اللواء الدكتور شوقي صلاح: رؤية تحليلية لأحداث شغب فرنسا “يونيو 2023” (الحلقة الثالثة)
موجز بشأن المقالين السابقين:
– تناولنا في المقال التحليلي الأول واقعة قتل الشاب “نائل” خاصة من زاوية قانونية، مؤكدين على أنها تمثل جريمة قتل عمد، وأن الشرطة الفرنسية تحاول في مثل هذه الأحداث أن تحتويها بدعوى تنفيذها للقانون وفقاً لأحدث تعديلاته.. إلا أن الجرم الأخير انتشر بفضل تداول أحداثه من خلال تسجيل مرئي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وأظهر التسجيل أن الشرطي ارتكب جرم القتل بدم بارد، لشاب غير مسلح، ومن أصول أفريقية.
– كما حاولنا في المقال الثاني الإجابة على سؤال جوهري: لماذا تحولت الاحتجاجات لأعمال عنف وإحراق وسلب ونهب واسعة النطاق؟؟؟ وتناولنا في وقفة تحليلية تصريحات كبار المسئولين في الدولة الفرنسية، كما عرضنا بشكل موضوعي الجوانب السلبية والإيجابية لأداء الشرطة الفرنسية.
– سنحاول الإجابة في مقالنا هذا على سؤال نراه جوهري بامتياز؛ ألا وهو: هل كانت هناك خيارات أفضل للقيادة السياسية الفرنسية للتعامل مع الأزمة منذ بدايتها؟
ماكرون والخيارات المتاحة لمواجهة الأزمة:
– لقد صاحبت بداية الأزمة (وقع القتل يوم الثلاثاء، الساعة الثامنة صباحا تقريباً، في 27 يونيو، بمدينة نانتير الفرنسية) وبالطبع أُخطر على الفور ماكرون بتفاصيله، ورغم هذا، حضر في اليوم التالي مباشرة، أي مساء الأربعاء، رغم بدء أعمال الاحتجاجات، حفلاً غنائياً للمغني “إلتون جون” ورقص هو وزوجته على أنغام موسيقى الحفل، وكأن شيئاً لم يكن، مما يؤكد أن الرئيس وكبار مستشاريه يفتقدون للحس الأمني والسياسي معاً.. وبعد انتشار أعمال التخريب المتعمدة على نطاق واسع، فقد رأس ماكرون اجتماع خلية أزمة يوم الجمعة الموافق 30 يونيو، وكان من باب أولى أن تنعقد خلية الأزمة هذه وقت الحفل الموسيقي، فسرعة التدخل في مثل هذه الأزمات، واتخاذ القرارات المناسبة، على المستوى الأمني والإعلامي والقانوني والإنساني.. عوامل حاسمة في التخفيف من الأضرار المتوقع حدوثها.
هل إعلان ماكرون لحالة الطوارئ واستدعاء الجيش كان الخيار الأفضل؟؟؟
* بداية، ماهي السلطات التي تُـمنح لأجهزة الإدارة بعد إعلان حالة الطوارئ؟
– قنن المشرع الفرنسي حالة الطوارئ في فرنسا بموجب قانون صدر في 3 أبريل 1955 وتم تعديله عدة مرات؛ لا سيما بموجب الأمر الصادر في 15 أبريل 1960 وقانون 20 نوفمبر 2015، حيث يمكن بقرار من مجلس الوزراء أن تعلن حالة الطوارئ في كل أو جزء من إقليم الدولة، وذلك لمواجهة أخطار وشيكة الحدوث، أو انتهاكات خطيرة للنظام العام، أو في حالات الكوارث العامة (كارثة طبيعية ذات حجم استثنائي).
– وتعلن حالة الطوارئ في فرنسا لمدة أولية قدرها اثنى عشر يومًا، ويمكن تمديدها بالتصويت بالموافقة يصدر من البرلمان. وهذا النظام الاستثنائي يعزز سلطات الدولة؛ حيث يمكن فرض بعض القيود على الحريات العامة أو الفردية، ويخوِّل وزير الداخلية وقيادات إدارية أخرى، السلطات الآتية:
* حظر التظاهرات والمواكب والمسيرات والتجمعات على الطرق العامة؛
*إنشاء محيط حماية لضمان أمن مكان أو حدث؛
*حظر بعض الاجتماعات العامة أو إغلاق الأماكن العامة ودور العبادة؛
* حجب المواقع التي تدعو أو تمجد الأعمال الإرهابية؛
* حظر الإقامة في أماكن معينة أو فرض الإقامة الجبري في أماكن بعينها.
ربما لم يُعلن ماكرون حالة الطوارئ لتخوفه _وخلية الأزمة التي رأسها_ من التداعيات الاقتصادية التي تترتب على إعلانها، فمؤكد أن السياحة في فرنسا ستتأثر كثيرا بهذا الإعلان. ونرى من جانبنا أن متطلبات حماية الأمن الداخلي وإنهاء هذه الاضطرابات يفترض أن تكون له الأولوية لدى متخذ القرار السياسي، وليُنهي حالة الطوارئ، إن استقرت الحالة الأمنية، وبهذا تنحسر الخسائر في أدنى مستوياتها. ورغم انتشار أعمال التخريب على نطاق واسع، إلا أن ماكرون ومسئوليه اكتفوا فقط بإصدار قرارات لحظر التجوال في بعض المدن، بجانب تعزيز قوات الأمن في مختلف مدن فرنسا، وذلك بما يقرب من 45 ألفاً من عناصر الشرطة، خاصة في المدن الأشد تأثراً بالأحداث.
خطورة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على تأجيج أعمال العنف
– أشار ماكرون في خطابه للجمهور الفرنسي بأنه أمر بالتحقيق في أعمال التحريض التي ارتكبت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي. ولنتوقف هنا أمام الدور الخطير لهذه المواقع في تأجيج أعمال العنف، ولا نبالغ بالقول بأن هذه المواقع تساهم أيضاً في ارتكاب أعمال السلب والنهب، وغني عن البيان أنه يمكن توظيفها أيضا للقيام بدور إيجابي في هذا الأحداث.
– وهدياً على ما سبق طرحه من تقييم لجدوى السلطات التي تُمنح لجهات الإدارة في ظل إعلان حالة الطوارئ، نرى أن أهم سلطة تؤثر إيجاباً أم سلباً في السيطرة على مثل تلك الأحداث؛ هو ما يتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي، ونقترح على المشرع الفرنسي أن يُعدل قانون الطوارئ المشار إليه، بما يسمح لسلطات الدولة أثناء إعلان هذه الحالة بحجب أو تقييد هذه المواقع بشكل مؤقت، وذلك في حالات اندلاع أعمال شغب واسعة النطاق، على أن يكون الحجب لمدة زمنية لا تتجاوز الأسبوع، وتجدد لمرة واحدة فقط حال استمرار أعمال الشغب والتخريب والجرائم الخطيرة المصاحبة لهما.
– جدير بالذكر هنا، أن النقابة التي تمثل العاملين بأجهزة الشرطة الفرنسية طالبت السلطات بضرورة إعلان حالة الطوارئ، واستدعاء الجيش للقيام بتأمين المدن خاصة الأهداف الحيوية، حتى تستطيع الشرطة السيطرة على الموقف وتأمين باقي الأهداف. ونؤيد دعوة النقابة فيما ذهبت إليه، حيث كان من الأولى أن يُعلن ماكرون حالة الطوارئ يوم الجمعة الموافق 30 يونيو 2023، أي بعد يومين من بدء أعمال التخريب والسلب والنهب، لتبدأ مهام الجيش في الساعات الأولى من صباح السبت مباشرة. واعتقد أنه في ظل هذين الإجراءين، فإن أعمال التخريب والجرائم الخطيرة التي ارتكبت، كانت سترتكب ولكن على نطاق محدود جداً.
– ولعلنا نتذكر معاً أن حالة الطوارئ تم فرضها بفرنسا في أعقاب الهجمات الإرهابية التي وقعت في 2015، وفي 2020، حيث تم إعلان حالة الطوارئ الصحية للتعامل مع وباء (Covid-19)، لنتساءل بشكل مقارن في هذا المقام: هل أحداث شغب يونيو 2023 أقل خطورة من الظروف المحيطة بهاذين الموقفين المشار إليهما؟.
– في ختام هذا المقال أقول: شكراً لكل من اهتم بمتابعة المقالات الثلاث التي قدمتها حتى تاريخ كتابة هذه السطور، في شأن طرح رؤية تحليلية لأزمة أحداث شغب فرنسا، وبإذن الله سنستأنف تسليط الضوء على ملفات أخرى مرتبطة بالموضوع المشار إليه.
** أستاذ القانون وعضو هيئة التدريس بكلية الشرطة
رئيس برنامج الدراسات الأمنية بمركز الفارابي للدراسات
وخبير مكافحة الإرهاب