الشهر: يونيو 2025

نحو شراكة مصرية إيرانية في مواجهة التحديات المشتركة.

د.نجلاء سعد البحيري

د.نجلاء سعد البحيري مدرس اللغة الفارسية وآدابها جامعة قناة السويس.

مقدمة تحليلية

في ظل التصعيد المتسارع الذي يشهده الإقليم بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل وما يصاحبه من توترات متشابكة على المستويين العسكري والسياسي فإن طرح أي رؤية استراتيجية للعلاقات الإقليمية لا بد أن ينطلق من قراءة واقعية للتوازنات الراهنة دون التسرع في استخلاص نتائج أو إطلاق أحكام

وبينما يبقى مستقبل الصراع مفتوحًا على سيناريوهات متعددة تظل مسؤولية العواصم الكبرى في المنطقة التفكير بعقلانية في آفاق ما بعد التصعيد ليس من باب القفز على المراحل بل من منطلق الاستعداد لتشكيل واقع إقليمي أكثر توازنًا واستقرارًا حال توفرت الشروط

وفي هذا الإطار لا تُطرح فكرة إعادة النظر في العلاقات المصرية الإيرانية كدعوة آنية لاتخاذ مواقف ميدانية بل كمقاربة استراتيجية طويلة المدى تستند إلى ثوابت السياسة المصرية في التوازن والانفتاح ورفض الاستقطاب مع الحرص على مراعاة حساسية الملفات ومراحل تطورها. فالتحولات الجيوسياسية الكبرى لا تفرض القطيعة الدائمة ولا التحالف الأعمى بل تدعو إلى بناء جسور عقلانية تُعلي من المصلحة الوطنية وتُبقي الخيارات مفتوحة دون تنازل عن المبادئ

أولا من الجمود إلى الحوار مقاربة جديدة للعلاقات المصرية الإيرانية

رغم عقود من البرود في العلاقات إلا أن المرحلة الراهنة تكشف عن مؤشرات لتهدئة دبلوماسية وتحرك حذر نحو بناء قنوات اتصال مباشرة وغير مباشرة تعكس إدراك الطرفين لأهمية الانفتاح والتعاون الانتقائي في ملفات بعينها. وتُسجل الأعوام الأخيرة تواصلا غير معلن عبر قنوات سياسية وفنية تناولت موضوعات إنسانية وتنموية بعيدا عن الشعارات أو الاستقطابات الحادة وهو ما يشير إلى توجه متدرج نحو تطبيع مرن يأخذ في الحسبان اعتبارات السيادة والخصوصية الوطنية

ثانيا تحديات إقليمية تتطلب شراكة عقلانية

تشهد المنطقة أزمات معقدة تتجاوز قدرة الدول منفردة على التعامل معها وهنا تظهر الحاجة إلى تفاهمات إقليمية في القضايا التالية:

القضية الفلسطينية تمثل إحدى أبرز نقاط الالتقاء بين رؤى القاهرة وطهران خصوصا في ظل التصعيد الإسرائيلي ومشاريع التهجير والضم ورغم تفاوت أدوات التحرك إلا أن وحدة الموقف في دعم الحقوق الفلسطينية المشروعة تشكل أرضية لتقارب واقعي.

أمن الممرات البحرية يمثل مصلحة جماعية حيث تتفق رؤى الجانبين على ضرورة تحييد الممرات الحيوية من التوترات باعتبارها شريانا استراتيجيا للاقتصاد العالمي

ظاهرة الإرهاب العابرة للحدود تستوجب تنسيقا أمنيا مرنا يراعي خصوصية كل طرف ويؤسس لتبادل الخبرات في مكافحة التطرف والجريمة المنظمة.

صون المكون الثقافي والديني من محاولات التفكيك الطائفي يمثل مسؤولية مشتركة تقوم على إرث حضاري مشترك ورفض لتوظيف الانقسام المذهبي في خدمة مشاريع التفتيت

ثالثا لماذا الآن الفرصة الجيوسياسية الجديدة

تراجع الانخراط الغربي التقليدي في ملفات الإقليم وظهور قوى جديدة على الساحة الدولية دفع عددا من العواصم العربية إلى إعادة ترتيب أولوياتها وفق منطق الواقعية وتعظيم الاستقلالية. تأتي هذه الديناميكية متزامنة مع سياسة إيرانية أكثر مرونة تجاه الجوار العربي ومع ثبات الموقف المصري القائم على عدم الانجرار خلف الصراعات تبدو الفرصة مهيأة لمرحلة من الحوار المدروس والتنسيق المنضبط

رابعا الاقتصاد مدخل مستدام للشراكة

لا تكتمل أي مقاربة سياسية دون بُعد اقتصادي يدعم استقرار العلاقات ويعزز جدواها ومن أبرز مسارات التقارب الممكنة:

  • تطوير التعاون في مجالات الطاقة والدواء والصناعات الثقيلة
  • تنسيق مشاريع البنية التحتية الإقليمية بالشراكة مع دول المشرق العربي.
  • تبادل الخبرات في التكنولوجيا والزراعة والاستخدامات السلمية للطاقة.
  • تفعيل السياحة الثقافية والدينية لخلق تواصل شعبي حقيقي.

خامسا السياسة المصرية كصمام أمان للتوازن الإقليمي

تتحرك مصر في علاقاتها الدولية وفق منطق التوازن والانفتاح وتسعى لبناء علاقات قائمة على المصالح لا الإملاءات وهو ما يجعل تعزيز علاقاتها مع طهران جزءا من رؤية أوسع لإعادة إنتاج التوازن الإقليمي لا استبداله بمحور جديد. نجحت القاهرة في الجمع بين أطراف متباينة وهو ما يمنحها مكانة مميزة كطرف وسيط موثوق به لا كطرف صراع

سادسا من التحفظ إلى الشراكة الندية

تجاوز حالة التحفظ المتبادل بين القاهرة وطهران لا يعني بالضرورة تحالفا بقدر ما يؤسس لنموذج من التعاون الندي القائم على التكامل واحترام المصالح دون ذوبان أو استقطاب. ويفتح هذا الإطار المجال للتنسيق في ملفات حساسة مثل الوساطة الإقليمية وحوار الحضارات ومبادرات الأمن الجماعي دون أن يُفرض على أي طرف التنازل عن أولوياته

سابعا خلاصة استراتيجية

التقارب بين مصر وإيران ليس غاية في ذاته بل خطوة عقلانية في سبيل بناء شرق أوسط أكثر استقرارا وتوازنا في ظل تحديات متصاعدة وتراجع فاعلية المنظومات الدولية التقليدية. ومع توفر الإرادة السياسية والرؤية الواقعية يمكن للطرفين الانتقال من حالة الجمود إلى علاقة تعاون عقلاني تؤمن مصالح الطرفين وتخدم قضايا الأمة

خاتمة

بين القاهرة وطهران رصيد حضاري وإنساني ومصالح مشتركة يمكن البناء عليها بعيدا عن ضجيج الاستقطاب وخطابات الهيمنة. وفي عالم يتبدل بسرعة تبقى الحكمة والتوازن هما الضمانة الوحيدة لحماية مصالح الشعوب وصناعة مستقبل يستند إلى الاستقلال والندية لا إلى التبعية أو الصدام.

“علي خامنه اى” يُؤسِّس للحضارة الإيرانية في القرن 21

أ.د. مدحت حماد

أ.د. مدحت حماد، أستاذ اللغة الفارسية والدراسات الإيرانية، كلية الآداب، جامعة طنطا.

يوم الثلاثاء الموافق 4 يونيو 2025، ولمدة ساعة تقريبًا، وبمناسبة الذكرى السنوية لرحيل آية الله الخميني" مؤسِّس الجمهورية الإسلامية في إيران، ألقى "سيد علي خامنه اي" _مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران_ خطابًا إستراتيجيًا هو الثالث من نوعه منذ اختياره مرشدًا للجمهورية والثورة الإسلامية خلفًا للإمام الراحل آية الله الخميني في يونيو 1989، الخطاب الأول كان في سبتمبر 1994 حين دشَّن ووضع حجر الأساس للبرنامج الفضائي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، في أعقاب الخلافات التي كانت قد حدثت بين إيران وروسيا بشأن حصة ونسبة "المُكوِّن الإيراني في أول قمر صناعي كانت إيران قد قررت بنائه وتصنيعه بالتعاون مع روسيا، آنذاك رفض علي خامنه اى العرض الروسي وأصدر فتواة التي قال فيها: "على علماء إيران النُجباء الأتقياء المؤمنين المخلصين للجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يُحددوا لإيران أين ومتى وكيف تقف في الفضاء". أما الخطاب الثاني فكان في أبريل عام 2004 وهو الخطاب الذي كان قد دشَّن من خلاله "إطلاق البرنامج النووي الإيراني" أيضًا من خلال الفتوى التي قال فيها: "على علماء إيران النُجباء الأتقياء المؤمنين المخلصين للجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يمكنوا إيران من إمتلاك كافة عناصر منظومة التكنولوجيا النووية بما فيها تكنولوجيا الوقود النووي وتخصيب اليورانيوم".

لماذا هو "خطاب إستراتيجي"؟

عدة أسباب جوهرية هي التي جعلت من خطاب الرابع من يونيو 2025 "الخطاب الإستراتيجي الثالث"، هذه الأسباب هي كما يلي:

  1. أنه كان قد جاء في "ظرف وتوقيت استثنائي" غير مسبوق على صعيد مستقبل البرنامج النووي الإيراني.
  2. أنه كان قد جاء في خِضَم "أحداث إقليمية ودولية"، هي بمثابة "مخاض حقيقي" للنظام العالمي الجديد.
  3. أنه كان قد جاء في ظل انطلاق "مباحثات إيرانية أمريكية" غير مسبوقة حول البرنامج النووي الإيراني، وهي المباحثات التي كان من المفترض أن تؤدي في النهاية إلى خيارات حاسمة نوعية إستراتيجية حاكمة لمستقبل النظام السياسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
  4. أنه كان قد جاء "لتدشين عصر جديد" من عُمر الجمهورية الإسلامية، عصر يرتكز ارتكازًا مباشرًا على "القدرات التكنولوجية التقنية العلمية الإستراتيجية"، جمبًا إلى جمب مع "ولاية الفقه".
  5. أنه كان قد جاء للتأكيد على إحياء وتجديد "الثوابت العقائدية الدينية المذهبية الفكرية القومية والحضارية" للجمهورية الإسلامية الإيرانية "بصفتها المتحدث الرسمي للقومية والحضارة الإيرانية في القرن الحادي والعشرين"، وهي الثوابت التي كان قد أسسَّ لها "آية الله الخميني" قبل وأثناء وبعد قيام الجمهورية الإسلامية في إيران. هذه الثوابت هي "ثوابت جامعة شاملة كُليِّة" في مسيرة بناء حضارات الدول والأمم والشعوب، التي كان الإمام آية الله الخميني قد حصرها _وأورثها وزرعها وسقاها حتى صارت شجرة راسخة_ في ركيزتين قِيميَّتين دائمتين هما: "ولاية الفقيه" و: "نعم.. نحن نستطيع". فلقد شكلت هاتان الركيزتان القِيَّميتان "بوتقة واحدة" انصهرت بداخلها "جميع الطموحات والأحلام والتطلعات لجميع الشعوب والقوميات التي تعيش داخل الهضبة الإيرانية".
  6. أنه كان قد كشف ولأول مرَّة وبوضوح لا لبث فيه عن الأبعاد الحقيقية للطموحات والأهداف الإستراتيجية التنموية الدائمة في الخمسين عامًا القادمة.
  7. أنه كان قد أكدَّ على الجهوزية الإيرانية العسكرية وغير العسكرية للدفاع عن _وحماية_ مبادئها، أهدافها، طموحاتها ومنجزاتها العلمية التكنولوجية الاقتصادية التي أدركتها بعرق وأظافر جميع شبابها بعد عقود طويلة من الحرمان والمكابدة والصمود والتحدي.
  8. أنه كان قد قد رسم "خارطة طريق إستراتيجية" للأمة الإيرانية يجب تنفيذها وتحقيقها على أرض الواقع، من جانب جميع فئات وطبقات ومستويات وأطياف وقبائل وأعراق وقوميات التي تتشكَّل منها هذه الأمة، لأنها قد صارت "الأمة الإسلامية المُكلفة شرعًا لتهيئة الأرض لظهور إمام الزمان المهدي المنتظر" وهو ما نصَّ على ذلك دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي حظيَ بموافقة 99.5% من سكان إيران في يونيو عام 1979.

"الأبعاد/الأهداف" الإستراتيجية الرئيسية للخطاب.

بشكل محدد، يمكننا القول بأن ثمة "أهداف إستراتيجية" محددة هي التي دشنها "آية الله علي خامنه اي" في خطاب الرابع من يونيو 2025، هذه الأبعاد الإستراتيجية هي كالتالي:

أولاً: أنه من الآن فصاعدًا، عندما تريد القوى الدولية الكبرى _وبالتالي القوى الإقليمية_ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، أن تتكلم مع الجمهورية الإسلامية وبالتالي الأمة الإيرانية، يجب عليها أن "تتكلم معها بأدب، (مَن أنتم أيها الأمريكيون لكل تقولوا لإيران يجب وقف التخصيب وتفكيك برنامجكم النووي؟ مَن أنتم؟ يجب أن تتكلمون مع الجمهورية الإسلامية ومع الأمة الإيرانية بأدب).

ثانيًا: للجمهورية الإسلامية _وبالتالي الأمة الإيرانية_ أهداف وأحلام وطموحات مشروعة، هذه الأهداف والأحلام والطموحات، لن تتحقق إلا بسواعد وعقول الشباب الإيراني المؤمن التقي الوَرِع المخلص للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهؤلاء الشباب هُم الذين حملوا على عاتقهم بناء القدرات العسكرية الوطنية الإيرانية أثناء الحرب العراقية الإيرانية، والذين كانوا قد تمكنوا لأول مرّة من صناعة الصواريخ المضادة للدبابات والعربات المدرعة، لدرجة أن علي خامنه اي عندما زفَّ الخبر لآية الله الخميني، فوجئ بالفرحة والسعادة الغامرة التي ملأت وجه الإمام الخميني.

ثالثًا: "البرنامج النووي الإيراني هو قاطرة الحضارة الإيرانية" في القرن الحادي والعشرين، و"تخصيب اليورانيوم" هو "صمام الأمان" للبرنامج النووي الإيراني، ومن ثم "صمام الأمان للحضارة الإيرانية في القرن الحادي والعشرين". هذا ما جسده "علي خامنه اى" بقوله: "حتى لو امتلكنا مائة مفاعل نووي، ولم نمتلك "تخصيب اليورانيوم" فإن هذه المفاعلات المائة لن تساوي شيئا". هذا بخلاف دَور "تخصيب اليورانيوم" في تصنيع قضبان الوقود النووي اللازم لتشغيل المفاعلات النووية لإنتاج الطاقة، وكذلك في مختلف القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة، صناعة الدواء والفضاء.

طبعًا بخلاف "الدور السيادي الإستراتيجي" الذي يحققه امتلاك إيران لجميع عناصر ومكونات ومراحل التكنولوجيا النووية، ألا وهو تمكين القوات المسلحة الإيرانية من "الوجود والبقاء الدائمين في أعالي البحار من جهة والمنطقة القطبية الجنوبية "جنوب المحيط الهادي" من جهة أخرى، وذلك عبر الغواصات وحاملات الطائرات التي ستعمل بالطاقة النووية. الأمر الذي سيمكِّن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومن ثم "الأمة الإيرانية" من خلق أرجل راسخة لها على امتداد الكرة الأرضية بما من شأنه تحقيق الأهداف الإستراتيجية القومية الإسلامية العليا التي نصَّ عليها وحددها دستور 1979م.

وقف إطلاق النار غير المكتوب أو غير المشتمل على أية بنود، الذي تمَّ بين "أمريكا وإسرائيل" من جانب، وبين "الجمهورية الإلامية" من جانب آخر، ثمَّ خطاب النصر الذي ألقاه علي خامنه اى أمس الخميس 25 يونيو2025 وما اشتمل عليه من كلمات ومصطلحات فضلا عن صياغته ومكوناته ومضمونه ودلالاته، يرسخان لديِّ قناعة مفادها أن وقت إطلاق وتدشين المشروع الحضاري للجمهورية الإسلامية الإيرانية في القرن 21 قد إقترب موعده.

«الصحوة» والوعى بحقيقة الصراع.

د. محمد السعيد إدريس

د. محمد السعيد إدريس

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.

خيارنا هو: مواجهة المشروع الصهيونى - الأمريكى بأبعاده الاستعمارية، الإمبريالية، والدينية

إذا كان خيارنا فى مواجهة التحديات والمخاطر، التى وصفناها بأنها «استئصالية» لوجود الأمة العربية بأقطارها المختلفة، من خلال السعى إلى تفكيكها وإعادة تقسيمها إلى دويلات هشة وضعيفة عرقية ودينية وطائفية، بما يعنيه ذلك من استئصال لهويتها العربية، ناهيك عن مشروع استئصال مرتكزاتها الحضارية المتجذرة فى دينها الإسلامى، بالعمل على استبداله بدين آخر تلفيقى يسمونه «الدين الإبراهيمى»، فإن هذا الخيار يستلزم تبنى خيار المواجهة مع تلك المخاطر والتحديات المتضمنة فى المشروع الصهيونى - الأمريكى بأبعاده الاستعمارية والإمبريالية، وبأبعاده الدينية المتخفية فى أطروحات الحضارة الغربية.

«مثلث النهضة» الذى بدونه لن يكون لدينا أمل فى هزيمة المشروع الصهيونى – الأمريكى.

وإذا كان خيارنا مع هذا المشروع الصهيونى – الأمريكى هو «خيار مقاومة» وليس «خيار مهادنة» أو «خيار استسلام»، فإن المواجهة تكون بالعمل على تأسيس مشروع للمواجهة يكافئ ويوازن المشروع الصهيونى – الأمريكى، ويعمل فى الاتجاه المعاكس، والوعى أولاً بأن هذا المشروع الذى يجب أن يكون مشروعاً نهضوياً للأمة يرتكز على أسس حضارية وهوية عربية - إسلامية، والوعى ثانياً بأن الصراع أضحى «صراع وجود» إما أن ينتصر المشروع الصهيونى – الأمريكى ويعلى من وجوده وسطوته على أنقاض وجودنا نحن كدول عربية وكأمة وكمرتكز حضارى عربى – إسلامى، وإما أن ننتصر نحن ويندحر هذا المشروع الصهيونى - الأمريكى، وتحقق الأمة وحدتها وتكاملها مع جوارها الحضارى الإسلامى فى مشروع نهضوى، جديد يضم الأمة العربية والأمة الإيرانية والأمة التركية، أى إقامة «مثلث النهضة» الذى بدونه لن يكون لدينا أمل فى هزيمة المشروع الصهيونى – الأمريكى.

ربما يرى كثيرون أن مثل هذا الطموح ليس إلا «هذيانا رغائبيا» (قائم على الرغبة والتمني)، نظراً لأن الأمة العربية الآن فى حضيض الحضيض، بدليل كل هذا القتل والتدمير الإسرائيلى الممنهج فى غزة والتوسع لضم القطاع مع الضفة الغربية إلى كيان الاحتلال الإسرائيلى وسط صمت دولى وعربى وعجز عن فعل أى شىء، لكن ولأننا وصلنا إلى هذا المستوى الشديد الرداءة وغير المسبوق من تدنى المكانة والتأثير، فقد أضحى ضرورياً أن نتحرك وبجدية نحو بناء مشروع للصحوة الجديدة الكفيل بتحقيق الطموح فى إعادة تأسيس للنهوض العربى.

ربما يكون السؤال المهم هنا هو: كيف؟

الإجابة المباشرة هى الوعى بحقيقة الصراع الذى يستهدفنا والذى وصفناه بأنه «صراع استئصالي» للوطن وللأمة وللهوية، صراع لا يعترف بقانون ولا يحترم مواثيق بدليل أن من يصارعوننا ارتكبوا، تاريخياً، أبشع مجازر التاريخ، وليس لديهم ما يمنعهم من أن يرتكبوا المجازر نفسها فى كل بلد عربى لتحقيق أهداف الاستئصالات التى يريدونها، والأمثلة على ذلك كثيرة بشواهد وسجلات التاريخ .

- ففى ألمانيا اغتصب الأمريكيون مع الإنجليز والفرنسيين مليونى امرأة ألمانية فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وتسببوا فى وفاة 200 ألف امرأة بسبب الاغتصاب المتكرر.

https://www.youtube.com/watch?v=OXSQDDKf_wo&pp=0gcJCdgAo7VqN5tD

- فى حرب فيتنام قام الأمريكيون بقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونزعت أحشاء 3.000 شخص وهم أحياء، وإحراق 4,000 حتى الموت، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية.

- فى اليابان، قتلت القنابل ما يصل إلى 140 ألف شخص فى هيروشيما و80 ألف شخص فى ناجازاكى، وأضعافهم تشوهوا وماتوا بسبب الإشعاعات .

- فى الفلبين، حسب التحقيق الذى جرى فى الكونجرس فى جرائم الحرب فى الفلبين، تم إثبات قتل ما يقرب من مليون ونصف المليون مدنى.

- فى العراق: قتل 2 مليون مدنى ما بين شباب وأطفال ونساء وشيوخ، واغتصاب آلاف العراقيات بخلاف التعذيب الوحشى فى سجن أبوغريب.

وما يرتكبه الإسرائيليون فى قطاع غزة لا يقل بشاعة ولا وحشية حسب أحدث إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية التى تفيد باستشهاد 54 ألفاً و84 فلسطينية وإصابة أكثر من 123 ألفاً آخرين منذ السابع من أكتوبر 2023، ولا يزال آلاف الضحايا فى عداد المفقودين. وتشير بيانات الوزارة إلى أن إسرائيل: ارتكبت «14 ألف مجزرة بغزة، وتسببت بمسح 2483 عائلة من السجل المدنى بالكامل»، فيما بقيت 5620 عائلة ليس بها إلا ناج واحد .

ووفقاً للإحصائية ذاتها، يسقط طفل قتيل كل 40 دقيقة، وسيدة كل 60 دقيقة ، كما تشير إلى مقتل 16854 طفلاً منذ بداية الحرب بواقع 31.5% من أعداد الضحايا من بينهم 931 طفلاً كانت أعمارهم أقل من عام واحد.

هذه البيانات كافية لإعادة تخليق الوعى بمن علينا أن نواجههم ونقاومهم .

أمس الأول فقط تأكد استشهاد الدكتور حمدى النجار، متأثراً بإصابته، والد الأطفال التسعة الذين استشهدوا حرقاً واستقبلت أجسادهم المحترقة أمهم الدكتورة آلاء النجار التى كانت تمارس عملها فى معالجة الجرحى والمصابين بمستشفى ناصر فى خان يونس، وهى من استقبل الجثامين قبل أن تكتشف أنهم أبناؤها، وإن دل ذلك على شىء فهو دليل على جدية المشروع الاستئصالى الإسرائيلى، الذى شرح خلفيته العرقية اللواء «ديفيد زيني» الرئيس الجديد المعين من نيتانياهو رئيساً لجهاز الأمن الداخلى (الشاباك) فى تسريب نقلته «القناة 12» العبرية (25/5/2025) بقوله: «لدينا إنذار استخباراتى دائم بنيِّة مسلمين أشرار قتل يهود طيبين منذ أن ولد إسماعيل وحتى إشعار آخر».

هكذا يلخصون الصراع وامتداداته التاريخية ضدنا باعتباره «فريضة دينية» أولاً، ولأنه صراع مستقبلى بقدر ما هو صراع تاريخى.

الوعى بهذه الحقيقة هو المدخل الحقيقى للتأسيس لخيار الصحوة والمواجهة الذى يجب أن نسلكه وننخرط فيه حفاظاً على البقاء والوجود وأملاً فى مستقبل يليق بالمكانة التاريخية لأمتنا.

تساؤلات حتمية حول العلاقات المصرية الإيرانية؟

د. مدحت حماد.. أستاذ الدراسات الإيرانية جامعة طنطا.

أ.د. مدحت حماد

زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي إلى مصر، لم تكن زيارة عادية بأي حال من الأحوال. فرغم أنها زيارة لوزير الخارجية، إلا أنها حظيت بإهتمام ثنائي مصري إيراني، إقليمي ودولي غير متوقع على الإطلاق. أسباب ذلك كثيرة ومختلفة ومتداخلة ومتشابكة ومعقدة و... وهي تكاد تكون مرتبطة بالعالم بأسره، شرقه وغربه.. شماله وجنوبه، ولا عجب في ذلك، فالدولتان "مصر وإيران" هما من الأقطاب المغناطيسية الكونية التي تتعدد وتتقاطع مجالاتهما المعناطيسية على مستوى الكرة الأرضية. ما حدث بسبب وحول ونتيجة زيارة وزير الخارجية الإيراني يجعلنا نسأل: إذا كان هذا هو ما حدث نتيجة لزيارة وزير الخارجية الإيراني، فما الذي سيحدث عندما تكون الزيارة "هي زيارة رسمية لرئيس إيران إلى مصر؟".

بدر عبد العاطي وزير خارجية مصر.

ما السِر في حرص المسؤلين الأجانب لتناول "طبق الكشري المصراوي" في خان الخليلي بالحسين؟

مرة أخرى نعود لنسأل لماذا كل هذا الإهتمام، ولماذا جميع هذه التساؤلات المرتبطة بزيارة وزير الخارجية الإيراني إلى مصر؟ السؤال المهم هو: ما السِر في حرص المسؤلين الأجانب لتناول "طبق الكشري المصراوي" في خان الخليلي بالحسين؟ منذ بضعة أسابيع كان ماكرون، واليوم عباس عراقتشي، فما السِر وراء ذلك؟ ثم يأتي السؤال الأهم قبل كل هذا، وهو: أين وكيف وبواسطة مَن تم الإعداد لهذا التطور الهام في العلاقات المصرية الإيرانية؟ السؤال الآخر الأكثر أهمية هو: ما هي الآفاق والتوقعات والنتائج والتداعيات والمتغيرات التي ترتبت ونتجت أو ستترتب وستنتج عن هذه الزيارة؟ إلى أي اتجاه ستقود هذه العلاقات؟ لصالح مَن وضد مَن ستكون النتائج؟ ما هي الأطراف المؤيدة والمُرَّحِبة والمساندة لعودة هذه العلاقات؟ وما هي الأطراف الرافضة والمعارضة والمعادية لها؟ كيف ستكون ردود أفعال وتصرفات الدول الأولى؟ ونفس الأمر بالنسبة للدول الثانية؟ وإذا نجحت الدول الأولى، فكيف ستكون النتائج؟ وهل ستتمكن الدول الثانية، مرة أخرى، من إجهاض الأمل في عودة علاقات الدولتين وتشاركهما؟

عباس عراقتشي وزير خارجية إيران.

إلى أي مدى سيكون حرص الدولتين على استكمال طريق تأسيس علاقاتهما الاستراتيجية من جديد؟ وكيف سيتحقق ذلك؟ وما هو الوقت اللازم لإدراك الأمر؟ إذا أدركت الدولتان إقامة شراكة إستراتيجية بينهما، على حساب من ولصالح من سيكون ذلك؟ أصلًا ما هي النوايا والدوافع التي أخذت الدولتين نحو إعادة التواصل ومن ثم التقارب السياسي فيما بينهما؟ كيف سيكون التوافق وما هو المدى الزمني لذلك؟ وما هي دوائر ونطاقات التقارب بين الدولتين؟ هل تنازلت الدولتان عن ثوابتهما الإستراتيجية من أجل إقامة العلاقات الثنائية بينهما؟ أم أن هناك تصحيح ما في طبيعة إدراك كل منهما تجاه الأخرى؟وإذا كان ذلك كذلك، فما هي المصلحة الكبرى أو العُظمى التي ترقد متكئة على أسِرَّتها خلف النوافذ والأبواب؟

هل المتغيرات والمستجدات الإقليمية والدولية هي التي خلقت السبيل لذلك؟ أم أن صحوة تاريخية ثقافية حضارية هي التي أسست أو تؤسِّس لما هو قادم في الطريق؟ إذا كان نيتانياهو وترامب قد كشفا عن قرارهما بتغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط، فهل يمكن أن نعتبر أننا بصدد محور إقليمي مدعوم بمحور دولي يهدف إلى مجابهة أو إجهاض أو احتواء المشروع الصهيوأمريكي الخاص بالشرق الأوسط؟

السؤال الأخير هنا هو: هل إنتهت أو توقفت الأسئلة عند هذا القدر؟

بدر عبد العاطي وزير خارجية مصر وعباس عراقتشي وزير خارجية إيران.

عباسي عراقتشي يتناول "وجبة كشري مصرية" في خان الخليلي بالحسين.

عباس عراقتشي وزير خارجية إيران في خان الخليلي بالقاهرة الفاطمية.

رواية “حكاية إعدام جوزيف”. الحلقة الثامنة والأخيرة.

 تأليف د. ضيو مطوك ديينق وول

د. ضيو مطوك ديينق وول

المشهد الخامس عشر

وصل عثمان كمبوني مجانيين وسط الخرطوم جوار ميدان أبو الجنزير، وكان ذلك يوم الأحد الساعة العاشرة، حيث كان الازدحام شديداً، كانت تجرى في آن واحد دروس خصوصية للطلاب، واجتماعات عائلية، الصلوات إلخ.

 لم يعرف عثمان ماذا يفعل لكن استأذن أحد الحاضرين:

  • لو سمحت أنا آسف ممكن أسألك؟
  • تفضل يا أستاذ.
  • أنا عايز أتحدث لقس.
  • طيب خليه ينتهي من الصلوات وبعد داك بكلمك.
  • طيب تمام. شكراً.

 جلس قليلاً وبعد شوية القس أتى:

  • السلام عليك. انا القس ايمانيول فرانكو.
  • شكرا يا قسيس. أنا الرقيب عثمان خاطر من سجن كوبر.
  • سجن كوبرررر!!! القس مندهش، انت عايز شنو؟
  • لا خير يا أبونا. أنا جيت عشان نطلب منك الخدمة.
  • تفضل- القس- يرد بنوع من الإرتياح ويبتسم..
  • هناك شخص محكوم بالإعدام في السجن وربما يتم تنفيذ الحكم عليه قريباً، هو طلب مني الاتصال بأي قسيس عشان يصلي له، لأنه كذب بانه هو القاتل، وليس هو القاتل.
  • وليه عمل كدا؟
  • عشان عايز بن لادن يدفع له الدية، فطلبوا منه دخول الإسلام وبعد ذلك يمكن دفع الدية، لكن للأسف الشديد القصة طلعت خدعة من أقارب المرحوم في إدارة السجن.
  • طيب المطلوب شنو؟
  • المطلوب نمشي السجن عشان تصلي له إذا سمحوا لك بالدخول.
  • إذا رفضوا؟ انت عارف الناس ديل أكثر مني.
  • ممكن تصلي له وهو غائب. هل هذه الفكرة موجود عندكم؟
  • نعم، فكرة جميلة. في المسيحية ندعو للحرية والغفران للسجناء. أنا في خدمة الرب يا عثمان.
  • خلاص أنا برجع الشغل يوم الثلاثاء يمكن تحضر إلى سجن كوبر حوالي الساعة الواحدة بعد الظهر.
  • اتفقنا. أشوفك على بركة الله. لكن دقيقة. هل ممكن أسألك؟
  • تفضل أبوبا.
  • هل أنت مسيحي؟
  • أبداً. أنا مسلم.
  • وليه مهتم بالموضوع دا شديد كدا؟
  • عشان جوزيف مظلوم وكل الأديان بما فيها الإسلام ترفض الظلم.

  • خلاص فهمت القصد، الرب سيكون معك دائماً.
  • شكرا أبوبا. أشوفك ببركة الله.

المشهد السادس عشر

في يوم الثلاثاء الساعة الواحدة، يظهر القس إيمانويل ومعه شخص آخر أمام البوابة الرئيسية لسجن كوبر، لكن الحرس منعهما وطلب منهما الاتصال بالرقيب عثمان خاطر الذي سمح لهما بالدخول، وعند التفتش وجد القس يحمل معه الإنجيل فأثار حفيظة الحرس وطلب من القس ألّا يحمل الإنجيل إلى الداخل، لكن القس أصرَّ على الدخول بالكتاب المقدس. الحرس يرفض ويتصل بالإدارة، ووصل الأمر إلى المقدم يس في إدارة المعتقلات فأصدر أوامره ليس بترك الإنجيل في البوابة فقط، لكن أيضاً بعدم السماح للقس بالدخول.

وافق القسيس على المغادرة لكن طلب من الحرس خدمة. أن ينادي له الرقيب عثمان خاطر؟ فطلب الحرس عثمان.

عثمان يحضر واعتذر للقس وقال له يمكن إجراء صلاة الغائب؟

فسر القس له مفهوم صلاة الغائب عند المسيحيين، وقال:

  •  هي صلاة على الأموات بحضور الجثة أو بعدمها، لأن الصلاة للروح وليس الجسد.  يواصل: ربما يكون من غير الأخلاقي أن نقيم صلاة الغائب لشخص ما يزال على قيد الحياة حتى ولو ذاهب إلى حبل المشنقة غداً. بكل التاكيد سنصلي لجوزيف عشان ربنا يغفر خطاياه، وهي صلاة نقيمها لأي مؤمن يطلب التوبة والغفران، خاصة السجناء والمرضى والمضطهدين، كل هذه الطقوس موجودة في تقاليد العائلات المسيحية. أنا أفهم بأن جوزيف محتاج للصلاة وسيواجه الموت قريباً. هو سيكون في صلواتي دائماً.

         يطلب القس الاسم كاملاً للمتهم وتفاصيل مشكلته ويقدم النصيحة أن يصلي جوزيف ويصوم، ثم غادرا.

في يوم الأحد، بكمبوني مجانيين، أًدرج اسم جوزيف جون في الصلاة المؤمنيين وهي طلبات يقدمها المصلُّون من أجل المحتاجين للخدمة الإلهية.

  شارك الحاضرون في الصلوات وقدموا الذبيح من أجل جوزيف ليغفر الرب خطاياه.

الغريب، أن القلائل الذين حضروا الصلوات من منطقته اتوكطو، لم يعرفوا قصة جوزيف، ربما الكثيرين منهم لم يكونوا في الخرطوم آنذاك عندما وقع الحادث قبل ستة سنوات، ولذلك لم يعرفوا شيئاً عن الشخص الذي يطلب القسيس ايمانويل الصلاة من أجله.

الفصل الرابع والأخير

المشهد السابع عشر

بعد غياب طويل في رحلة إلى جمهورية مصر العربية استغرقت ثلاثة أشهر، رجع انطوني كوين إلى السودان في نفس الرحلة التي تعرض فيها للاعتقال من قبل جهاز الأمن الوطني في وداي حلفا، بسبب تساهل السلطات المصرية معه في وقت كان السودانيون يتعرضون إلى الضرب والتفيش الشديدين من قبل السلطات نفسها.

ولذلك السبب تعرض انطوني كوين للضرب والاعتقال لمدة ثلاثة أيام بمعتقلات جهاز الأمن الوطني بوادي حلفا انتقاماً من تصرف الأمن المصري ضد السودانيين بميناء أسوان النهري.

هذه ليست أول مرة يتعرض فيها أنطوني كوين لمثل هذه الاعتقالات، حيث كان يتبوأ منصباً قيادياً في رابطة الطلاب الجنوبيين بالجامعة.  فقد اعتقل بمجمع الرميلة التابع لجامعة جوبا ضمن الطلاب الجنوبيين الذين قاموا بمظاهرات ضد سياسات التعريب بالجامعات السودانية، لا سيما جامعة جوبا التي كانت التدريس فيها باللغة الإنجليزية، لكن النظام في الخرطوم أجبر الأساتذة والطلاب على التعلم باللغة العربية.

كل هذه الأشياء كانت تحدث باستمرار للطلاب الجنوبيين في الجامعات السودانية، خاصة لرابطة الطلاب الجنوبيين بجامعة جوبا (جوسا)، والجبهة الوطنية الإفريقية بجامعة الخرطوم (ANF)، وكل الروابط وجميع التنظيمات الطلابية الجنوبية بالجامعات الأخرى.

كل هذه الأفعال تهدف إلى التغيير الديموغرافي وتنفيذ المشروع الحضاري وتحقيق مجتمع عربي مسلم يدين بالولاء للعروبة والإسلام في السودان.

المهم، لنعود إلى زيارة السجن، حيث وصل أنطوني كوين الخرطوم يوم السبت، وفي يوم الأحد حوالي الساعة الحادية عشر سجل زيارة إلى سجن كوبر لمقابلة السجين جوزيف جون الذي لم يره خلال الأشهر الثلاثة التي قضاها بمصر، ليفاجأ بأن جوزيف غير موجود في المعتقل.

يصل المدخل الرئيس المخصص لإجراءات الزوار يجد حرساً ويلقي عليه السلام:

  • السلام عليكم.
  • وعليكم السلام.
  • أنا عايز نعمل لي اجراءات الدخول.
  • انت ماشي لمنو؟
  • عايز أزور السجين جوزيف جون.
  • جوزيف جون؟ الزول دا ما أُعدم من زمان.
  • أُعدم؟
  • نعم أُعدم قبل شهر كدا. انت ما عندك خبر؟
  • أبداً. كنت خارج البلد.
  • أوكي، الزول دا مات.
  • طيب ممكن تطلب لي الرقيب عثمان خاطر؟
  • عثمان خلى الشغل.
  • ليه خلى الشغل؟
  • قدم استقالة قبل أسبوعين.
  • طيب انت عارف مكانه؟
  • أبدا. لكن بقولو هو ساكن الحاج يوسف شارع واحد، بجوار آخر محطة.
  • شكراً لك.

ثم غادر أنطوني كوين.

المشهد الثامن عشر

أنطوني كوين يصل آخر محطة الحاج يوسف شارع واحد، ويسأل الشاب الذي كان موجوداً في المحطة، ليخطره أحدهم بأنه هو شقيق عثمان الأصغر وأخذه إلى منزلهم.

عثمان يسقبل أنطوني كوين ويبكي بشدة، ويقول:

  •  الله يرحمه. تعال نجلس هنا.

 يمسك بيده إلى الصالون وشقيقه الأصغر يأتي بمياه الشرب.

يسأل أنطوني كوين: يا عثمان، كدى أحكي لي الحاصل؟

  • طيب التنفيذ تم كيف؟ لأن أفراد الأسرة كلهم مافي زول عنده خبر.
  • قبل الإعدام بيوم طلب مني وشخص آخر مرافقة المتهم إلى منزل أحد أقاربه. جوزيف قال نمشي لخاله اللواء مورس تونق في الطائف، لكن للأسف الشديد لم نجده في المنزل، انتظرنا في المنزل لأكثر من الساعة لكن جاءنا شاب وقال إن والده غير موجود في المنزل، فخرجنا وعدنا إلى السجن وكنت فاكر بأنه سيخطر والده بزيارتنا حتى يصلنا في السجن لكن لم يحدث. وفي اليوم التالي عند الفجر تم اقتياد جوزيف إلى المشنقة وتم اعدامه. هو وانطوني كوين يبكا.
  • طيب وصيته كان شنو؟
  • ابدا، هو حزين شديد بوقوعه في خداع يس، وهو غير نادم لموته لأنه هو عارف لم يرتكب جريمة القتل، لكن الشيء المعذبه هو الكذب الذي وقع فيه وقبل بموجبه أنه القاتل واشهاره للاسلام، ولذلك كان يريد أن يحكي هذه القصة لخاله حتى يخطر والدته بانه لم يرتكب جريمة القتل.
  • وليه ما حكي هذا الكلام لولد خاله الذي وجدتوه في المنزل؟
  • والله أنا ما عارف لكن كان مستاء للغاية من الموقف، وطلب مني أن آتي بقس إلى السجن للتوبة والصلاة وحاولنا فعلا لكن لم يلتقِ بالقس. الكويس القسيس ايمانويل قال سيصلي له وعلمت فيما بعد بانه أقام الصلاة بكمبوني مجايين. يتقبله الله.
  • يعني همه فقط يحكي هذه القصة؟
  • نعم دا كلامه.
  • انا بحكيها.
  • طيب خليني نسألك؟
  • تفضل.
  • ليه انت خليت الشغل؟
  • انا تأثرت بالظلم اللي وقع فيه هذا الشخص الطيب. أنا عارف جوزيف لم يكن هو القاتل لكن ظلم الدينا أخذ حياته. أنا غير مرتاح في السجن بالذات لمن نشاهد الزنزانة التي كان يقضي فيها جوزيف عقوبته غير العادلة. ثانيا بقيت ملاحق من قبل المقدم يس وخايف نقع في مشكلة معه لاني والعقيد معاوية مصنيفين باننا ضد الكيزان. ثالثا، والدتي من الدينكا، كان الوالد يعمل في شرطة السكك الحديد في بحر الغزال وتعرف علي والدتي فاطمة نواي، وتزوجها، فأنا شايف جوزيف زي خالي.
  • والله كلام غريب يا عثمان انا من زمان شاعر بحاجة يربطك بـ جوزيف، لكن دا شنو انا ما عارفه، قلت ننتظر نشوف. طيب انا عايز اشوف قبر جوزيف هل ممكن ؟
  • ليه لا، ممكن نمشي بكرة. خلينا نتلاقي في كمبوني مجانيين الساعة العاشرة الصباح.
  • كلام جميل. آخر حاجة. هل الوالدة موجودة؟
  • نعم موجودة.
  • طيب ممكن نسلم عليها؟
  • جدا؟ يا ماما- ينادي.

الحاجة فاطمة تدخل وهي امراة طويلة القامة، داكنة اللون تظهر في جبهتها الشلوخ، تتحدث بلغة الدينكا. بحرارة شديدة تحي:

  • السلام عليك ياولدي.

أنطوني كوين يرد: وعليكم السلام عمتي، ويعرف نفسه لها.

  • انت من عائلة أرومجوك؟
  • نعم عمتي. انتي تعرفي هذه العائلة؟
  • نعم هم سلاطين منطقتنا، اتوكطو.
  • انت من اتوكطو؟
  • نعم انا من العشيرة فاتييك وأسمي أباك نووي لكن الآن معروفة ب فاطمة نواي.
  • طيب انت عارفة العمدة جون باك؟
  • كيف لا نعرفه؟ العمدة جون باك دا أخوي قريبي.
  • المرحوم جوزيف دا ولده.

 تمسك يد انطوني وتبكي شديد.

  • انت عارف، عثمان حكي لي قضية جوزيف دا، لكن ما عرفت دا ولد أخوي جون باك.

تبكي للمرة الثانية...

  • معليش عمتي الدنيا ظالمة، الله يرحمه ويغفر له. أنا عرفت البيت سأزوركم المرة الجاية. اشوفكم ببركة الله.  انطوني كوين يختم حديثه.
  • يلا خلاص مع السلامة نتلاقي بكرة يا عثمان.

في اليوم التالي، عثمان يحضر الكمبوني ويذهب مع انطوني كوين إلى مقابر المسلمين بالصحافة لزيارة قبر جوزيف. في المقابر انطوني كوين يوعد عثمان بأنهم كعائلة سيعمل من أجل نقل القبر إلى مقابر المسيحيين إذا سمحت السلطات بذلك وهو الطلب الذي قوبل بالرفض من قبل الإدارة المحلية لاحقاً.

***

المشهد التاسع عشر والأخير.

في منتصف سنة 2002 قرر النظام التوقيع على تقرير المصير في جنوب السودان مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وإجراء الإستفتاء في نهاية الفترة الانتقالية التي مدتها ست سنوات، وكلف شخصية مؤثرة في الدولة والتنظيم بقيادة الملف في خطوة وصفت بالجدية.

وفي الترتيبات الأمنية، وافق الطرفان على إنشاء قوة مشتركة لحماية المدن الرئيسية والشخصيات الهامة، وتم إرسال 1500 مقاتل من الجيش الشعبي إلى الخرطوم من بينهم يوسف مارتن الذي قتل محي الدين أحمد شريف في اللاماب وفرَّ مع صديقه باتجاه الرميلة، ومنها سافرا صباح اليوم التالي إلى جنوب السودان عبر كوستي وانضما إلى الجيش الشعبي.

أيضاً كان من بين البنود المتفق عليها العفو العام على مقاتلي الجيش الشعبي في الجرائم السياسية المرتكبة ضد الدولة، ولم يشمل العفو الجرائم ذات الطابع الشخصي، إلا أن أسرة المرحوم جوزيف جون اتفقوا على قفل هذا الملف وعدم إثارة الموضوع، سائلين الرب أن يرد ظلمه ويسكنه في ملكوته، لكن سرد هذه الحكاية- كما جاءت في وصيته- أصبحت وعداً للأحياء ولازم تُحكي حتى يشعر بالراحة الأبدية.   

صور من حفل توقيع وتدشين الرواية الذي أقامه مركز الفارابي للدراسات السياسية والتنموية بالقاهرة

مَن هو الدكتور ضيو؟

د. ضيو مطوك ديينق وول

عمل الدكتور ضيو مطوك ديينق وول، أستاذاً مشاركاً بمركز دراسات السلام والتنمية في جامعة جوبا.

– يعمل حالياً وزيراً للاستثمار، وهو مقرر "لجنة وساطة السلام حول الصراع السوداني المسلح".

– مُنح الدكتور وول جائزة السلام وسُمِي سفيراً للسلام من قبل اتحاد السلام الدولي لدوره في وساطة السلام السوداني في العام 2020م.

نشرت له العديد من المقالات العلمية في مجال دراسات السلام وفض النزاعات في الدوريات العالمية.

نشر له عن دار النخبة:

الرعي، الحدود والنزاعات: الإدارة وإدارة النزاع في الـ 14 ميل.

سياسة التمييز الإثني في السودان.