الدكتور مدحت حماد: نحو هُويِّة مصرية جديدة.
على مر التاربخ المصري الطويل، تشكلَت هُويِّة وشخصية مصر، سواء كان ذلك في عصور ما قبل التاريخ المكتوب أو ما تلاه من عصور. ولقد ظلَّت هذه الشخصية وحتى الآن، متفرده في طبيعتها وفي خصائصها، كينونيتها، ماهيتها، طباعها، وقناعاتها و... إلخ حتى أن البعض يُطلق على الشخصية المصرية، أو على المصريين أنفسهم عبارة شهيرة جدًا لكنها تكاد تكون أصح العبارات الواصفة للشخصية المصرية، أو لشخصية المصريين أنفسهم، تقول العبارة: "الشعب المصري دا ملوش كتالوج!!" يعني لا توجد خارطة طريق ثابتة مستقرة لفهم وتوقع تصرفات وسلوكيات وممارسات وأفعال المصريين خصوصًا في "وقت الأزمات".
في أحدى أغنيات على الحجار -اسمها "عَم بطاطا"- توجد بعض الجمل يمكن ذكرها هنا، تقول: "عَم بطاطا؟ لذييييذ ومعسسسِّل، عُمرُه مَطَاطَا لغير الله... عَم بطاطا يِذُك الذَكَّة يُعبر سينا ويفتح عكا ..." إلى آخر الأغنية. طبعا تصف كلمات الأغنية بعض صفات للمصريين، أنهم لا يطاطون رؤسهم "إلاَّ لله"، حى وإن بدا عليهم ما قد يخالف ذلك. كذلك، فإن "عَم بطاطا" -يعني المصريون- يقدر ببساطة وهوَّة "بيِذُك الذَكَّة، يعني "يمشي على رجليه ويخطو الخطوة وهو مريض"، يقدر أنه "يعبر سيناء"، وكمان إيه؟ دا كمان "يفتح عكا" في فلسطين!!! يعني له هدف وطموح، وله إرادة وعزيمة، ومتى قرَّر ينفِّذ.
بالضبط كما حدث في حرب أكتوبر 1973 وغيرها من الأحداث، أو عندما قام بثورتين شعبيتين من أكبر ثورات التاريخ المصري، خلال الفترة من 25يناير 2011 وحتى 30يونيو2013، الأولى كانت ضد نظام حُكم كان يترأسه قيادة عسكرية، "الرئيس الأسبق حسني مبارك"، والثانية كانت ضد نظام حكم يترأسه "حاكم مدني قادم من تنظيم ديني، هو تنظيم الإخوان المسلمين"، ليعود المصرييون من جديد لتأييد تولي قيادة عسكرية جديدة رئاسة الدولة المصرية!!!
الخلاصة إن هذه الشعب، الشعب المصري، يِظهَر إنه فعلاً "ملوش كتالوج". لكن هذا الأمر قد يكون في حد ذاته أهم مؤشرات "ضياع أو فقدان الهُويِّة الوطنية". لماذا؟ لأن هذا الأمر يمكن أن يخلق ثغرات تنفذ منها هويَّات ثقافية وحضارية أجنبية غريبة وافدة. مثلًا: كلنا يعرف أن المصريين ثاروا ضد المَلَكيِّة، ودعموا الضباط الأحرار في 1952، لكن مع ذلك فإننا نشهد حنينًا بين الحين والآخر لهذه "المَلكيِّة" من جاب بعض المصريين! ليس هذا فحسب، بل إن هناك ما هو أخطر من ذلك كله، فجميعنا يُلاحظ حالة الإختراق الثقافي التركي العثماني لوجدان وثقافة المصريين خلال العقود الأخيرة سواء نتيجة للمسلسلات التليفزيونية، أو نتيجة للصلات الوثيقة التي تربط تركيا بتنظيم الإخوان المسلمين، أو نتيجة لتأثر الدارسين للغة التركية بالجامعات المصرية وكذلك المصريين المرتبطين في أعمالهم وأرزاقهم، تأثرهم بتركيا في اطار العلاقات الاقتصادية المصرية التركية التي يقترب عمرها من 30 عامًا.
مع ذلك هناك من يتباهى بميوله التركية _حتى وإن قام بنفي ذلك رسميًا_ وهناك من يتمنى عودة الملكية العثمانية في اطار فكرة "الخلافة الإسلامية". هذا الأمر نفسه ينصرف كذلك على الذين يدروسن اللغات الصينية، الألمانية، الروسية، الفرنسية، وبالقطع الإنجليزية، وهو ما بات يزداد رسوخًا في الوعي المجتمعي المصري، عبر ومن خلال ظاهرة انتشار الجامعات الأجنبية في مصر، التي كانت مقتصرة فقط إلى وقت قريب، على الجامعتين: الأمريكيىة والبريطانية، بل إن الأمر امتد كذلك إلى اللغة اليابانية، التي بدأت في الإنتشار من خلال نموذج "المدارس اليابانية" في مصر، خلال الخمس سنوات الماضية فقط.
هنا تتجلى وتنكشف مؤشرات ومقدمات لِأَزمِة هُوية حتمًا سَتُطِل برأسها في المجتمع المصري خلال عقدين على الأكثر، أي مع اكتمال بناء "الجيل الأول" من المصريين الدارسين في المدارس والجامعات الأجنبية الأجنبية العاملة في مصر.
من الأسباب والعوامل التي تساعد بل وستساعد في ترسيخ "أزمة الهويَّة" يمكن ذكر ما يلي:
1- تعدد أنماط التعليم الجامعي في مصر، ما بين حكومي عام، حكومي أهلي، خاص مصري، خاص أجنبي وأهلي خاص.
2- عدم وجود "إستراتيجية ثقافية" محددة وواضحة الأسس والمعالم والمرتكزات والأهداف إلخ.
3- تدهور العملية التعليمية في جميع أنماط وأنواع التعليم ما قبل الجامعي، سواء على صعيد البناء العلمي، أو المعرفي، أو الثقافي، إلخ
4- التراجع الكبير في الإهتمام بعملية "بناء الوعي الثقافي الحضاري المصري" داخل أروقة وفصول التعليم ما قبل الجامعي، وهو ما يجسده عدم الاهتمام الفعلي الحقيقي بتدريس المقررات المرتبطة بذلك مثل التربية الوطنية.
عشرات الأسباب والعوامل القائمة فعليًا في المجتمع المصري، تكشف دون لبث أو شك عما نتناوله في هذا الصدد.
إن القيام بعمل إجراء أو استطلاع رأي بين جموع وعموم المصريين حول مدى وجود وضوح وتبلور حقيقي صحيح بشأن "الهُويِّة المصرية" لديهم سواء من حيث المعنى والمفهوم، أو من حيث "ثوابت الهُوية" التي يجب تحققها داخل كل مصري، أو من حيث طبيعة ونوع التهديدات التي يمكن أن تصيب "الهُوية المصرية"، إلى غير ذلك، من شأنه أن يكشف لنا عن حقائق مذهلة في طبيعتها السلبية، ومرعبة في نتائجها، ومخيفة ومفزعة في مخاطرها وتهديدها للسلم والإستقرار والأمن الجمعي المجتمعي الإجتماعي لمصر وللمصريين.