهدف، هو أن العالم يتجه نحو نوع من الشرذمة في النظام العالمي، والتشتت في ظل نهاية العولمة وتحولها إلى نوع جديد يتبلور عبر تكتلات إقليمية، مثل تكتل آسيا الجنوبية، وتكتل أوروبا، وأمريكا الشمالية، والاتحاد الأفريقي.
  4. تحقيق المصالح الجيواستراتيجية: حيث تُسهم دول المجموعة بـ 23% من الاقتصاد العالمي، و18% من تجارة السلع، و25% من الاستثمار الأجنبي، وتعد قوة مهمة لا يمكن تجاهلها في العالم. وفي هذا الإطار تحاول دول مجموعة بريكس، خاصة بعد الأزمة الأوكرانية، تفعيل وتبادل العملات المحلية بين دولها من أجل كسر شوكة الدولار أو التفوق عليه، وهي في ذلك تعول على سعر النفط ومبيعات البترول في محاولة لتحقيق أحلامها. وفي الواقع، فإن محاولات من مجموعة بريكس لأن تكون لديها عملة موحدة للتخلص من هيمنة الدولار الأمريكي، ستؤثر على المسار الاقتصادي العالمي. وهناك توقعات بأن تنتج بلدان مجموعة بريكس 50٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030، على الرغم أن مجموعة دول مجموعة بريكس ليست سوقًا مشتركة للتجارة الحرة. وقد نُوقِشَ موضوع “منطقة التجارة الحرة” المحتملة داخل مجموعة بريكس على أعلى المستويات على الأقل منذ عام 2015، عندما ذكر نائب وزير التنمية الاقتصادية الروسي آنذاك أن مثل هذا الاتفاق يمكن أن يكون ممكنًا في غضون 5 سنوات، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن. ويمكن القول إن “بريكس” تتبنى التجارة التفضيلية كباكورة لتحقيق أهداف التكامل الاقتصادي، وذلك من خلال العمل على تخفيض الرسوم الجمركية بين الدول الأعضاء.

ثالثًا، لماذا تسعى الدول للانضمام لـ “بريكس”؟:

بداية، هناك الكثير من الدول، من مختلف قارات العالم، تسعى الآن إلى الانضمام لـ “بريكس”، منها دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، ومصر والجزائر وإيران والأرجنتين وغيرها، ولكل دولة نقاط قوة ونقاط ضعف، لكن يظهر أن قادة بريكس يبحثون عن تعزيز المجموعة بغض النظر عن القوة الاستراتيجية للأعضاء الجدد من أجل تحقيق تكتل كبير من القطبية الاقتصادية. في الواقع، تهدف الدول التي تسعى إلى الانضمام إلى “بريكس” إلى تحقيق عدد من الأهداف، والتي من بينها:

أ. الحصول على التمويل وجذب فرص الاستثمار

ب. مواجهة الأزمات العالمية

ج. عصر التكتلات الكبرى. التوازن والتنوع في العلاقات

أهم التحديات التي تواجه “بريكس”:

على الرغم من تلك الفرص الواعدة التي يُعززها نهم العديد من الاقتصادات للابتعاد عن الدولار، فإن المجموعة لا تزال تحدها مجموعة من التحديات والعقبات، سواء الداخلية (المرتبطة بمدى تجانس الأعضاء، ومدى اتفاقهم على الأهداف الرئيسية والأولويات)، أو التحديات الخارجية، المرتبطة بصعوبات مقارعة الدولار المتغلغل في صلب النظام الدولي، الذي يهيمن على مفاصل التجارة الدولية، وبالتالي فإن فرص هز النظام القائمة على المدى المنظور تبدو ضعيفة بالنسبة لـ”بريكس”، التي تحتاج إلى مزيد من العمل لبلوغ تحقيق هدفها المنشود على المدى الطويل.

مواطن الضعف التي قد تكون كوابح بوجه تحقيق أهداف بريكس:

(1) محدودية الموارد: تعاني دول بريكس في العموم مشكلة الموارد المحدودة، التي تواجه اقتصاداتها، إذ تواجه الهند والصين نقصًا في المياه والطاقة، والتي تتزامن مع ثبات نمو إنتاج المحاصيل الزراعية، وهو ما يثير المخاوف من تفاقم الوضع الغذائي في الأعوام القادمة، على الرغم من أن الدولتين لديهما نوع ما من الاكتفاء الذاتي في الغذاء في الوقت الحاضر.

(2) غياب التنسيق: ما زالت بعض السياسات التجارية غير منسقة بين دول المجموعة، فهناك سياسات إغراق متبعة، منها إغراق السوق البرازيلية بالأحذية الصينية، وجنوب أفريقيا بالملابس الصينية، حيث واجهت صناعة النسيج ضربة كبيرة في جنوب أفريقيا بسبب المنتجات الصينية، كما فرضت الهند رسومًا على بعض السلع الصينية، وحدث من قبل خلاف بين بكين وموسكو حول تسعير النفط الروسي.

(3) غياب الروابط الجغرافية والثقافية: من المشاكل أيضًا التي تواجهها المجموعة أنها تجمعٌ أو تحالف يختلف بشكل كبير عن بقية التجمعات التي شهدتها الساحة الدولية، حيث لا يوجد رابط سياسي أو ثقافي واضح، كما لا يربطها رابط جغرافي أو إقليمي، بل تنتمي إلى أربع قارات مختلفة.

(4) التباين الاقتصادي: تعتبر هذه المجموعة غير متوازنة اقتصاديًا، فالتباين واضح لصالح الصين، سواء في الإنتاج أو التجارة الخارجية أو الاستثمار، بينما في الجانب السياسي فهو لصالح روسيا الاتحادية. لذلك يصنف البعض “بريكس” على أنها جسد رأسه روسيا، وجسده الصين، والدول الأخرى الأطراف. وأن روسيا تحاول الهيمنة على هذه المجموعة وتوجهها حسب مصالحها وتطلعاتها على الساحة الدولية.

(5) الصراع المتزايد مع الولايات المتحدة: تعاني دول المجموعة حزمة من المشاكل الخارجية، منها الحرب الأوكرانية، حيث لم تستطع موسكو حسم الصراع لصالحها، على الرغم من مرور ما يقرب من عام ونيف في ظل اصطفاف الغرب مع كييف، وتزويدها بكميات هائلة من الأسلحة الحديثة. فضلًا عن وصول الصراع بين بكين وواشنطن إلى حافة الهاوية، حيث تعمل الولايات المتحدة جاهدة على تطويق الصين، والحد من نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ولتحقيق ذلك عملت واشنطن على إقامة شراكات استراتيجية مع الدول المجاورة لبكين، وإقامة تحالفات “إيكواس” و “العيون الخمس”.

(6) الصراعات البينية بين دول المجموعة: تعاني بعض دول المجموعة تفجر بعض الصراعات فيما بينها، مثل النزاع الحدودي بين الهند والصين، فضلًا عن التنافس الاقتصادي والاستراتيجي بينهما، كما أن هناك الكثير من المخاطر السياسية المحتملة لانضمام دول جديدة، مثل إيران وكذلك الأرجنتين، التي تقدمت بالفعل بطلب انضمام، دعمته الصين وروسيا، بوصفها عضوًا ناطقًا بالإسبانية من أمريكا اللاتينية. وفضلًا عن ذلك، كان طلب الأرجنتين للعضوية في “بريكس” محل انقسام داخلي، ما بين وجهة نظر مؤيدة تؤكد أهمية الروابط التجارية والمالية مع الصين والشراكة معها في “مبادرة الحزام والطريق”، والتبادل التجاري المتنامي مع الهند، والمزايا التي يمكن للأرجنتين الحصول عليها من قبولها عضوًا في “بنك التنمية الجديد”، ووجهة نظر أخرى رافضة باعتبار أن هذا الانضمام ستكون له عواقب سلبية على علاقات الأرجنتين بالولايات المتحدة وأوروبا.

المسارات المستقبلية لمجموعة البريكس

يتخذ مستقبل المجموعة عدة مسارات متنوعة هي:

المسار الأول: التحول إلى قطب دولي: وهو السيناريو الأكثر تفاؤلًا، حيث تنجح دول المجموعة في التحول إلى فاعل دولي قوي. ويقوم هذا السيناريو على افتراض قدرة دول “بريكس” على تجاوز خلافاتها البينية، خاصة في الشؤون الاستراتيجية والتقاء مشاريع كل من هذه الدول حول استراتيجية تغيير بنية النظام الدولي الراهن، والانتقال إلى النظام الدولي المتعدد الأقطاب الذي ينهي عهد الهيمنة الأمريكية. كما يقوم هذا السيناريو أيضًا على انضمام عدد من الدول الفاعلة إقليميًا ودوليًا للمجموعة، مثل الإمارات والسعودية، الأمر الذي يزيد القوى الاقتصادية والسياسية لـ “بريكس”، ويوفر لها الأموال اللازمة لتطوير المؤسسات والمشاريع الاقتصادية والمالية للمجموعة. وتنجح دول المجموعة في عقد الصفقات وتبادل إسناد القروض عبر تأسيس آليات نقدية ثنائية أو بين الدول الخمس، وتأسيس قاعدة تعاون استثمارية وتجارية مشتركة، وتأسيس منظومة تعاون نقدية متعددة المستويات بين دول المجموعة، وبذلك يمكن من خلال إطار التعاون المالي بين دول المجموعة دفع احتساب التجارة بالعملة المحلية، والتوسيع المستمر لنطاق ومجال تبادل اعتماد العملة المحلية بالعلاقات الثنائية أو متعددة الأطراف بين الدول الخمس، الأمر الذي سيسهل المبادلات التجارية والاستثمار بين دول المجموعة، ويدفع بالتعاون والاستثمار المشترك بينها.

المسار الثاني: استمرار الوضع الراهن: وهو السيناريو الوسط، ويفترض هذا السيناريو استمرار الوضع الدولي الراهن للمجموعة كما هو عليه. فقد تنجح دول المجموعة في ضم أعضاء جدد، لكن من دون أن تتحول إلى قطب دولي، أو تحد من دور الولايات المتحدة العالمي، وربما يظل دورها في التصدي والتنديد بالسياسات الأمريكية. كما تظل المؤسسات المالية التي أنشأتها دول المجموعة غير فاعلة بالمستوى المرغوب فيه. وفي ظل هذا السيناريو قد تزداد قدرة المجموعة على التأثير على جدول الأعمال العالمي، ولكنها تفشل في المساهمة في فرض قضايا محددة على الأجندة الدولية.

المسار الثالث: الاحتواء وتأكيد الهيمنة الأمريكية: وهو السيناريو الأكثر تشاؤمًا، حيث تفشل دول المجموعة في التحول إلى فاعل دولي قوي. ويفترض هذا السيناريو، غلبة التحديات التي تواجه “بريكس” على الفرص التي تتمتع بها دوله، وهذا ما سيقود إلى غلبة الخلافات البيئية، والابتعاد بين دوله، وبالتالي فشل مشروع “بريكس” في لعب دور دولي مؤثر، والمساهمة الفاعلة في تغيير شكل النظام الدولي الراهن. وفي ظل هذه السيناريو تنجح الولايات المتحدة في استقطاب بعض دول المجموعة، وتفشل روسيا في الحرب الأوكرانية، وتقبل بالشروط الغربية لعملية السلام، وتنضم أوكرانيا مع غيرها من دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو، فضلًا عن اتساع الخلافات الهندية الصينية. وفي ظل هذا السيناريو أيضًا، تنجح الولايات المتحدة في احتواء واستنزاف القدرات الصينية. أخيرًا، يمكننا القول إن السيناريو الأكثر تحققًا على المدى القريب، هو السيناريو الثاني، حيث ستعمل دول المجموعة جاهدة على توسيع التعاون المشترك، وتوسيع قاعدة العضوية، ولكن لن تصل إلى حد أن تكون قطبًا دوليًا فاعلًا يستطيع فرض أجندته على باقي دول العالم.

الدكتور محمد السعيد ادريس يكتب: استراتيجية تصدي “التنين الصيني” لأمريكا.

التمرد الصيني بالقوة الإستراتيجية

للتمرد الصيني على سياسات الهيمنة والغطرسة والتفرد الأمريكية أوجهاً كثيرة وهذا ما يعطيه الأهمية التي تحظى بها عند الأمريكيين كمصدر أول للتهديد. أبرز، وربما أهم، هذه الأوجه هو ذلك التمرد الاستراتيجي، أي التمرد والتحدي عبر امتلاك القدر اللازم النوعي والكيفي من مصادر القوة الاستراتيجية الشاملة: الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. فالصين، وعبر هذه المصادر المحورية للقوة، لم تعد قادرة فقط على أن تقول "لا" لسياسات الاستعلاء وإملاء الشروط الأمريكية، بل وأن تطرح نفسها كقوة شريكة، إن لم تكن بديلة، فى قيادة نظام عالمي جديد أكثر عدالة وديمقراطية.

وإذا كانت الصين قد أبهرت العالم أول ما أبهرت بقوتها الاقتصادية عندما استطاعت أن تنافس الولايات المتحدة الأمريكية فى حجم الناتج القومي الإجمالي الذي يتقدم بمعدلات متسارعة عكس الحالة الأمريكية، حيث من المقدر أن يوازى نظيره الأمريكي حتى عام 2025 أو بعد ذلك بقليل، فإنها باتت تفوق اقتصاديا على الولايات المتحدة وفق مؤشرات أخرى للتقدم. فالميزان التجاري، بين البلدين، يعمل لصالح الجانب الصيني لعدة سنوات متتالية حيث بلغ 418,23 مليار دولار فى العام 2018 و404,1 مليار دولار فى العام 2022، كما بلغ حجم الاستثمار الصيني فى سندات وأذونات الخزانة الأمريكية 1060,1 مليار دولار فى بداية عام 2022، وتعتبر الصين المقرض الثاني للولايات المتحدة، وكانت لسنوات هي الدائن الأول للولايات المتحدة، لكن الأخطر من ذلك هو ما تقوم به الآن، بالتعاون مع شركاءها فى منظمة "بريكس" خاصة روسيا من أدوار لكسر أهم مرتكزات القوة الاقتصادية الأمريكية متمثلة فى الدولار الأمريكي، عبر تكريس سياسة التبادل التجاري بالعملات الوطنية متحررة من الدولار بينها وبين دول هذه المجموعة التي تضم إلى جانب الصين روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، والسعى لإصدار عملة بديلة للدولار ، وربما تصدر هذه العملة فى مؤتمر المجموعة الذي سيعقد فى جنوب أفريقيا فى شهر أغسطس القادم وعندها سوف يهتز عرش الدولار ومعه النفوذ الأمريكي، إذا أضفنا إلى ذلك التأثير المستقبلي لسياسة "الحزام والطريق" الاقتصادية الصينية التي أطلقها الرئيس الصيني عام 2013 وتهدف إلى "بناء سوق كبيرة موحدة" يجمعها التبادل التجاري والثقافي والثقة وهدفها "تعزيز الازدهار العالمي"، ستكون الصين مع اكتمالها قوة اقتصادية عالمية مؤثرة بشبكة واسعة تضم عشرات الدول، تجمعها روابط التعاون والثقة المتبادلة، باعتبارها عنوانا للدور الصيني العالمي المنتظر .

أما القوة العسكرية الصينية فقد بلغت مستوى أربع القيادات العسكرية الأمريكية للدرجة التي دفعت قائد القوات الأمريكية الإستراتيجية استراتكوم" الجنرال تشارلز ريتشارد إلى القول أمام الندوة السنوية لرابطة الغواصات البحرية وتحديث الصناعة أن "المنافسين مثل الصين يتفوقون على الولايات المتحدة بطريقة دراماتيكية وعلى الولايات المتحدة أن تُصعّد من لعبة الردع الخاصة بها، وإلا ستنهار"، وزاد على ذلك القول : "بينما أقوم بتقييم ردعنا ضد الصين، فإن السفينة تغرق ببطء.. إنها تغرق ببطء، لكنها تغرق، لأنهم فى الأساس يصنعون القدرة فى الميدان أسرع مما نحن عليه.. ومع استمرار هذه المنحنيات ، لن يكون الأمر مهما إلى أي مدى نحن جيدون، أو مدى جودة قادتنا، أو ما مدى جودة خيولنا.. لن يكون لدينا ما يكفى منها، وهذه مشكلة على المدى القريب جداً". وهو ما اعتبر اشارة إلى تفوق الصين فى عدد سفنها الحربية، وتسريعها بناء المزيد من حاملات الطائرات.

لم تأت هذه الشهادة من قائد عسكري أمريكي له وزنه ومكانته من فراغ فالقدرات العسكرية الصينية، التي كانت تحتل المرتبة الثانية من الاهتمام بعد أولوية التفوق الاقتصادي للصين، باتت تنافس هذا التفوق الاقتصادي للصين فى ظل إدراك صيني متنامي بعنف العداوة الأمريكية للصين. فالجيش الصيني الذي يحتل المرتبة الأولى فى العالم من حيث العدد (مليونين و35 ألف رجل وامرأة" والثاني من حيث الميزانية قرر زيادة مخصصاته بنسبة 7,2% فى عام 2023 الحالي، الأمر الذي سيسمح له بمواصلة مهماته التحديثية.

أما من حيث التسليح فالصين تملك 350 رأساً نووياً وفقاً لأرقام عام 2022 كما أوردها معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، وتمتلك الصين ثلاث حاملات طائرات، وتحرز القوات الجوية الصينية تطوراً سريعا على الأخص بمقاتلات جديدة مثل "16-J " والمقاتلات الشبح (20J) وهي طائرات "تضاعف على الأرجح" معدل انتاجها السنوي خلال السنوات الثلاث الماضية، أما بالنسبة للسلاح البحرى فإن الصين تقدم أحيانا على أنها أول قوة بحرية فى العالم من حيث عد السفن قبل الولايات المتحدة. هذه القوة العسكرية هي التي مكنت الصين من امتلاك القدرة على إظهار التحدي القوى للولايات المتحدة فى بحر الصين الجنوبى ومجمل إقليم جنوب شرق آسيا، وإجراء المناورات العسكرية قبالة سواحل تايوان، للدرجة التي  دفعت جنرالا أمريكيا هو "مايكل مينيهان" المنتمي إلى سلاح الجو إلى التحذير من المخاطر العالية لنشوب حرب مع الصين عام 2025 على الأرجح بسبب تايوان، وليست هناك شهادة على التفوق العسكري الصيني وبالذات القدرات التسليحية الصينية من التحذيرات الأمريكية للصين من العواقب الخطيرة لأي تورط صيني فى امداد روسيا بأسلحة متطورة فى حربها فى اوكرانيا خشية أن يؤدى ذلك إلى قلب موازين القوى فى هذه الحرب لصالح روسيا.

وإلى جانب القوتين الاقتصادية والعسكرية دخلت الصين أيضا ميدان التنافس على التفوق فى امتلاك القدرات التكنولوجية المتقدمة والمتفوقة. ردود الفعل الأمريكية العصبية على شركة "هواوى الصينية" العملاقة فى انتاج الهواتف المحمولة وتصنيع أجهزة إرسال الجيل الخامس المرتبطة بالتقنيات العالية وكذلك على تطبيق "تيك توك" التابع لشركة "بايت دانس" الصينية ومنع تداوله على المستويات الرسمية والشخصية فى الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبية بحجة حماية الأمن القومي خشية "التهديد السيبراني" الصيني، كلها شهادات أمريكية وغربية على ما نجحت الصين فى تحقيقه من تقدم فى مجال التكنولوجيا المتقدمة، وفى السنوات الأخيرة دخلت الصين مجال التحدي مع الولايات المتحدة فى تصنيع "الشرائح الإليكترونية" خاصة بعد قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن (أكتوبر 2022) بفرض ضوابط وقيود واسعة على الصادرات التكنولوجية بهدف منع الصين من الحصول على أشباه الموصلات المتطورة . فقد جاء الرد الصيني هو التحدي الذي اتخذه المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي (أكتوبر 2022) لمواجهة الحرب التكنولوجية. ظهر ذلك فى خطاب الرئيس الصيني "شي جينج بينج" أمام هذا المؤتمر حيث رصد المراقبون أن كلمة "التكنولوجيا" وردت فى هذا الخطاب 40 مرة، ووعد بتحقيق الاكتفاء الذاتي فى مجال التكنولوجيا المتطورة الذي دشنته الصين تحت اسم "صنع فى الصين عام 2025" عام 2015 من أجل إعادة تركيز صناعتها على التنافس فى مجال التحول إلى التشغيل الآلي والشرائح الإليكترونية الدقيقة.

لقد أدى التنافس والصراع مع الولايات المتحدة إلى تنامى "النزعة القومية التكنولوجية" فى الصين ولأول مرة يضيف الحزب الشيوعي الصيني الحاكم فئة جديدة إلى قائمة أولوياته وهي "تحقيق قوة كبيرة مدعومة من التكنولوجيا والعلم والتعليم" وعندما تنجح الصين فى ذلك ستكون قد تكاملت عناصر قوتها وعندها ستكون قادرة بجدارة على ممارسة التمرد ضد السياسة الأمريكية.

تحديات "مبدأ مونرو" الصيني

تعرف الصين جيداً أنها، وهي تطمح لأن تصبح قوة عالمية شريكة فى قيادة النظام العالمي، أنها مطالبة أولاً بأن تفرض نفسها كـ "قوة إقليمية مهيمنة" فى الإقليم الذي هي جزء منه، أي إقليم شرق وجنوب آسيا أو ما يعرف فى الاستراتيجية العالمية بإقليم المحيطين الهادي والهندي. أول هذه الشروط أن تكون القوة الأقوى فى الإقليم، وثانيها أن تكون قادرة على منع وجود أو ظهور أي قوة أخرى، من داخل الإقليم أو من خارجه، يكون فى مقدورها منافستها على هذه الزعامة.

الولايات المتحدة فعلت ذلك قبل أن تصبح قوة عالمية، فعلته عندما أكملت وحدتها وحققت استقرارها الداخلي وتمكنت من امتلاك كل أنواع القوة اللازمة فقررت إبعاد كل القوى الاستعمارية الأوروبية من القارة الأمريكية، وأصدرت مبدأ سياسياً حمل اسم وزير خارجيتها "مونرو" وأصبح "مبدأ مونرو" مقرراً بأن الولايات المتحدة لن تسمح بوجود أي قوة من خارج القارة الأمريكية تتدخل فى شئونها، وأنها هي وحدها القوة الإقليمية المهيمنة على هذا الإقليم الممتد إلى كل أمريكا الوسطى والجنوبية. وتطورت السياسة الأمريكية بعد ذلك طردياً مع صعود القوة الأمريكية فمن شريك فى قيادة متعددة للنظام الدولى قبل الحرب العالمية الثانية فى سنوات عصبة الأمم إلى قوة عالمية مسيطرة فى نظام ثنائى القطبية تم اقتسام مناطق النفوذ فيه مع الاتحاد السوفيتي، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي تحولت الولايات المتحدة، أو بالأحرى سعت إلى فرض نفسها كقوة عالمية أحادية مسيطرة على النظام العالمي، وكان هذا كله يتضمن حقيقة مهمة هي أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تكون قوة إقليمية فى كل نظام إقليمي على مستوى العالم إما قوة مهيمنة مسيطرة وإما قوة شريكة فى التنافس على النظام العالمي، ومن أبرز هذه النظم الإقليمية كان النظام الإقليمي الأوروبي (الغربي) بعد الحرب العالمية الثانية والنظام الإقليمي لجنوب شرق آسيا، حيث تتواجد القوة الأمريكية فى هذا الإقليم وعلى مدى عقود مضت كقوة مهيمنة من خلال أساطيلها وقواعدها العسكرية فى الإقليم ومن خلال تحالفاتها العسكرية وشراكاتها الاستراتيجية مع أبرز الدول فى هذا الإقليم خاصة اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ، دون تجاهل للصديق الهندي الذي ظلت واشنطن تداعبه من أجل تعظيم التنافس بينه وبين الصين كوسيلة مهمة لاحتواء الصين، وتوظيف "الصراع الهندي – الصيني" لغرض احتواء القوة الصينية الصاعدة ومنع تحول الصين إلى قوة إقليمية مهيمنة على إقليم المحيطين الهادي والهندي.

الصين مدركة لكل ذلك، وتعرف أنها لكى تصبح "قوة عالمية" قادرة على تغيير النظام العالمي الحالي أحادي القطبية الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة إلى نظام بديل "متعدد الأقطاب" و"أكثر ديمقراطية وعدالة" لابد أن تنجح أولاً فى أن تفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة على إقليم المحيطين الهادي والهندي (شرق وجنوب أسيا)، وثانياً أن تحد من النفوذ الأمريكي فى الإقليم كخطوة أولى نحو طموحها فى إنهاء هذا النفوذ.

بوضوح شديد تدرك الصين أنها مطالبة بأن تكرر التجربة الأمريكية كقوة مهيمنة إقليمية فى القارة الأمريكية، أي أن تكون قادرة على تخليق "مبدأ مونرو الصيني". وأنها لكى تحقق ذلك عليها أن تمتلك القوة اللازمة والمتفوقة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً، وأن تتبنى سياسات وتلتزم بمبادئ فى إدارة علاقاتها الإقليمية أولاً والدولية ثانياً، أشبه بمبدأ مونرو الأمريكي فى شرق وجنوب أسيا، وأن تدخل فى مناوشات مع الولايات المتحدة ضمن هدف إبعاد النفوذ الأمريكي وتفريغ الإقليم من أي قوة منافسة لمسعى فرض الصين كمهيمن إقليمي، وفى مقدمتها القوة الأمريكية، وأن تفكك التحالفات الأمريكية فى ذلك الإقليم، وأن توسع هي من تحالفاتها الإقليمية.

معضلة الصين الأساسية الآن هي أن الولايات المتحدة تخطط هي الأخرى لمنع تحول الصين إلى قوة إقليمية مهيمنة فى إقليم شرق وجنوب آسيا، وتقوم بكل ما يلزم القيام به لتحقيق ذلك، بزيادة وتكثيف وجودها العسكري فى الإقليم، والسعي إلى "عسكرته" أمام الصين أي جعله مفعما بالقدرات والأنشطة العسكرية المكثفة المناهضة للصين، وبتوسيع وتمتين تحالفاتها الإقليمية فى ذات الإقليم، وربط هذه التحالفات بالحلف الأمريكي الأساسي أي "حلف شمال الأطلسي" بحيث أضحى هذا الحلف بمثابة "شبكة أحلاف إقليمية يديرها ويقودها حلف شمال الأطلسي . وقد تكشفت هذه الحقيقة من خلال ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي "ينس ستولتنبرج" خلال اجتماعه بوزراء خارجية دول الحلف فى بروكسل (15/2/2023) من تبنى مفهوم جديد للتخطيط العسكري للحلف يأخذ فى الاعتبار "التهديدات الصينية".

وقد أكدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة فى أكتوبر الماضي محورية التواجد العسكري الأمريكي المكثف فى إقليم المحيطين الهندي والهادي، إلى جانب محورية التصدي للصين باعتبارها القوة المهيأة لمناطحة النفوذ الأمريكي إقليمياً وعالمياً. وتوسعت الولايات المتحدة فى فرض هذا المفهوم بإدخال الدول الصناعية السبع (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان وألمانيا وإيطاليا) شريكاً فى سياسة احتواء الصين فى عمق إقليم جنوب شرق آسيا الذي هو عنوان الطموح الصيني لتنفيذ "مبدأ مونرو" بمفاهيمه الصينية.

ففى مؤتمرها الأخير الذي عقدته فى مدينة هيروشيما اليابانية أصدرت قمة الدول الصناعية السبع التي أضحت عنواناً لقيادة أمريكية للنظام العالمي بيانا عقب قمتها فى هيروشيما التي استمرت ثلاثة أيام (19-21/5/2023) تضمن مبادرة أعطوها اسم "برنامج التنسيق بشأن الإكراه الاقتصادي" لمواجهة الصين، التي وصفت بأنها تمارس "الإكراه الاقتصادي" وتعهدوا "باتخاذ خطوات لضمان فشل محاولة أي طرف تحويل التبعية الاقتصادية إلى سلاح ومواجهة العواقب" معتبرين أن الصين "تمثل تهديدا للأمن الاقتصادي". كما حرص الرئيس الأمريكي جو بايدن على تحذير الصين ، ضمن هذه القمة، من القيام بأي عمل عسكري ضد تايوان، وقال بايدن أنه "يجب ألا يكون هناك تغيير أحادى فى الوضع الحالي بمضيق تايوان" موضحا أنه "هناك تفاهم واضح بين معظم حلفائنا، بأنه فى حال تحركت الصين، بصورة أحادية، فسوف يكون هناك رد على ذلك".

الصين، من جانبها، كانت واعية بالمغزى والمعاني الكامنة وراء هذا كله، خاصة ما ورد فى بيان قمة الدول السبع من اتهام الصين بـ "عسكرة بحر الصين الجنوبي"، وندد متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية فى بيان بـ "إصرار مجموعة السبع على التلاعب فى قضايا على صلة بالصين، وبتشويه سمعة الصين ومهاجمتها" مشيرا إلى أن بكين "تدين بشدة هذا الأمر وتعرب عن استيائها الشديد وعن معارضتها الحازمة، وقد قدمت احتجاجا رسميا لدى اليابان - البلد المضيف للقمة، ولدى الأطراف المعنيين الآخرين".

الصين ترفض الممارسات الأمريكية، التي تقول بوضوح شديد "لا للمساعي الصينية للتحول إلى قوة إقليمية مهيمنة فى شرق وجنوب آسيا" فكيف سيكون فى مقدور الصين امتلاك "مبدأ مونرو صيني" يجبر الأمريكيين وحلفاءهم على الاستسلام له والقبول به. هذا هو التحدي الحقيقي لتصبح الصين قوة عالمية.

الصين من التمرد إلى التصدي للنفوذ الأمريكي

قطعاً ليست هي الصدفة وحدها التي أدت إلى حدوث توافق فى مضامين أهم وثيقتين أمنيتين أمريكية وصينية صدرتا بشكل متزامن، وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الأمريكي" الصادرة عن البيت الأبيض الأمريكي فى أكتوبر الماضي ووثيقة "التقرير النهائي" الصادر عن أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني "فى ذات الوقت تقريباً" حيث اهتمت الوثيقتان، بشكل مثير، بضرورة إنشاء ودعم المنظمات المهتمة بالأمن الإقليمي. الجديد فى الأمر ليس اهتمام الأمريكيين بتكثيف وتوسيع وجودهم العسكري القومي فى التنظيمات الإقليمية ونظم الأمن الإقليمية المختلفة فى أنحاء العالم، ومن بينها بالطبع إقليم آسيا المحيط الهادي، لكن الجديد هو ذلك الظهور الصيني القوى فى الشئون الأمنية – العسكرية بالإقليم على نحو أضحى يثير مخاوف الأمريكيين وحلفاءهم فى هذا الإقليم، لأن الأميركيين، وهم يصرون على فرض أنفسهم قوة عالمية مسيطرة أحادية، كانوا حريصين على فرض أنفسهم أيضاً قوة إقليمية مهيمنة أو على الأقل، قوة مناوئة فى كل نظام أمن إقليمي وخاصة إقليم آسيا المحيط الهادي أو فى إطار أوسع إقليم المحيطين الهندي والهادي. بما يعنيه ذلك من منع أي قوة إقليمية على الظهور كقوة قادرة على منافسة الوجود والنفوذ الأمريكي.

المراقبون الذين أثارتهم النصوص، المتضمنة فى التقرير النهائي لأعمال المؤتمر العشرين الأخير للحزب الشيوعي الصيني، ذات العلاقة بالقضايا الأمنية والعسكرية التي وردت بشكل مكثف وغير مسبوق، حيث تكررت كلمة "الأمن" 91 مرة، وكلمة "عسكري" 21 مرة، وكلمة "النضال" 22 مرة هؤلاء صدموا بمضامين الوثيقة البريطانية التي تم الكشف عنها مؤخراً، وعلى الأخص معرفة أن "التمرد الصيني" على النفوذ الأمريكي، وحرص الصين على فرض نفسها قوة مناوئة للنفوذ والوجود العسكري الأمريكي فى إقليم آسيا- المحيط الهادي لم يكن وليد الوقت الحاضر ولكنه يعود إلى 22 عاما مضت وبالتحديد فى الأول من إبريل 2001 فيما عرف بـ "حادث جزيرة هانيان" التي صعدت المواجهة بين واشنطن وبكين إلى مستوى "الأزمة".

وقعت هذه الحادثة عندما تصدت طائرتان مقاتلتان صينيتان لطائرة استطلاع استخباراتية تابعة للبحرية الأمريكية كانت تحلق فى المنطقة الاقتصادية الصينية فى بحر الصين الجنوبي، حيث قتل طيار صيني واحتجزت الصين طاقم الطائرة الأمريكية وحطامها، ورفضت الصين وقتها وساطة رئيس الوزراء البريطاني تونى بلير بطلب من الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للإفراج عن الطاقم دون اعتذار أمريكي علني ومسبق. وبالفعل حصلت الصين على ما أرادت حيث اعترف بوش، وفقا لتلك الوثيقة أن "الولايات المتحدة قالت مرتين أنها آسفة للغاية".

كان هذا منذ أكثر من عشرين عاما، حيث كانت بوادر التمرد الصيني فيها متصاعدة، فى مواجهة الهيمنة والسيطرة الإقليمية الأمريكية على إقليم آسيا- الهادي الذي تعتبره الصين مجالها الإقليمي، الآن نستطيع القول أن الصين تجاوزت مرحلة إعلان التمرد على القوة الأمريكية إلى مرحلة أرقى هي التصدي القوى لها، ضمن مسار يقول أن الصين تسعى إلى إخراج الولايات المتحدة من إقليم المحيطين الهادي والهندي، وأنها حريصة على أن تكون هي "القوة الإقليمية المهيمنة" أو القوة الفاعلة فى نظام أمن إقليمي ضمن أطراف أخرى ليس من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتحديد أطراف تنتمى إلى الإقليم.

مرحلة التصدى الصيني للنفوذ الأمريكي أخذت أشكالا متعددة، منها محاولة اختراق حلفاء واشنطن وتنظيماتها الأمنية الإقليمية فى إقليم آسيا- الهادي والسباق مع الولايات المتحدة فى التأسيس لقواعد عسكرية بالمنطقة، والتحرش بالنفوذ الأمريكي عسكريا، ومهاجمة أي تطاول أمريكي على الصين فى المحافل الإقليمية- الدولية.

الأشهر الأخيرة الماضية كانت مفعمة بهذه الممارسات الصينية، فما حدث قبل عشرين عاما مع طائرات أمريكية اعتبرتها الصين تجاوزت "الحدود المسموحة" تكرر فى الأسبوع الماضي وبالتحديد يوم الثلاثاء الفائت (30/5/2023). فحسب بيان أمريكي صدر بهذا الخصوص قامت طائرة صينية بتنفيذ ما اعتبرته واشنطن "مناورة عدوانية" قرب طائرة عسكرية أمريكية فوق بحر الصين الجنوبى فى المجال الجوى الدولى مما جعل الطائرة الأمريكية تهتز فى أثناء التحليق بسبب الاضطرابات الجوية الناتجة عن تخلخل الهواء، فى ذات الوقت حذر وزير الدفاع الصيني "لى شانغفو" السبت (3/6/2023) من إقامة تحالفات عسكرية "شبيهة بحلف شمال الأطلسي فى منطقة آسيا والمحيط الهادي".

هذا التحذير جاء على لسان الوزير الصيني فى كلمته أمام القمة الدفاعية الآسيوية المنعقدة فى سنغافورة وتحمل اسم "حوار شانغرى- لا"، واعتبر الوزير الصيني أن سياسة تأسيس تحالفات عسكرية أمريكية فى منطقة المحيطين الهادي والهندي "وسيلة لاختطاف دول المنطقة وتضخيم الصراعات والمواجهات الأمر الذي لن يؤدى سوى إلى إغراق منطقة آسيا والمحيط الهادي فى زوبعة من الصراعات والنزاعات هذا التحذير ربما يكون قد جاء ردا على المسعى الأمريكي لإعداد خطط مشتركة مع حليفتيها اليابان وكوريا الجنوبية لإطلاق نظام سوف يسمح بتبادل لحظي للمعلومات فى الوقت الحقيقي بشأن الصواريخ الكورية الشمالية. هذا البيان صدر عن وزراء دفاع الدول الثلاث على هامش قمة الأمن الآسيوية السبت الماضي "شانغرى- لا" التي عقدت فى سنغافورة التي شارك فيها وزير الدفاع الصيني، والتي رفض خلالها وزير الدفاع الصيني لقاء وزير الدفاع الأمريكي خلال تلك القمة الأمنية الآسيوية.

لم تكتف الصين بالتصدي للنفوذ الأمريكي فى منطقة آسيا الهادي لكنها سعت وباهتمام إلى تأسيس نفوذ عسكري – أمنى صيني فى هذه المنطقة، حيث وقعت فى العام الماضي اتفاقا أمنيا مع دولة "جزر سليمان" الواقعة فى المحيط الهادي بالقرب من دولة "بابوا غينيا الجديدة" محط اهتمام النفوذ الأمريكي. هذه الخطوة الصينية أثارت القلق فى كل أنحاء المحيط الهادي وخاصة الولايات المتحدة التي اتجهت هذا العام إلى دولة بابوا غينيا الجديدة ووقعت اتفاقا أمنيا معها عبر وزير خارجيتها انتونى بلينكن الذي اعتبر هذا الاتفاق مع بابوا غينيا الجديدة "محاولة لتشكيل المستقبل" الملفت فى سياسة التصدي الصينية للنفوذ الأمريكي أنها تجاوزت الحدود الإقليمية ووصلت إلى أرض الولايات المتحدة الأمريكية. ففي فبراير الماضي حركت الصين منطادا حلق فوق عدد من الولايات الأمريكية اعتبرته واشنطن "منطادا للتجسس" وأسقطته، ومنذ أقل من أسبوعين اتهمت الولايات المتحدة الصين برعاية قراصنة يستهدفون المنشآت الحيوية أمريكيا وعالميا حيث كشفت وكالات استخبارات غربية وشركة "مايكرو سوفت" الأمريكية أن قراصنة صينيين ترعاهم الدولة يتجسسون على البنية التحتية للولايات المتحدة وينشطون لوضع الأساس التقني لتعطيل محتمل للاتصالات الحساسة بين الولايات المتحدة وآسيا خلال الأزمات المستقبلية.

مثل هذه المناوشات والصدامات تقول إن الصين لم تعد تكتفى بمناهضة النفوذ الأمريكي فى إقليمها، ولكنها تسعى إلى نقل المواجهة مع واشنطن خارج الإقليم عبر أدوات وسياسات صينية تهدف إلى إشهار الصين قوة عالمية شريكة فى قيادة النظام العالمي.

المصدر:

جريدة الأهرام: 23/5/2023، 30/5/2023، 6/6/2023

اللواء الدكتور شوقي صلاح: بوتن يترك الجودو ويلَعِبَ الـ “شطرنج” في حل أزمة فاغنر.

"يفغيني بريغوجين" يفتقد للانضباط العسكري.

صرح ميدفيدف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي أن: "ما تفعله فاغنر يؤكد أنه مخطط انقلابي". بالفعل هو تمرد مسلح لقوات شبه عسكرية، قائدها يفتقد للمهنية ويشعر بخطر داهم على شخصه وعناصر تنظيمه من بطش المؤسسة العسكرية الروسية، خاصة بعد مجاهرته بالعداء لقياداتها.. فهو أي "يفغيني بريغوجين" لم يكن يوماً ابناً للمؤسسة العسكرية الروسية.

لذا فهو رغم نجاحاته في المواجهات العسكرية للقوات الأوكرانية، إلا أنه يفتقد للانضباط العسكري، ولا يتمتع بحس وطني مما لدى القادة والجنود بالمؤسسة العسكرية الروسية.. كما أن الآلاف من عناصر فاغنر لهم سوابق جنائية وخرجوا من السجون، وتم تأهيلهم قتالياً على وجه السرعة ثم دفعهم لجبهات القتال، ورغم ما حققوه من إنجازات عسكرية في الحرب.. إلا أن مسايرة بعضهم لقائدهم في تمرده قد أفقدهم الكثير مما حققوه من انتصارات في أرض المعركة، ولعلهم قد تداركوا الأمر حيث تراجع "بريغوجين" في التوقيت المناسب وأمر جنوده وهم في طريقهم لموسكو بالعودة لمعسكراتهم، ولعل الفضل في هذا التراجع إنما يرجع لتدخل رئيس بيلا روسيا، الرئيس "لوكاشينكو". حيث وعد "بريغوجين" بالإقامة الآمنة في بيلا روسيا، وبضمان شخصي من بوتن. كما وعد باستضافة عناصر فاغنر، وصرح أنه سيستفيد كثيراً من خبراتهم العسكرية في القتال. مع السماح -لمن يرغب منهم- في الاندماج الآمن بصفوف الجيش الروسي، ثم تَحِل قوات الدعم العسكري الشيشانية محل قوات فاغنر جزئياً -لقلة عددهم مقارنة بقوات فاغنر- في ميادين المواجهة ضد القوات الأوكرانية، وسيتم هذا بتنسيق عسكري كامل مع الجيش الروسي.

* دور بطولي للشعب الروسي بتوظيف "قوته الناعمة" في هذه الأزمة.

- إنه لجدير بالذكر أن أهم عوامل احتواء أزمة فاغنر هو الشعب الروسي العظيم.. فوقوفه خلف قيادته السياسية وجيشه الوطني كان بمثابة رسالة واضحة لـ "بريغوجين" ورفاقه، وننوه هنا للموقف العبقري للشعب الروسي في تعامله مع عناصر فاغنر حيث التحم بهم في "روستوف" جنوب روسيا دون أي وَجَل. حيث وقفت جموع الشعب الروسي بجوار وبين دبابات فاغنر ومدرعاتها وقواتها المدججة بالسلاح دون أي خوف، والتقط الجمهور الصور بهواتفهم المحمولة مع جنود فاغنر. والرسالة التي وصلت الجنود وقادتهم هي "لا مكان ولا وقت للغدر- الشعب يثق بكم" فكان لسان حالهم يقول: الأمة الروسية في خطر ويجب أن تتوحد. إنه الوعي الوطني لشعب عظيم، أرسل رسالته بشكل تلقائي لمن أساءوا التصرف، مقدر لهم بطولاتهم التي قاموا بها في المعارك.. لذا فقد أكدت هذه المحنة بما لا يدع مجالا لشك أن روسيا لن تنهزم طالما توحد شعبها والتف حول قيادته الوطنية.

* بوتن نجح بحكمته وحسمه في تجنب الحرب الأهلية.

- خرج بوتين من أزمة فاغنر أقوى -حتى الآن- وأقنع شعبه والعالم كله أنه قائد محترف يتسم أداؤه بالحكمة والحسم معاً، فقد حيًد رأس الأفعى وكسر سميتها، فبدأ تنفيذ خطة تفكيك حركة فاغنر بشكل آمن، مسيطرا على غالبية عناصرها، وسيسترد الأسلحة التي مازالت بحوزتهم، وهي ذات قيمة عالية، خاصة في ظل استمرار مواجهة روسيا لهجمات أوكرانيا الخطيرة.. فقرار تفكيك فاغنر تم التخطيط له بعناية، ومن السذاجة والسطحية أن ذهب إلى أن فاغنر تستطيع دخول موسكو بدباباتها ومدرعاتها لتنفيذ مخطط انقلابي. والرد على من يتساءل لماذا لم يسحق بوتين قوات فاغنر التي احتلت المواقع العسكرية الروسية في "روستوف" ثم تحركت في طريقها لموسكو؟ فقد حرص بوتين على تجنب مخاطر الحرب الأهلية، فهذا هو السبب الرئيسي لقراره بقبول تدخل رئيس بيلا روسيا في دعم حلول من شأنها تجنب الاقتتال الداخلي.. هذا، ومن المؤكد أن كل ما فعله "بريغوجين" قائد فاغنر من خيانة تجاه المؤسسة العسكرية الروسية، ثم ضد بوتين، قد كشف للمخابرات الروسية خلال الأزمة العناصر التي تورطت بالوقوف بجانب قائد فاغنر، ومن أهم ما يمكن أن نلفت النظر إليه، أهمية تأمين وقوع أي مخطط لخطف الناتو لقائد فاغنر السابق أو هربه إليهم، فمن المؤكد أنه يحمل أسراراً خطيرة على الأمن القومي الروسي.

* تقييم تراجع بوتين عن إسقاط الدعاوى الجنائية ضد "بريغوجين"

- تضمنت كلمة بوتين الأخيرة للشعب الروسي قوله "الشعور الوطني هو الذي أنقذ الدولة الروسية، فجنود فاغنر الذين تراجعوا، لا ننسى أنهم قد قاموا بأعمال بطولية في الدفاع عن إقليم "الدونباس"، وأن منظمي هذا التمرد "سيمثلون أمام العدالة"، وأشار إلى أن المؤامرة امتدت لها أياد دعم خارجية، هدفها إدخال روسيا في أتون حرب أهلية. وبهذا فقد تعلمت روسيا الحاضر من دروس التاريخ الكثير بما يكفي لدرء "خطر الاقتتال الداخلي" الذي يؤثر سلباً على جهود المؤسسة العسكرية في حربها الحالية أمام الناتو على المسرح الأوكراني.

لنتوقف هنا باستقراء مستقبل عناصر "فاغنر"؛ فغالباً سيتم تفكيك التنظيم، فجانب منهم سيتعاقد مع الجيش الروسي ويتم توظيفهم في مواقع غير قتالية، بجانب اسقاط أي محاسبة قضائية عن جرائم التمرد المسلح، ورغم أننا رصدنا تحولا في كلمة بوتين بخطابه الأخير، حيث أشار إلى المحاسبة القضائية، وربما يكون مبرر هذا هو التدخلات الخارجية في المؤامرة، ولعلي أجد تفسيرًا لجنوح "بريغوجين" وتحركه عسكرياً تجاه موسكو، فغالباً وصل لعلم الرجل أن القيادة الروسية ترتب لتفكيك فاغنر ومحاسبة قائدها عن إساءاته المتكررة لقيادات المؤسسة العسكرية واتهامه لهم بالخيانة، ثم تحركه المسلح ضد المؤسسة العسكرية الروسية ومقراتها ومتوجها بقواته إلى موسكو، حيث أطلق على تحركه هذا "مسيرة العدالة" ولعله بهذا يطبق قاعدة: "إذا لم يكن من الموت بد.. فليتجرع قاتلك من الكأس معك" وجاء الرد الروسي بحكمة، حيث طوق الخطر دون دماء، فبدأ تنفيذ مخطط تفكيك اللغم - أقصد باللغم هنا فاغنر بالطبع - بشكل احترافي آمن، أي دون إراقة دماء.

هذا وعلى المستوى القانوني؛ فهل يجوز التراجع في قرار إسقاط الرئيس بوتين للتهم الجنائية عن بريغوجين؟ الإجابة "نعم" طالما بدت أسباباً جديدة ربما يكون أهمها: ظهور أدلة جديدة على تورط رئيس فاغنر في جريمة تخابر مع العدو، بهدف شق الصف وإحداث حالة من الانقسام في أخطر مراحل الصراع ضد الناتو حساسية، ورغم هذا فإننا ننصح من منظور سياسي، بأن يفي بوتين بوعده بعدم تحريك أي دعاوى جنائية تجاه قائد فاغنر أو جنوده، مكتفياً بالتفكيك الآمن للتنظيم.

أستاذ القانون بأكاديمية الشرطة

رئيس قسم الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات وخبير مكافحة الإرهاب