الشهر: نوفمبر 2023

أما بعد حلمي النمنم

كل حروبنا مع إسرائيل، بغض النظر عن نتيجتها العسكرية، كانت تنتهى إلى حروب أهلية داخلية، عربية-عربية حينًا وحروب داخل كل بلد أو قطر، ليست بالضرورة حروبًا عسكرية، ولكن سياسية وثقافية في المقام الأول، وأظن أن تلك هي النكبة الحقيقية.وارد أن يُهزم أي جيش في معركة ما، الجيش الأمريكى هُزم في فيتنام، الجيش السوفيتى هُزم في أفغانستان، واضطر إلى الانسحاب تلقائيًّا، دونما اتفاق أو تفاوض مع الطرف الآخر.الهزيمة في حرب ١٩٤٨ كانت شبه يقينية لدى فريق من المطلعين على الأمور جيدا، لذا رفضوا دخولها في البداية، مثل النقراشى وإسماعيل صدقى باشا، بل حتى قيادات الوفد، كانت الزعامات المصرية على دراية كاملة بالقضية الفلسطينية منذ أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وكانوا على تواصل بالقيادات الفلسطينية سواء جناح الحاج أمين الحسينى أو الجناح المناوئ له، جناح «النشاشيبى».محمد فراج طايع، أول وزير خارجية في عهد اللواء محمد نجيب، نشر مذكراته في مطلع الستينيات وفيها هجوم شديد على الحكام العرب سنة ٤٨، الذين تجاهلوا رأى دبلوماسييهم في القدس بخطورة الوضع في فلسطين والتحذير من دخول الحرب، كان الوزير «طايع» أحد هؤلاء، حيث كان بالقنصلية المصرية في القدس وقتها، كان لديها نفس تقدير الموقف حربيًّا.إسرائيل كانت قائمة بالفعل وعلى الأرض قبل الحرب، وحتى قبل صدور قرار التقسيم بسنوات بعيدة، «تل أبيب» العاصمة بُنيت منذ سنة ١٩٠٩، لديهم جيش قوى، مدرب ومسلح، عندهم جهاز مخابرات نشط منذ نهاية العشرينيات، لديهم إذاعة وصحف، فضلًا عن سائر مؤسسات الدولة، كان ينقصها فقط الإشهار ورفع العَلَم والحصول على الاعتراف الأممى.لكن ما إن انتهت الحرب، حتى نسى الجميع «الكيان الصهيونى»، وتجاهلوا «إسرائيل المزعومة»، أكثر من ذلك تجاهلوا مستقبل فلسطين ومصير شعبها، وتفرغوا لحروب أهلية، افتتحها الراحل إحسان عبدالقدوس بحملته الشهيرة حول ما سماه «الأسلحة الفاسدة»، وهلّل الجميع للحملة نكاية في الملك فاروق، الذي صار أشبه بلوحة التنشين في ساحة التدريب على إطلاق الرصاص، ليس داخل مصر فقط.كتاب الصحفى الإسرائيلى رون بيرجمان «اقتل أولًا»، صدر سنة ٢٠١٨، الكتاب عن التاريخ الدموى لجهاز الموساد، حتى قبل قيام الدولة، وأنه جهاز يفضل القتل، حتى لو لم تكن هناك ضرورة لذلك، ورد فيه أن «بن جوريون» تصور مشكلة إسرائيل في الحكام العرب الذين دخلوا الحرب مع إسرائيل، لذا قرر قتلهم جميعًا، حتى مَن كان لا يمانع في الصلح والسلام مع إسرائيل، مثل الزعيم اللبنانى رياض الصلح، على هذا الأساس وصلت خلية من الموساد إلى القاهرة بهدف واحد، هو اغتيال مَن أعلن الحرب على إسرائيل الملك فاروق، ولما أطاح به محمد نجيب، وغادر مصر يوم ٢٦ يوليو ٥٢، تم تعديل الخطة، اكتشف بن جوريون أن الحكام الجدد أكثر رفضًا له من النظام الملكى، كُلفت مجموعة الموساد بالعمل في الداخل، والاستعانة باليهود المحليين، وقامت الخلية بتنفيذ العملية «سوزانا»، التي عُرفت إعلاميًّا باسم «فضيحة لافون»، حيث تم الكشف عنها، وأُلقى القبض عليهم جميعًا.لم يقتصر الأمر على الملك فاروق، جرى تبادل الاتهامات والطعن في الوطنية إلى النخب الثقافية، اتهم لطفى السيد وطه حسين، مازالت الاتهامات قائمة إلى اليوم، لفقت الصحافة العربية اتهامات للفنانة ليلى مراد بالتبرع ماليًّا لدولة إسرائيل، ثم انتقل الاتهام ونُشر في بعض الصحف المصرية التي برعت في إضافة البهارات إليه، ولما اتسعت مساحة الاتهامات قامت القوات المسلحة بالتحقيق في كل ما قيل، وتبينت براءة ليلى مراد وعُرفت الحقيقة، لكن بعد انكسار روح الفنانة المصرية العظيمة.خارج مصر، جرى اتهام ملك الأردن، عبدالله الأول، وتم اغتياله عند باب المسجد الأقصى يوم ٢٠ يوليو ١٩٥١، وتحققت أمنية بن جوريون، ولأن طاحونة التخوين والاتهامات لم تتوقف، جرى اتهام الفلسطينيين بأنهم هم مَن باعوا الأرض والوطن لليهود، لم يتردد بعض الحمقى في اتهام شعب بأكمله بالخيانة، ورد فريق من الفلسطينيين بأن فلسطين ضاعت بسبب خيانة العرب، خاصة الحكام، وأنهم كانوا قادرين من البداية على إنهاء الوجود الإسرائيلى على أرضهم، لكن «الحكام العرب» كانوا يتدخلون لمنعهم، سرديات كاملة من التخوين وأبشع الاتهامات نحو الجميع وفى كل الاتجاهات، لا تزال أصداؤها بيننا إلى اليوم.وهكذا حروب أهلية على كافة المستويات، دون الالتفات إلى الضفة الأخرى من النهر. وزعم كل فريق أنه كان بصدد القضاء على الكيان لولا أن خصومه السياسيين منعوه، وكانوا في ذلك بين مُدَّعٍ أو كاذب أو مُغَيَّب عن الحقيقة.تم التحقيق في قضية الأسلحة الفاسدة زمن الملك، ثم زمن محمد نجيب، وثبت في المرتين زيفها، لكن أحدًا لم يجرؤ على أن يرفع صوته خشية أن يُتهم بالدفاع عن «الملك الخائن» أو أن يقر بقوة «الكيان الصهيونى»، وهكذا الحال في سائر الأقوال- الاتهامات والأحكام- الأخرى.حين كان «على صبرى»، وزير دولة برئاسة الجمهورية بعث خطابًا إلى إحسان عبدالقدوس يلفت انتباهه بلطف إلى أن مسألة الأسلحة الفاسدة ليست صحيحة، فغضب إحسان بشدة من الخطاب وصاحبه.حدث بعد حرب ٤٨ تكرر مع كل حرب من «العدوان الثلاثى» سنة ٥٦ إلى حرب أكتوبر، لا فارق بين هزيمة أو نصر. انتصرنا في ٥٦ وفى ٧٣، في حرب الاستنزاف لم نُهزم ولم نحقق نصرًا كبيرًا، أثبت الجيش المصرى أنه لم ينتهِ مع هزيمة ٦٧، بل أُعيد بناؤه، وصار قادرًا على المواجهة وندًّا قويًّا، في حرب أكتوبر كان نصرنا كبيرًا وعظيمًا.بعض محاضر اجتماعات الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة يونيو ٦٧، ثم أثناء حرب الاستنزاف العظيمة، تكشف معاناة الرجل من تلك الحالة عربيًّا وداخل مصر.في أكتوبر ٧٣، حققت القوات المسلحة المصرية إنجازًا ضخمًا يوم السادس من أكتوبر، لكن الحروب الأهلية نشبت أثناء الحرب وبعدها، حتى إن كاتبًا كبيرًا أصدر كتابًا اعتبر الحرب مسرحية مدبرة بين السادات وجولدا مائير برعاية هنرى كيسنجر.في كل مرة تطغى الخلافات السياسية والأيديولوجية، تسود الصراعات والإحَن أو الأحقاد الخاصة، وربما بعض المطامح والتطلعات الشخصية الصغيرة، فضلًا عن الولع بالمكايدات الشخصية والسياسية.ومنذ حرب السابع من أكتوبر الماضى، ونحن نتابع شرر الحروب الأهلية العربية، الحرب لا تزال قائمة، وفيما يبدو أنها لن تتوقف قريبًا، وقد تصبح حرب استنزاف، يوم اندلاعها أثار إعلام مكايدة الدولة المصرية مسألة أن مصر كانت على علم مسبق بالعملية، وأنها نبهت إسرائيل وأحاطت حكومتها علمًا، وهذا يعنى- بين السطور- اتهام الدولة بالتعاون والتنسيق التام مع إسرائيل ضد الفلسطينيين، على مستوى الشارع المصرى والعربى هو اتهام بالخيانة، لكن هذا الاتهام يعنى عمليًّا اتهام الحكومة الإسرائيلية أمام شعبها بالتقصير والخيانة، لذا رد بنيامين نتنياهو في بيان حمل تكذيبًا حادًّا وقاطعًا، الغريب أن مَن روجوا تلك الأكذوبة خرسوا تمامًا أمام تكذيب نتنياهو، وهم عادة لا يأبهون بأى تكذيب. ثم هبّت علينا ميليشيات افتحوا الحدود أمام إخوتنا، ونجحت الدبلوماسية المصرية في إثبات «صهيونية» هذا المطلب أو الطرح.ورغم أن الدماء لا تزال تتدفق في غزة والضفة أيضًا، ورغم أن أداء الدولة المصرية في مستوى رفيع من الوطنية وحماية الحق المصرى وكذا الحق الفلسطينى، فإن أبواق المزايدة والكيد الرخيص لم تتوقف، ليس على المستوى المصرى فقط، لكنها ممتدة في كل ناحية. ألسنة الحروب الأهلية تبدو في كل بقعة حولنا وبيننا.يومًا ما، نرجوه قريبًا، ستتراجع المذابح، فهل نتفرغ وننساق إلى الحروب الأهلية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وفنيًّا واقتصاديًّا، ونتجاهل الطرف الآخر كما في كل مرة أم نتجه إلى المستقبل لاستكمال المشروع الوطنى المصرى والحفاظ عليه؟.لقد أكدت الأحداث الأخيرة أن المشروع الوطنى ليس حذلقة سياسية ولا وجاهة فكرية، كما يتراءى للبعض، بل هو ضرورة وجودية، كما أنها وجوبية.ومن ضرورات المشروع الوطنى المصرى العمل على إقامة دولة فلسطينية، مستقلة، معترف بها أمميًّا، تتجمد بقيامها بحيرات الدم، وتزول الروح العنصرية المقيتة، وتتراجع دوافع الإرهاب، أيًّا كان مصدره ومَن يرتكبه وأيًّا كان اسمه وشكله أو اللافتة التي يختبئ خلفها.

بحيرات الدم حلمي النمنم

مَن لديه إحاطة، ولو محدودة، بالثقافة والفكر الغربى يدرك بعض الملامح الأساسية فى ذلك الفكر، بعضها إيجابى وبَنّاء، نعرفه وندرسه، منذ رحلة أو بعثة رفاعة رافع الطهطاوى الشهيرة إلى فرنسا فى زمن محمد على.وفيها كذلك ما هو سلبى ومدمر، من ذلك كراهية عميقة لليهود، اليهود كأفراد ومجموعات بشرية وليس الديانة اليهودية، راجع- مثلًا- شخصية «شيلوك»، المُرابى المجرم فى مسرحية وليم شكسبير «تاجر البندقية». فى عديد من الأعمال الأدبية والفكرية الأوروبية من السهل أن تجد إشارات ازدراء لليهود، ليس من باب التفكه والتندر، بل من باب الكراهية البغيضة والعنصرية المباشرة.فيما بعد، ومع نهاية القرن التاسع عشر، سوف يتم تصنيف ذلك كله تحت اسم «العداء للسامية»، خاصةً أن ذلك الازدراء انتقل إلى الشارع، وربما كان موجودًا من قبل، واقعة الجندى الفرنسى/ اليهودى «دريفوس» كانت كاشفة ودليلًا على ذلك العداء، جرَت الواقعة فى فرنسا، ولم تقع فى مصر ولا شرق «المتوسط».إلى جوار هذه الكراهية، هناك كراهية شديدة للإسلام دينًا ونبيًّا وتاريخًا، ليس صحيحًا أن ذلك مرتبط بحالة «الإسلاموفوبيا»، التى تفشت مع جريمة ١١ سبتمبر وشبح أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة (الإرهابى).الجذر الثقافى قديم، لن نتوقف أمام كثير من أعمال المستشرقين، التى تنضح بالكراهية والخلل العلمى والمعرفى الشديد، لكن هناك أعمال أدبية وفنية كاشفة، مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتى، ودون كيخوته للإسبانى سيرفانتس، ومسرحية فولتير الشهيرة عن النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- ولما كان الإسلام الأول عربيًّا، ثقافة وفكرًا وحضارة، لذا تجسد ذلك فى كراهية العرب بالمجمل.أولئك الذين صنعوا ذلك التاريخ، خاصة فى حواضره الكبرى، بلاد الشام ومصر والعراق، حيث الدول الأموية والعباسية ثم الفاطمية وكذا الأيوبية والمملوكية، حقبة الحروب الصليبية تجسد تلك الكراهية. جرى معظمها على أراضى فلسطين ومصر، تاريخيًّا حسم أمر تلك الحملات فى مصر وفلسطين، ما بين المنصورة ودمياط والقدس.ما قام به الغرب من إزاحة سكان الأندلس، وكانوا جميعًا من المسلمين واليهود، يعكس ذلك التوجه الثقافى الدفين.مع العصر الحديث، لم تسقط تلك الكراهية، ولكن جرى التعبير عنها بطرق مختلفة، طريقة أودلف هتلر، الزعيم الألمانى، بالتخلص المباشر من اليهود فى أفران الغاز، خلال الحرب العالمية الثانية، وقد ثار نقاش مطول حول عدد مَن أُحرقوا والمواد التى استُعملت، بالمناسبة طُرح هذا النقاش داخل أوروبا أولًا، ثم انتقل إلينا، وهذا لا يؤثر كثيرًا، إحراق مواطن واحد جريمة كبرى، فما بالنا بمَن يحرق ملايين، أيًّا كان الرقم!.كان هتلر عنصريًّا يكره اليهود ويرغب فى التخلص منهم، ولكن على طريقته النازية، أى الإبادة الجماعية.بقية الغرب أو أعضاء ما يسمى «العالم الحر» لديهم نفس الثقافة تجاه اليهود، ولكن بغير الطريقة النازية، لذا قرروا التخلص منهم بطريقة أخرى، وهى إزاحتهم من أوروبا والولايات المتحدة، بلاد الغرب عمومًا إلى بلاد الشرق، بلاد العرب فى فلسطين تحديدًا، حيث قبر ومجد صلاح الدين الأيوبى، وهنا تكون المحرقة للاثنين معًا، اليهود والعرب، ويتخلص الغرب بذلك من الإحن والعقد الثقافية التى تحكمه. يحدث ذلك باسم الحب لليهود والتعاطف معهم، تم اختزال اليهود فى اتباع وأهداف الحركة الصهيونية.قبل وعد بلفور بسنة- ١٩١٦- صدر وعد ألمانى مشابه من قيصر أو إمبراطور ألمانيا «فيلهم الثانى»، نعرفه نحن باسم «غليوم الثانى»، ولما كانت الهزيمة فى انتظار ألمانيا جرى تجاهل وعده من المنظمة الصهيونية والتمسك بوعد لورد بلفور، وزير الخارجية البريطانى.حين صدر وعد بلفور، ثم بدأ تنفيذه مع الانتداب البريطانى على فلسطين، كان واضحًا للجميع أن الدم ينتظر ذلك الوعد، كانت فلسطين مزدحمة بالأهالى، كانت الكثافة السكانية فى القدس وقتها تفوق الكثافة السكانية فى مدينة نيويورك وفق تقرير علمى موثق، لكنهم زعموا أن فلسطين أرض بلا شعب، كانوا يعرفون ويدفعون الأمور نحو القتل والدم، دماء العرب واليهود، كان ممكنًا، بل واجبًا، بذل الجهود لتلافى ذلك بدفع الأمور نحو التعايش والتفاهم فى فلسطين.وكان ذلك يسيرًا، هناك العديد من الشواهد عليه داخل فلسطين نفسها وبين الفلسطينيين، سواء فى القرن العشرين أو قبل ذلك بقرون، ذلك أن أرض فلسطين تضم تاريخًا روحيًّا عميقًا ومقدسات إسلامية ومسيحية ويهودية، من ثَمَّ هى أرض التعايش والتوادّ والتسامح، لكن مع خفة واستسهال، لنقل استهبال، تصير أرض الدماء الغزيرة، وهذا ما جرى العمل عليه مع الانتداب البريطانى، تمت إثارة النفوس وإسالة المزيد من الدماء.ليتنا نتذكر أن فكرة تقسيم فلسطين فى الأصل مقترح بريطانى أُعلن سنة ١٩٣٦، كان ذلك قبل نشوب الحرب العالمية الثانية وقبل توحش هتلر وقيامه بالمحرقة، كان ذلك الاقتراح أحد أسباب الثورة الفلسطينية الكبرى فى السنة نفسها، وبدلًا من تفهم الوضع، أخفت بريطانيا الاقتراح فى الأدراج انتظارًا لفرصة ثانية، أفكارهم ومشروعاتهم لا تموت، يمكن أن تُرجأ فقط.وليس صحيحًا ما يتردد فى الأدبيات العربية، خاصة فى الأيام الأخيرة، من أن الدم تدفق مع قرار التقسيم فى نوفمبر سنة ١٩٤٧ ثم حرب ١٩٤٨ وإلى يومنا هذا.. الدماء تسيل على أرض فلسطين منذ مائة عام. كانت أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وقد سبقتها بسنوات صدامات وأعمال عنف حول القدس وفى مدينة الخليل، كل تلك الوقائع كانت تنذر بالخطر القادم، لم يكن اللهب تحت الرماد، بل كان قريبًا جدًّا من السطح، بوادر الاشتعال كانت ظاهرة للعيان، لكن دول الغرب، وفى مقدمتها «بريطانيا العظمى»، دفعت نحو المزيد من التفاقم والدماء. فعلت ذلك عن قصد.واليوم، يجب ألا نندهش من موقف الرئيس جو بايدن، منذ يوم السابع من أكتوبر، تصرف باعتباره طرفًا رئيسًا فى القتال وليس صانعًا ولا راغبًا فى السلام، قدم السلاح والذخيرة إلى إسرائيل، أرسل حاملة الطائرات جيرالد فورد، ثم غواصة نووية إلى ساحل «المتوسط» قبالة فلسطين، أعلن أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، هدد الدول المجاورة من محاولة التدخل فى القتال، يحاول الضغط على الدولة المصرية للقبول بتفريغ غزة من سكانها، ثم فوجئنا بوجود قاعدة عسكرية أمريكية فى صحراء النقب على بُعد ٣٢ كيلومترًا من غزة، تضم القاعدة رادارًا يرصد أى طيران أو صواريخ تحاول أن تتجه نحو إسرائيل، كل هذا، ولا يضغط لوقف إطلاق النار.نصف هذا الجهد أو ربعه كان يكفى لمنع اشتعال النيران، خاصة أن لدى الإدارة الأمريكية قنوات اتصال مع القيادة السياسية لحماس منذ سنوات، تصريحات السفير القطرى لدى الأمم المتحدة واضحة بأن الإدارة الأمريكية طلبت من قطر استضافة قيادة حماس ليسهل التواصل معهم.حتى بعدما وقع يوم السابع من أكتوبر الماضى، كانت هناك طرق أخرى عديدة للرد والردع، لكن الهدف العميق هو الإبادة وإقامة المحرقة للعرب واليهود معًا.سوف تنتهى هذه الحرب، لكن لن تكون آخر الحروب ولا آخر العمليات الدموية، حتى «لابيد»، زعيم المعارضة فى إسرائيل، قال، مساء الخميس، على قناة العربية، إنه مع حل الدولتين، لكن الطريق إليه «طويل وبالغ التعقيد»، أى لا تتوقعوا قيام الدولة الفلسطينية قريبًا، هو استعمل جملة أن حل الدولتين لن يتحقق «فى المنظور القريب». هو تعبير مفتوح، هذا المنظور قد يمتد إلى جيل أو نصف قرن، وربما لقرن آخر.أما عن المقاومة الفلسطينية وحماس تحديدا، وما قامت به، فإن القضية الفلسطينية قائمة وملف الدم مفتوح قبل ظهور حماس بأكثر من أربعة عقود، وتؤكد الوقائع أن حماس لا تسيطر على الضفة الغربية، حيث تتواجد السلطة الوطنية الفلسطينية، ورغم ذلك قتلت إسرائيل أكثر من ١٦٠ فلسطينيا فى الضفة منذ اندلاع الحرب الأخيرة، كما أن حماس لا تسيطر على القدس ودائما المواجهات مشتعلة بها.يعلمنا التاريخ أن كل احتلال يفرز المقاومة التى يستحقها وتليق به، فالاحتلال البريطانى للهند أفرز زعيما فى قامة غاندى، وفى مصر مصطفى كامل ثم سعد زغلول وثورة سنة ١٩١٩.الاحتلال الإسرائيلى، الذى لم يحتمل إسحق رابين ولا ياسر عرفات، وتخلص منهما، الأول بالرصاص والثانى كما تردد بالسم، عليه أن يستقبل وينتظر ما بعد حماس والجهاد والشعبية، على الناحية الأخرى، هم يقدمون السلاح ويسعدون ببحيرات الدم عربيًّا ويهوديًّا. البحيرات لن تجف قريبًا. لم تمتلئ بعد.

فلسطين ليست الأندلس حلمي النمنم

اختفت الأندلس من الواقع الإنسانى والسياسى والاجتماعى.. لم يختفِ الاسم فقط، بل اختفى وزال كل شىء، بقى منها بعض الأطلال وبعض المشاهد للذكرى فقط، ولدينا التراث الأدبى والثقافى الأندلسى الذي يذكّرنا بفداحة الخسارة الإنسانية.حين هُزم الجيش العربى أمام جيش فرديناندو وإيزابيلا، بقيت الأندلس.. وحتى حين وقّع آخر الأمراء معاهدة الصلح وغادر بلاده، كان هناك المجتمع والثقافة الأندلسية العظيمة.. حدث الزوال مع التهجير القسرى أو الطرد الجماعى لسكانها.في البداية، فُرض عليهم تغيير دينهم، لكن بقيت ثقافتهم وبقى وجودهم الحضارى.. هنا نشأت محاكم التفتيش لتتتبعهم، وصل الأمر إلى أن من كان يرتدى ملابس بيضاء يوم الجمعة يُتهم ويحاكم.. أخيرا كان القرار المفزع بإجبارهم على مغادرة البلاد نهائيا.. هناك من ذهبوا إلى المغرب وإلى الجزائر وتونس، احتفظوا بتسمية «الموريسكيين»، وهناك من جاءوا إلى مصر بأعداد كبيرة، كانوا مسلمين وكانوا يهودا.الطرد كان من نصيب الاثنين معًا، أحسنَ المصريون استقبالهم فعاشوا واندمجوا، ذابوا وسط المصريين، تمصروا تماما، من هؤلاء كان «أبوالعباس المرسى»، المتصوف الذي أحبه أهل الإسكندرية، وصار من رموزها وأعلامها إلى اليوم. أصدرت عنه مؤخرا الروائية الموهوبة ريم بسيونى روايتها «ماريو وأبوالعباس».ربما كان حظ أهل الأندلس الذين وفدوا إلى مصر أفضل من أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد أخرى، خاصةً جنوب فرنسا أو العالم الجديد.. في بعض البلدان قُبض عليهم وعرضوا في أسواق العبيد.. في النهاية، ذابت الأندلس واختفت باختفاء أهلها. أذيب شعبٌ بأكمله واختفى من الوجود، ربما كان ذلك واردًا في العصور القديمة والوسطى ومطلع العصر الحديث.ويبدو أن هناك إصرارًا غربيًا بريطانيًا وأمريكيًا وإسرائيليًا، في المقام الأول، على تكرار النمط نفسه في فلسطين، لكن عبر خطوات ومراحل وأجيال.في العام ١٩٤٧، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم القارة الهندية إلى دولتين هما: الهند وباكستان، على أن تضم باكستان المسلمين، وتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة لليهود وأخرى للعرب. وكانت بريطانيا تحتل الهند وتحتل فلسطين أو صاحبة الانتداب عليها، كانت بريطانيا قد بدأت في تصفية بعض مستعمراتها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أفلت شمسها وتقدمت الولايات المتحدة.. في حالة الهند، حرصت بريطانيا على أن يتم إعلان قيام واستقلال الهند وباكستان قبل أن تخرج من هناك، ورسمت الحدود بين الدولتين بإقناع قيادات ورموز كل جانب من الإمبراطورية، وتم توزيع السكان في بعض مناطق التماس.. طبعا، وقعت مآسٍ ومجازر مع تلك الحركة، لكن في النهاية هناك دولتان معترف بهما، وإنْ عُلِّقت بعض مشاكل الحدود، مثل تلك التي نراها في مناطق عديدة حول العالم.في فلسطين، فعلت بريطانيا العكس، قررت الانسحاب من فلسطين نهائيًا قبل منتصف مايو سنة ١٩٤٨، خرجت بريطانيا دون ترتيب الأوضاع، ودون تنفيذ قرار التقسيم، دون حتى إجراءات تسليم وتسلم... في مصر حين كانت بريطانيا تخرج من مدينة كانت تقوم بعملية تسليم للسلطات المحلية والحكومة الوطنية، فعلت ذلك بعد تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، ثم بعد معاهدة ١٩٣٦، وأخيرا بعد توقيع معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤.في فلسطين، يمكن القول إنهم هربوا وتركوا السكان أبناء الوطن وكذلك المهاجرون اليهود، كانت بريطانيا تعلم أن الأمور متفاقمة وستنفجر حتما في فلسطين، ويبدو أن ذلك ما كانوا يسعون إليه.نظريًا، تركت بريطانيا الفلسطينيين واليهود يواجهون بعضهم البعض، وأشاعوا وقتها أنهم لا يريدون التدخل بين العرب واليهود، يفضلون الحياد.عمليًا، كانت بريطانيا، منذ وعد وزير خارجيتها لورد بلفور سنة ١٩١٧ مع اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، تدعم بكل قوة ودهاء إقامة دولة إسرائيل وتستبعد إقامة وبناء دولة فلسطين.. منذ العشرينيات، كانت بريطانيا تدعم الهجرات اليهودية الكثيفة إلى فلسطين بذرائع إنسانية، ثم راحت تتحدث منذ سنة ١٩٣٦، قبل الهولوكوست عن تقسيم فلسطين.الآن، وصلنا إلى اللحظة الفاصلة تاريخيا؛ وهى تكرار ما حدث في الأندلس بإزاحة الفلسطينيين جميعًا من وطنهم وبلادهم.. بدأ السيناريو بمذابح وإبادة أكبر عدد منهم لترويع الآخرين.. والحق أن ما يقع اليوم ليس جديدًا. يتحدث بعض المعلقين باندهاش بالغ عن قتل الأطفال والنساء والمذابح في «غزة»، وماذا عن مذبحة دير ياسين وكفر قاسم سنة ١٩٤٨؟.. ماذا عن مقتل الطفل «محمد الدرة» قبل أكثر من عشرين عاما؟.. هل نسينا مقتل زميلتنا «شيرين أبوعاقلة» العام الماضى؟، ونحن في مصر، ألم نعش مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية أثناء حرب الاستنزاف ونحن أطفال؟.. وقتها ألغت وزارة التربية «الفسحة الطويلة»، خوفا علينا من احتمال وقوع غارات إسرائيلية على المدارس أثناءها. لا أظن أن أبناء جيلى نسوا تلك الأيام.ليتنا ننفض عن ذاكرتنا غبار النسيان وأحاديث السلام المجانى ورومانسية التطبيع.المذابح والمجازر البشرية لم تنجح في دفع الفلسطينيين إلى المغادرة، وبتنا الآن أمام المرحلة الفاصلة وهى الطرد الجماعى أو التهجير القسرى.. الفكرة قديمة، بدأ الحديث عنها بعد حرب ٦٧، لكنها مطروحة للتنفيذ الآن، والهدف أن تستقبل تركيا عدة آلاف، وكذا بعض الدول الإسلامية والأوروبية، وأن تستوعب مصر أكبر عدد منهم، ليس هذا فقط، بل حددوا الشريط الحدودى في سيناء لبناء مخيمات لاجئين لأهل غزة.. مصريًّا، لا نقبل بوجود مخيمات ولا يليق بمصر العظيمة أن تقيم «جيتو» للأشقاء.. الثقافة المصرية الإنسانية لم تسمح يومًا بجيتو على أرضها، نعيش التواصل والانفتاح الإنسانى.. دعك الآن من محاولة العبث بالوطنية المصرية.عمومًا، الدولة المصرية رفضت ذلك قطعيا.. الرئيس عبدالفتاح السيسى أعلنها واضحة، قاطعة: رفض التهجير القسرى ورفض تصفية القضية الفلسطينية. الفلسطينيون أكدوا عبر كل المستويات أنهم لن يغادروا وطنهم، باقون حتى الموت، استوعبوا تجربة حرب ٤٨، الذين غادروا وقتها قيل لهم ثلاثة أيام على الأكثر، حتى تهدأ الأمور وتعودون.. لكن لم يسمح لهم بالعودة إلى يومنا هذا، وتقول إسرائيل إنها لن تسمح لهم ولن تقبل بهم، رغم وجود قرار من الأمم المتحدة بحقهم في العودة.يبدو أن احتفاء المصريين بالأشقاء من السودان والعراق وليبيا وسوريا أغرى بعض قصار النظر والفهم بأنه يمكن إزاحة ٢ مليون فلسطينى. يقولون إن لدى مصر أكثر من تسعة ملايين من الأشقاء.. وهذا صحيح.. لكن هؤلاء جميعًا ضيوف، وإقامتهم في مصر ليست بهدف القضاء على بلادهم وأوطانهم ولا بغرض تذويب وانقراض شعب بأكمله.ما يحدث في غزة وكل فلسطين منذ يوم السبت السابع من أكتوبر يثير بعض المغرمين بفكرة المؤامرة في كل اتجاه. صحيح أن هناك الكثير من المعلومات ليست واضحة، والعديد من التساؤلات بل الشكوك.. كل هذا مشروع.. المعلومات سوف تتكشف، والخفى سوف يظهر ويعلن، لكن القضية الكبرى الآن هي ألا نقبل بوجود أندلس أخرى.. فلسطين ليست الأندلس.. القدس ليست قرطبة.. ولا يصح أن نسمح بذلك وإلا فلا معنى للقانون الدولى ولا حقوق الإنسان ولا معنى للوطن وعصر الحريات والديمقراطية.هنا علينا أن نعمل بكل قوة لدعم صمود وبقاء الشعب الفلسطينى داخل فلسطين بتقديم كل ما هو ممكن.. وأثق بأن القمة العربية المقبلة في الرياض سوف تتخذ خطوات وقرارات في هذا الصدد.علينا كذلك أن نضغط بكل الوسائل المشروعة لإقامة دولة فلسطين، مستقلة وذات سيادة.. الضمان الأقوى لبقاء إسرائيل وأمنها هو وجود دولة فلسطين كاملة السيادة والاستقلال.

البيان الأول لمركز الفارابي بشأن الجرائم الإسرائيلية في غزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وما النصر إلا من عند الله.

إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.

بعد مرور أربعة أسابيع على العملية البطولية الشجاعة التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في غزة، التي شكلت صفعة قوية مؤلمة على وجه الاحتلال الاسرائيلي العنصري الغاشم،

فإن مجلس أمناء مركز الفارابي للدراسات، إذ يؤكد على دعمه الكامل والمطلق غير المحدود لجميع القرارات والاجراءات والمواقف التي تقررها الدولة المصرية، وإذ يؤكد على ثقة المصريين في قيادتهم السياسية، ورؤيتها الخاصة بإدارة الأزمة،

وإذ يشجب ويندِّد ويدين بأشد العبارات بالمواقف والصمت الأمريكي والأوروبي بل وتأييدهم الرسمي السافر للجرائم الإسرائيلية الوحشية النازية بحق الفلسطينيين المدنيين،

وإذ يدين عجز جميع المنظمات التابعة للأمم المتحدة عن منع وردع الكيان الصهيوني النازي المحتل لفلسطين، واجباره على التوقف عن ارتكاب جرائمه اللانسانية الرهيبة والفظيعة والبشعة بحق دماء الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى والعجزة الفلسطينيين،

وإذ يعتبر جميع ما قام به الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي النازي الغاشم من جرائم بحق جميع المدنيين الفلسطينيين في غزة وبصفة خاصة ما ارتكبه ولازال يرتكبه من مجازر رهيبة وبشعة من خلال قصف وتدمير المستشفيات والأحياء المدنية والمساجد والكنائس والمدارس بالأسحلة المحرمة دوليًا وعلى رأسها القنابل الفسفورية الحارقة، وقيام المحتل الإسرائلي المجرم بإلقاء 17000 طنًا من القنابل الفتاكة ما يوازي قنبلتين نوويتين،

وإذ يدعو ويطالب محكمة العدل الدولية، وجميع الهيئات والمنظمات الدولية ذات الصلة بمحاكمة القادة السياسيين والعسكريين للإحتلال الإسرائلي الغاشم، في أسرع وقت ممكن بوصفهم مجرمي حرب، مُعادين للإنسانية وحقوق الإنسان،

وإذ يُشيد بالمواقف الشجاعة القوية الجريئة للقوى الدولية والإقليمية المناصرة للحقوق الفلسطينية وعلى رأسه روسيا والصين وتركيا وإيران، وإذ يُقَّدر بصفة خاصة مواقف روسيا والصين داخل مجلس الأمن واستخدامهما حق الفيتو ضد القرارات المجحفة الظالمة التي اتخذته الدولتان داخل مجلس الأمن من جهة، ودعمهما لمشروع القرار العربي بالجمعية العامة للأمم المتحدة،

فإن المركز يدعم ويؤيد ويشيد بقرارت عدد من الدول العربية والأجنبية بشأن الجرائم الرهيبة والفظيعة والبشعة التي يقوم بها الاحتلال الصهيوني الإسرائيلي الغاشم ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، ويخص بالذكر:

1- مطالبة مجلس النواب الليبي سفراء الدول الداعمة لإسرائيل بمغادرة ليبيا ووقف تصدير النفط والغاز لها.

2- بقرار مملكة البحرين بسحب سفيرها من تل ابيب احتجاجا على العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة فضلا عن قرارها بمغادرة اليفير الإسرائيلي للبحرين، وفي هذا الصدد يؤكد مجلس الامناء أن قرار المملكة بقطع علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل خطوة قوية تدعم الضغوط الدولية والإقليمية والعربية على دولة الاحتلال الصهيونى لوقف العدوان على غزة.

3- قرار المملكة الأردنية الهاشمية بسحب سفيرها من إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي من الأردن.

في هذا الصدد أيضًا، يطالب مجلس أمناء المركز جميع الدول العربية والاسلامية لتفعيل المقاطعة الشاملة مع إسرائيل، وكذلك يؤكد على دعمه التام المطلق للجهود المصرية ووعيه بأبعاد إدارة الدولة المصرية للأزمة وبصفة خاصة قدرتها على الردع وحكمتها في كيفية إدارة وتنسيق المحاور الخاصة بالدور الإستراتيجي المصري.

النصر لفلسطين والحياة للفلسطينيين.