العزلة المجيدة: قراءة في استراتيجية بريطانيا بين الانعزال والتوسع الإمبراطوري

0

الباحث/ عبد الرحمن مجدي صالح

تعُد إشكالية الانعزال أو الانخراط في السياسة الدولية من أبرز القضايا في حقل السياسة الخارجية، وهي إشكالية تخبو وتتصاعد من عصر إلى عصر آخر، في ظل زيادة الأعباء والالتزامات على عاتق الدول. وبينما يرى البعض أن الانعزال في عصر العولمة أصبح دربًا من الخيال، فإن التاريخ يُبرز أمثلة واضحة على “سياسات انعزالية” تبنتها بعض الدول الكبرى في فترات مختلفة. على سبيل المثال، نجد السياسة الانعزالية في اليابان، التي سميت بـ “ساكوكو”[i] التي استمرت من عام 1639م إلى 1868م، والتي انتهت بانفتاح البلاد خلال عصر “المييجي”.

أما الحالة البريطانية، فهي الأبرز على الإطلاق، حيث تبنت بريطانيا خلال القرن التاسع عشر سياسة خارجية وصفت بـ “العزلة المجيدة”. هنا يبرز التساؤل المحوري: كيف لدولة تدّعي العزلة أن تكون في الوقت نفسه إمبراطورية عظمى، وُصفت بأنها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”؟

في هذه المقالة، سبر للأغوار حول “مفهوم العزلة المجيدة”، ومحاولة الكشف عن كيفية استطاعة بريطانيا “تحقيق التوازن بين الانعزال السياسي وبناء إمبراطورية مترامية الأطراف.”

خلال القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، أدرك صانعو القرار في بريطانيا الأبعاد الجيوسياسية لموقعها كجزيرة وما يعنيه ذلك لعلاقتها بالقارة الأوروبية. هذا الإدراك كان نابعًا من استقراء المشهد السياسي الأوروبي عقب الثورة الفرنسية عام 1789م، التي كانت قد غيرت موازين القوى داخل القارة، وأسهمت في انتشار “الأفكار القومية” على حساب “الأفكار الاستبدادية التقليدية”. بناءً على ذلك، تبنت بريطانيا سياسات محددة أصبحت تُعرف لاحقًا باسم “العزلة المجيدة“.

جون ألكسندر ماكدونالد
السير جون ألكسندر ماكدونالد

فما هو المقصود بالعزلة المجيدة؟ ظهر هذا المصطلح لأول مرة على يد “جون ألكسندر ماكدونالد”، رئيس مجلس العموم الكندي، وزير المالية في “حكومة المحافظين”، في يناير 1869، عندما وصف السياسة الخارجية البريطانية بقوله: “إنها عزلة مجيدة”[ii]. انتشر هذا التعبير بسرعة، وأصبح يستخدم على نطاق واسع في الأوساط السياسية والإعلامية لوصف السياسات البريطانية التي ركزت على “حماية المصالح الذاتية بعيدًا عن الانخراط العميق في التحالفات أو الحروب الأوروبية”. مع ذلك، اقتصرت هذه السياسة على علاقتها بالقارة الأوروبية فقط. ففي الوقت ذاته عملت بريطانيا على اكتساب مستعمرات جديدة حول العالم. لكن يظل السؤال قائمًا: لماذا اختارت بريطانيا هذا النمط الانعزالي على المستوي “الإقليمي الأوروبي”؟

الموقع الجغرافي ودوره في تشكيل السياسة الخارجية البريطانية  

خريطة توضيحية للموقع الجغرافي للمملكة المتحدة

لعب الموقع الجغرافي الفريد للجزيرة البريطانية دورًا محوريًا في تشكيل سياستها الخارجية. حيث فرضت طبيعة الجزيرة على بريطانيا، الحاجة لبناء أسطول بحري قوي، ليس فقط لحمايتها من التهديدات الخارجية، بل أيضًا باعتباره “الوسيلة الوحيدة للاتصال بالعالم الخارجي” في ذلك الوقت. هذا جعل من تطوير الأسطول البحري “أولوية وجودية للدولة البريطانية”، حيث تحول إلى رمز لقوتها وهيمنتها[iii]. حيث وصلت أهمية الأسطول لذروتها في معارك مفصلية، كان من أبرزها معركة “الطرف الأغر” عام 1805م خلال “الحروب النابليونية”، التي استطاع فيها الأسطول البريطاني تحقيق انتصارًا ساحقًا على “الأسطولين الفرنسي والإسباني” دون خسارة أي سفينة. هذا الانتصار لم يكن مجرد انتصارًا أو إنجازًا عسكريًا، بل كان تأكيدًا على نجاحها في اعتماد “استراتيجيتها البحرية”، التي أتاحت لبريطانيا حماية مصالحها في الشرق والغرب دون الحاجة إلى “الانخراط في تحالفات عسكرية مكلفة”.

جاء هذا التركيز على القوة البحرية لتعويض نقص بريطانيا في القوة البرية، وهو الأمر الذي يُرجعه المؤرخون إلى محدودية عداد السكان داخل الجزيرة. وللتغلب على هذا التحدي، اتجهت بريطانيا لاحقًا لتجنيد أفراد من مستعمراتها.

بالرغم من ذلك، ظلَّ صانعو القرار البريطانيون يتعاملون بحذر مع فكرة الزج بأسطولهم البحري في النزاعات الأوروبية، حيث فضلوا “الحفاظ على توازن دقيق يضمن أمنهم واستمرارية مصالحهم الحيوية”. فبهذا الأسطول، استطاعت بريطانيا تحقيق دفاعًا قويًا عن جزيرتها وتأمين مصالحها العالمية من جهة، دون الحاجة إلى الدخول في التزامات أو تحالفات عسكرية معقدة مع أي قوى أخرى من جهة ثانية.

طبيعة النزاعات الأوروبية

لقد شهد القرن الثامن عشر، وسنوات ما بعده سلسلة من الأزمات الدولية، بدأت بالحروب النابليونية (1803م-1815م)، مرورًا بحركات التحرر الأوروبية التي تصاعدت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وانتهاءً بالصراعات على المستعمرات خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. لكثرة هذه النزاعات، قامت القيادة في لندن بوضع مجموعة من الركائز الأساسية للتعامل مع الأزمات داخل القارة الأوروبية، هذه الركائز هي:

1- الحفاظ على وحدة الإمبراطورية البريطانية وممتلكتها.

2- ضمان استمرار حياد بلجيكا (اتفاقية لندن، 1839م).

3- الحيلولة دون انهيار الدولة العثمانية، خاصة مع بدء التوسع الروسي خلال القرن التاسع عشر.

4- منع وصول روسيا إلى المياه الدافئة، خصوصًا عبر البحر الأسود والمضائق (وظهر ذلك بوضوح خلال حرب القرم، 1853م-1856م).

5- الحفاظ على توازن القوى داخل القارة الأوروبية، كسياسة مستمرة منذ القرن الثامن عشر وتبلورت في مؤتمر فيينا (1815م).

6- التأيد “الدبلوماسي” لحركات القومية داخل القارة الأوروبية.

نابليون بونابارت
القائد الفرنسي نابليون بونابارت

اعتمدت بريطانيا على هذه الركائز كإطار لتحركها في القارة الأوروبية. وكلما كان هناك إخلال بأي منها، كانت تتدخل باستخدام الأداة العسكرية، وذلك مثلما حدث في حرب استقلال اليونان (1821م-1829م) التي شهدت دعمًا بريطانيًا ضد الهيمنة العثمانية، ومنع أنفراد روسيا بالأزمة في المقام الأول. ثم حرب القرم (1853م-1856م) التي حالت دون “توسع النفوذ الروسي”. بخلاف ذلك، كانت الأداة الدبلوماسية هي الخيار الأساسي.

بالإضافة إلى ذلك، كانت ترى بريطانيا أن العديد من النزاعات الأوروبية لا جدوى من التدخل فيها نظرًا لغياب مصالح مباشرة، مثل أزمة الوحدة الإيطالية (1859م-1870م)، الوحدة الألمانية (1864م-1871م)، الحرب الألمانية-النمساوية (1866م)، والحرب الألمانية-الفرنسية (1870م-1871م). حيث فضَّل البريطانيون حينها “توجيه القوة نحو اكتساب مستعمرات جديدة لتعزيز قوة البلاد”، وهو ما توافق مع مصالح الطبقة الوسطى التجارية آنذاك التي فضّلت الابتعاد عن ويلات الحروب وتوسيع التجارة في المستعمرات.

ثورة البوكسر في الصين من 1899م إلى 1901م

لكن كلما كانت الأمور تتطلب “الدخول في تحالفات عسكرية مع قوى أخرى” لتحقيق مصالحها لم تمانع، وهو ما تحقق فعلياً في “حرب البوكسر” في الصين (1899م-1901م)، حيث شاركت بريطانيا في الحرب بجانب قوى دولية عديدة مثل روسيا، فرنسا، وألمانيا وغيرها بهدف القضاء على ثورة الملاكمين والحفاظ على المصالح الاستعمارية في الصين.

بنية النظام الدولي خلال القرن التاسع عشر

اتسم النظام الدولي في القرن التاسع عشر بأنه نظام قائم على التحالفات والمؤتمرات الدبلوماسية بين دول القارة الأوروبية، وهو ما برز بشكل كبير مع تولي المستشار الألماني “أوتو فون بسمارك” منصب المستشارية في ألمانيا (1871م-1890م). عمل بسمارك على بناء شبكة من التحالفات لتأمين مصالح بلاده، أبرزها تحالف الأباطرة الثلاثة (1873م) بين “ألمانيا، (النمسا_المجر) وروسيا”، ثم الحلف الثلاثي (1882م) بين ألمانيا، (النمسا-المجر) وإيطاليا، وكانت هذه الجهود تدور في فلك أساسي هو “عزل فرنسا” دبلوماسيًا وعسكريًا، ومنعها من الانتقام من ألمانيا بعد هزيمتها في “الحرب الألمانية-الفرنسية” (1870م-1871م).

قبل ذلك، كانت قد ظهرت تحالفات أخرى مثل “الحلف المقدس” (1815م) الذي ضم روسيا، النمسا، وبروسيا بهدف دعم الأنظمة الملكية في مواجهة “الحركات الثورية”، فضلاً عن التحالفات الإقليمية بين الدول الكبرى. مع ذلك، رفضت بريطانيا الانضمام إلى هذه التحالفات، مُفضلةً الوقوف على مسافة بعيدة منها. جاء هذا الموقف نتيجة حرص بريطانيا على “تجنب الالتزامات العسكرية الثقيلة” التي قد تفرضها هذه التحالفات، التي قد ترهق الإمبراطورية دون أن تحقق مصالح مباشرة لها.

المستشار الألماني أتو فون بسمارك

لقد كان الدليل الأبرز على هذه السياسة من جانب بريطانيا هو رفضها المستمر دعوة “المستشار الألماني بسمارك” للانضمام إلى معاهدة تحالف، أو حتى جهود “بسمارك” في جر بريطانيا إلى التحالف الثلاثي. فضلت بريطانيا الابتعاد عن هذه التحالفات لمنح عملية صنع قرارها استقلالية أكبر، ولتجنب تبعات أي التزامات قد تضر بمصالحها الحيوية.

ورغم ذلك، عندما تطلب الأمر حماية مصالحها الحيوية، لم تتردد بريطانيا في عقد اتفاقيات سياسية محدده تخدم أهدافها، مثل “اتفاقيات البحر المتوسط” (1887م) التي أبرمتها مع “إيطاليا والنمسا-المجر”، بهدف مواجهة التوسع الروسي وحماية طريقها البحري إلى الهند.

نهاية العزلة المجيدة والطريق إلى الحرب العالمية الأولى

في النهاية، عندما أدركت بريطانيا أن الظروف الدولية التي بنيت على أساسها سياستها القائمة على العزلة، قد تغيرت، بدأ صانعو القرار البريطانيون في تعديل سياستهم الخارجية. فبحلول نهاية القرن التاسع عشر، وجدت بريطانيا نفسها وحيدة بدون حليف رئيسي في القارة الأوروبية، بعد تشكيل التحالف الثلاثي بين “ألمانيا والنمسا-المجر وإيطاليا”، من جهة، وكذلك التقارب “الروسي-الفرنسي” الذي تجسد في اتفاقية 1892م من جهة أخرى.

وقد جاء ذلك في وقت كانت فيه الأحداث الدولية تتسارع، سواء في القارة الأوروبية مع تبني ألمانيا بقيادة مستشارها الجديد “بولوف” وقيصرها “فيلهلم الثاني” سياسة تحديث أسطولها البحري لمنافسة بريطانيا، أو في الشرق الأقصى بعد “الحرب الروسية-اليابانية” (1904-1905م)، فأصبحت العزلة أمرًا صعبًا في خضم تلك التحويلات السياسية والبيئة الدولية المتوترة.

القيصر الألماني فيلهلم الثاني

وفي ضوء هذه التغيرات، بدأت بريطانيا في اتخاذ خطوات للخروج من عزلتها الدبلوماسية، من خلال عقد مجموعة من الاتفاقيات مع قوى دولية، مثل “توقيع اتفاقية مع اليابان” في عام 1902م، التي كانت تهدف إلى تأمين مصالحها في الشرق الأقصى. كما وقعت بريطانيا في عام 1904م “الاتفاق الودي” مع فرنسا، وهو اتفاق أسهم في تحسين العلاقات بين البلدين بعد قرن من التنافس، وأدى إلى تقارب دبلوماسي مهم لمواجهة خطر ألمانيا. بالإضافة إلى ذلك، تم توقيع الاتفاقية الروسية-البريطانية في 1907م، مما ساعد في تسوية التوترات بين الإمبراطورية البريطانية وروسيا حول مناطق النفوذ في آسيا الوسطى.

خريطة توضح توزيع المستعمرات بين كل من بريطانيا و فرنسا قبل بداية الحرب العالمية الأولي
خريطة توضح لتوزيع المستعمرات البريطانية و الفرنسية قبل بداية الحرب العالمية الأولي

مما سبق، يمكننا استنتاج أن الاستراتيجية الذكية التي اتبعتها بريطانيا ساعدت على تعزيز مكانتها كقوة عظمى لعدة قرون، وأن هذه الاستراتيجية كانت نابعة من رغبة الإمبراطورية البريطانية في تعزيز استقلالية قرارها، وليس عن الضعف.

وفقًا لذلك، أحدثت سياسة العزلة المجيدة البريطانية تغييرًا في التصور العام للمفهوم في الحقول المعرفية. فبعد “أن كانت العزلة تُنظر إليها على أنها أمر منبوذ وناتج عن ضعف الدولة وفشلها في الدخول في تحالفات”، أصبح العديد يعتبر أنَّ “العزلة هي رمز لاستقلالية الدولة وقوتها”، وهو ما تجسد في تصريح جورج جوشن، عضو مجلس الوزراء، في عام 1894 عندما حاول الدفاع عن سياسات العزلة، موضحًا أن هناك نوعين من العزلة: الأولى لأولئك الضعفاء الذين لا يثقون في أنفسهم، أما عزلتنا فهي: “اختيار متعمد نابع من حرية تصرفنا وقوتنا” [iv].

على الرغم من نجاح سياسة العزلة المجيدة في تأمين مصالح الإمبراطورية البريطانية، فإنها أدت إلى انعكاسات خطيرة على الداخل الأوروبي. فقد ساهم ابتعاد بريطانيا عن القارة في “تعزيز نمو وتمدد القوة الألمانية”، بل وفتح المجال أمام “بسمارك” لبناء نظام التحالفات القائم على التناقضات، بالإضافة إلى “الانتصار الألماني الكاسح على فرنسا”. كل هذه العوامل شكلت دوافع رئيسية أدت إلى تهيئة المناخ الدولي الذي ساهم في اندلاع الحرب العالمية الأولي و الثانية ، التي أسفرت عن دمار هائل وسقوط ضحايا أبرياء.

ومع تراجع بريطانيا عن هذه الاستراتيجية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية لأسباب متعددة، وهو ما أدى إلى “تراجع في قوتها وضعف في دورها على الساحة الدولية بعد ذلك”، هذا التراجع نفسه، هو الذي  منح الولايات المتحدة “الفرصة لتولي القيادة العالمية”، مستفيدة من انحسار بريطانيا كقوة عظمى، الأمر الذي يؤكد على حقيقة مفادها كيف تؤثر “السياسات الخارجية” لقوة عظمى ما وبشكل كبير على الديناميكيات العالمية من جهة، وكيف أن “التغييرات والتحولات الاستراتيجية لقوة ما” غالبًا ما تُفضي إلى “تغيير حقيقي جديد في موازين القوى الدولية”.

الباحث عبدالرحمن مجدي صالح
الباحث عبدالرحمن مجدي صالح

[i]  هي سياسة اتبعتها الحكومة الشوغونية في اليابان و التي قامت على عزلة صارمة في العلاقات الخارجية، حيث فرضت عقوبة الإعدام على كل من يجرؤ على الدخول أو الخروج من اليابان، سواء كان يابانيًا أو أجنبيًا.، و بها تم طرد  جميع الأجانب الأوروبيين، وعلى رأسهم التجار والمبشرون الكاثوليك من إسبانيا والبرتغال، الذين توافدوا إلى اليابان بأعداد كبيرة خلال النصف الثاني من القرن السادس عشر.

[ii] Howard, Christopher. “The Policy of Isolation.” The Historical Journal 10, no. 1 (1967): 84.

[iii]  د.نعمة حسن البكر ، بريطانيا وسياسة العزلة المجيدة 1879-1907 ، ( القاهرة ، الهيئة العامة للكتاب ، 2021 ) ، ص19 .

[iv][iv] oward, “The Policy of Isolation,” 80

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *