حلمي النمنم

حلمي النمنم

استشهاد القائد العظيم (الفريق) عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب الجيش المصرى،

منذ خمسة أيام كانت ذكرى استشهاد القائد العظيم (الفريق) عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب الجيش المصرى، أثناء حرب الاستنزاف. كان القائد فى زيارة للمواقع المتقدمة على الجبهة، عند المعدية رقم ٦ على شاطئ القناة فى مدينة الإسماعيلية، يوم التاسع من مارس سنة 1969، الذى حدث أن الضباط الإسرائيليين على الضفة الأخرى من القناة، فى مواقعهم الحصينة بخط بارليف، شعروا بالزيارة من فرط التحركات أمامهم وتوقعوا أنها لضابط عظيم فكثفوا ضربات المدفعية، أصيب السيد الفريق بشظية قاتلة. حين وصل الخبر إلى القاهرة، وقع ارتباك لحظى، المصاب جلل، رئيس الأركان يستشهد على ضفة القناة، هنا كان التساؤل: كيف يتم إعلان الخبر، والصياغة التى يقدم بها للرأى العام؟ خاصة أن الفريق رياض كان شخصية معروفة جدًا للرأى العام ليس فى مصر فقط بل فى كل دول المواجهة بصرامته وانضباطه، فضلًا عن كفاءته القتالية، الكثيرون كانوا ينتظرون منه الكثير فى المعركة المنتظرة، يكفى أنه تولى موقعه، بعد الهزيمة مباشرةً، يوم 11 يونيه 67، قام هو مع الفريق محمد فوزى بإعادة بناء القوات المسلحة، المتخصصون فى هذا المجال والمؤرخين العسكريين يدركون أن العبء الأكبر، فى مثل هذا الموقف، يقع على كاهل رئيس الأركان. خشى عدد من كبار المسؤولين فى الدولة أن نقل الخبر كما هو، قد يؤدى إلى حالة من الإحباط فى الشارع بما يهز الروح المعنوية فى لحظة المعركة التى لم تهدأ، وربما يهز ثقة الجمهور بقواته. قال المرحوم محمد حسنين هيكل مرة – فى حديث تليفزيونى – إن هناك من اقترح على الرئيس عبدالناصر إذاعة أن الرجل لقى مصيره فى حادث سيارة أثناء عودته من الجبهة، لكن الرئيس لم يوافق على هذا الرأى، بل اعتبره سخيفًا.

كما يذكر محمد فائق، وزير الإرشاد (الإعلام) وقتها، فى سيرته الذاتية، أنه سارع كوزير مختص بالإعلام بإبلاغ الخبر إلى رئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط لبثه على الفور، بعدها مباشرة نقلته إذاعة (بى بى سى) عنها، ثم جريدة الأهرام. وحتى الآن، يتصور البعض أن بى بى سى كانت صاحبة السبق فى النشر، حتى إن أحد شيوخ المهنة قال ذلك مؤخرًا فى إحدى الندوات.

كهنة «الاتحاد الاشتراكى العربى»!

حين نشرت الأهرام الخبر – نقلًا عن الوكالة – حدثت أزمة، حيث عبر كهنة «الاتحاد الاشتراكى العربى»، الذين زادت شوكتهم بعد هزيمة يونيو، عن استيائهم من النشر. عاتب الرئيس عبدالناصر هيكل بشدة، فاتصل محمد فائق – متعه الله بالصحة – بالرئيس مؤكدًا أنه هو من أجاز الخبر، وشرح وجهة نظره، وهى أن: من الشرف للقائد وللجيش والوطن كله أن يستشهد رئيس الأركان فى الميدان وسط الضباط والجنود، كما أنه من حق الشهيد ألا ينكر أحد عليه بطولته، بل يجب أن يعرف الجميع ذلك.

أقيمت جنازة كبرى للفريق رياض، تقدمها الرئيس عبدالناصر بنفسه، ومعه كبار رجال الدولة، وتحولت إلى جنازة شعبية، هتف فيها المواطنون بضرورة استمرار القتال وتحرير الأرض. لقد تبين أن مخاوف بعض كبار المسؤولين من إعلان الحقيقة، كانت بلا أساس، وكشفت تراجع الحس السياسى لديهم لحساب المنطق السلطوى، ناهيك عن انعزالهم الحقيقى عن الروح العامة للمواطنين. تفهم الرأى العام الموقف، وأكبر عموم المواطنين نبل وصدق قيادات الجيش، وإصرارهم على أداء الواجب الوطنى مهما كان الثمن.

كانت لحظة شجاعة عظيمة من الجميع،

كما تبين أيضًا أن نشر وكالة أنباء الشرق الأوسط (الوكالة الرسمية) للخبر، ثم الأهرام، أضفى مصداقية على الصحافة والإعلام المصرى. كانت لحظة شجاعة عظيمة من الجميع، القائد الذى لا يتربع فى مكتبه- إن فعل لا لوم عليه- بل يبادر إلى ميدان القتال عند اقرب نقطة من نيران العدو، بين الجنود المقاتلين، شجاعة أيضا من وزير الإعلام الذى بادر بالنشر، وكذلك من رئيس تحرير الأهرام، لأنه يدرك أن الطرف الآخر سوف يعجل بالنشر فور التأكد من المعلومة، وعندها يكون صاحب النصر والسبق. استشهاد القائد كان دليل الجدية فى المعركة والتحرير، بما قطع الطريق على بعض مثيرى الإحباط والاكتئاب الوطنى وقتها، ومن المحزن أن بيننا من لايزال يصر على تجاهل حرب الاستنزاف، رغم الإنجاز العظيم الذى تحقق فى تلك الحرب والبطولات المذهلة للمقاتل المصرى بها.

فى المعارك الحربية يكون للقادة العسكريين دور حاسم، إذ يقومون على تحقيق النصر وتنفيذ الأهداف الاستراتيجية للدولة، لذا فإن سقوط القائد شهيدًا قد يكون بداية انكسار الجيش، هكذا كانت حروب العصور الوسطى، فى بعض المعارك كان يتم استهداف القائد أو عدد من القادة والرموز فينهار الجيش تلقائيًا، لكن قد يحدث العكس إذ يفجر طاقات الاستمرار، الثأر ومواصلة المسيرة، حتى تحقيق النصر وهو ما تحقق بالفعل لنا يوم السادس من أكتوبر العظيم.

تحول استشهاد القائد إلى نقطة مضيئة فى الضمير والوجدان المصرى إلى يومنا هذا.

صار يوم التاسع من مارس «يوم الشهيد»، والحق أن طريق الشهداء لم يتوقف يومًا، تصور بعضنا أن طريق الاستشهاد توقف بعد أن وقعنا معاهدة السلام مع إسرائيل فى مايو سنة 1979، المعاهدة أغلقت بابًا واحدا، لكن هناك أبوابا أخرى فتحت ولاتزال، أخطرها باب الإرهاب والإرهابيين من ميليشيات ضالة قد تكون غطاء للباب الذى أغلق مع معاهدة السلام، هى الوجه الآخر له. ولعلها ليست مصادفة أن تجعل تلك المجموعات الإرهابية من سيناء، الشمال تحديدًا، مسرحًا لعملياتها القذرة، أبناؤنا من الجنود يذبحون لحظة الإفطار فى الشهر الفضيل، اعتداء على المنشآت العامة وعلى حياة الآمنين. ركز الإرهابيون على سيناء، لكنهم راحوا يضربون فى كل موقع يمكنهم الوصول إليه، فى القاهرة وفى الصعيد، على حدودنا كافة، خضنا حربا طويلة وقاسية معهم.

ليست مصادفة أن جعلت تلك المجموعات الإرهابية شمال سيناء مسرحًا لعملياتها القذرة

فى السنوات الأخيرة قدمنا مئات، بل آلاف الشهداء فى عملية «حق الشهيد» فى سيناء، من رجال القوات المسلحة والشرطة المدنية، فضلًا عن المواطنين المدنيين الذين استهدفهم الإرهابيون الذين أرادوا تأسيس ولاية لهم فى شمال سيناء. على طريق عبدالمنعم رياض، سار الآلاف الشهيد أحمد حمدى وأحمد المنسى وأبوشقرا ومحمد مبروك، مع اختلاف المعركة وملابسات استشهاد كل منهم وموقعه، يبقى العنوان واحدًا الدفاع عن هذه الأرض واستقلال الوطن وسيادته، لم يسأل أى منهم عن العائد (الشخصى) ولا تساءل عن المقابل الذى سيتسلمه، فكروا بالكامل فى أداء الواجب عليهم نحو هذا البلد. وفى هذه اللحظة، نجد النيران تحيطنا من كل جانب، المشهد أمامنا فى فلسطين المحتلة منذ السابع من أكتوبر، قبل الماضى، ومن اللحظة الأولى قلنا إن مصر هى المستهدفة، وكل يوم يتكشف ذلك بوضوح تام.

وفى حدودنا الجنوبية، سعير مشتعل بين الأشقاء فى السودان، وعلى حدودنا الغربية فى ليبيا، الأمور ليست جيدة. صحيح أن خطوط مصر الحمراء حول ليبيا، كما أعلنها القائد الأعلى للقوات المسلحة فى يناير 2020، وسط قادة المنطقة الغربية، جعلت القائمين على الميليشيات ومموليها هناك، يراجعون أنفسهم كثيرًا، وقاموا بالتودد نحو الدولة المصرية، لكن الأمور هناك لم تستقر بعد، وهى مهددة بالانفجار فى أى لحظة. دورنا أن نعمل على إطفاء تلك الحرائق، حتى لا تهلك كل شىء هناك، حرصًا على الأشقاء، فضلًا عن أن بعض شررها قد يتطاير إلينا.

النيران ليست على الحدود فقط، لكن هناك جماعات الإرهاب، التى تستغل انشغال العالم بالقضايا الكبرى ثم تتسلل هى فى غفلة نحو مجتمعات ودول تستهدفها، ولا نكشف سرًا أن المجتمع والدولة المصرية على رأس أهداف تلك الميليشيات. طوال حرب الإبادة فى غزة، كان هؤلاء يتراقصون على أنغام بنيامين نتانياهو، وركزوا على دول الطوق: الأردن، سوريا، لبنان ومصر.

علينا بمقولة: «خلى السلاح صاحى».

بعيدًا عن منطقتنا وحدودنا، لنتأمل ما يجرى فى أوروبا، فى لحظة قرر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، أن بلاده ليست ملزمة بالدفاع عن «الحلفاء فى أوروبا». الحلفاء كانوا قد أهملوا جيوشهم استنادًا على الدفاع الأمريكى، الذى تبخر فى لحظة، فوجدوا أنفسهم عراة ومهددين، أو أن يقبلوا شروطًا مذلة وإتاوة باهظة من «الفتوة» الذى أوكلوا له حمايتهم، على طريقة رائعة كبيرنا نجيب محفوظ فى «الحرافيش»، لكن هذه المرة فى الواقع وفى «العالم الأول». بإزاء ذلك كله، لابد من الاحتفاظ بقوتنا الشاملة، فى المقدمة منها القوات المسلحة، مدربة وجاهزة لأى احتمال، دون رغبة فى عدوان ولا سعى نحو الحرب، لكن علينا بمقولة: «خلى السلاح صاحى».. وهذا يعنى أن طريق الشهادة سيبقى مفتوحًا أمام من يكتبها الله له.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *