مركز الفارابي للبحوث والدراسات التاريخية

رواية “حكاية إعدام جوزيف”. الحلقة السادسة.

تأليف تأليف د. ضيو مطوك ديينق وول

د. ضيو مطوك ديينق وول

الفصل الثالث

المشهد الحادي عشر

بعد المؤتمر العالمي الإسلامي في الخرطوم، اعتمدت الدولة سياسات جديدة تحت شعار "المشروع الحضاري"، وهي فكرة تدعو للعودة إلى جذور وتقاليد الدولة الإسلامية الأولي.

 تم تصنيف الغرب والمسيحية والجنوبيين بأخطر أعداء الإسلام. تم تجميد العلاقات مع أميركا وكثير من الدول الأوربية وكل ما له علاقة بهذا المحور. تم تصنيف الولايات المتحدة كعدو رقم واحد، طبعاً بعد إسرئيل التي قاطعتها السودان منذ قمة اللاءات الثلاثة بالخرطوم؛ لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني.  وظهرت على السطح الأغنيات الجهادية لرفع معنويات المقاتلين، مثل أنشودة "أنا المسلم" لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، حيث تقول القصيدة:

 دستوري ومنهاجي كتاب الله

 وقائد دربي الهادي محمدنا رسول الله

ودارى موطن الإسلام ما دوَّى نداء الله

وأهلي أمة الإسلام هم حزبي وحزب الله

إلي آخر بيت في القصيدة.

أيضاً أنشودة:

  يا أمريكان ليكم تدربنا

دولتنا ليس بنما

ورئيسنا ليس نورييغا

 (في إشارة إلى حرب أميركا ضد بنما واعتقال إيمانويل نورييغا رئيس بنما الأسبق).

في هذا الظرف الدقيق من تاريخ السودان والمشحون بالحماس الزائد الذي يتجاهل وجود الجماعات الإثنية والدينية غير العربية والإسلامية، تم إصدار المراسم الجمهورية لتنظيم المجتمع وتغيير المشهد في الشارع وفرض الزي الإسلامي خاصة الحجاب للفتيات داخل مؤسسات الدولة والجامعات والمدارس، والتدريب العسكري الإلزامي لجميع العاملين في الدولة خاصة قيادات الخدمة المدنية. وتم فرض الصلاة كواجب يقوم به أي عامل في الدولة. تم إلزام المؤسسات بإنشاء المساجد والمصليات داخل المقرات وعمل رقابة للذين لا يقيمون الصلاة بحيث يتم إحالتهم إلى المعاش. ولم تسلم القوات النظامية من هذه الإجراءات بل كانت الأكثر تأثراً.

 فُرض الحظر على ترخيص الكنائس ومراقبة أنشطتها ومصادرة مبانيها خاصة مبني الكنيسة الكاثوليكية الواقعة على شارع المطار التي أصبحت دار حزب الموتمر الوطني نتيجة لموقعها الاستراتيجي، بحجة أن وجود الكنيسة في هذا الموقع الاستراتيجي يدحض فكرة دولة إسلامية في السودان، وهي نفس الفكرة التي كادت تقضي على حياة الرقيب سانتو، أثناء زيارة بن لادن والظواهري إلى معسكرات المجاهدين بكادوقلي.

الجهات القضائية كانت على رأس قائمة المؤسسات التي تضررت كثيراً، حيث شهدت إحالة كبار القضاة إلى التقاعد وتعيين عناصر أخرى موالية للنظام. تمت مراجعة النظام القضائي، بما في ذلك القضايا التي تم الحكم فيها بغرض تجريم الخصوم والقضاء عليهم أو إدخالهم السجون.

تأزم الوضع في الجنوب وجبال النوبة والانقستنا، فتم استنفار المجاهدين بغرض القضاء على التمرد في هذه المناطق وتشريد المواطنين، وهو امتداد للبرنامج الذي بدأه الصادق المهدي وشهد التطور الخطير في مدينة الضعين بجنوب دارفور، ووصل الأمر إلى حرق المواطنين الجنوبيين أحياءً داخل عربات القطار بالسكك الحديد، كما شهدت المنطقة هجمات المراحيل واختطاف آلاف الأطفال والنساء من الضحايا، وما يزال كثير منهم يقيمون في كردفان ودارفور.

         في الاستوائية شهد الإقليم حرباً مدمرةً بتفويج كتائب الجهاد، بدأت بالطلاب الذين يريدون الإلتحاق بالجامعات، حيث فرض عليهم القتال قبل الالتحاق بالجامعات كجزء من الخدمة الإلزامية العسكرية. يلاحظ أن هؤلاء المجاهدين في مناطق العمليات الحربية كانوا ينتقمون من المواطنين كلما تم هزيمتهم من قبل الجيش الشعبي في المعركة. هذا حدث في جوبا والمناطق الأخرى. علاوة على استغلال بترول الجنوب في الحرب ضد شعبه بالتعاون مع بعض المليشيات التي تم تدريبها وتسليحها لزعزعة الاستقرار في الجنوب.

         كما حدث استهداف ضد الجنوبيين بالخارج بالترصد، واعتقال العائدين منهم إلى البلاد في جرائم تافهة لا ترتقي إلى مستوي الجرائم ضد الدولة، حيث تم اعتقال انطوني كوين ابن خال جوزيف في وادي حلفا بعد عودته من مصر، بحجة أن المصريين تساهلوا معه في إجراءات السفر بميناء أسوان النهري، والسبب بسيط؛ أثناء السفر كانت السلطات المصرية تشدد الإجراءات ضد المسافرين إلى السودان نتيجة لفتح السلطات السودانية البلاد للجماعات الإسلامية وتوتر العلاقة بين الدولتين، فقرر الأمن المصري تشديد إجراءات تفتيش المسافرين إلى السودان. وعندما جاء دور انطوني كوين، ضابط الأمن المصري قدم له التحية وطلب منه الجواز دون أي إجراء أو تفتش وقال له.

  • يا انطوني كوين تعال اركب فين حقيبتك؟

انطوني كوين صعد الباخرة دون تفتيش في ظل التشدد على الركاب السودانيين الآخرين. هذا لم يعجب أفراد الأمن السوداني الذين كانوا في نفس الرحلة داخل الباخرة. فعندما وصلت الباخرة وادي حلفا جاء ضابط أمن سوداني وقال: وين المعرص الاسمو أنطوني كوين فيكم.

الصمت يخيم بالمكان. وبما ان انطوني كوين هو الجنوبي الوحيد في الباخرة الضابط اتجه اليه وقال:

  • موش انت انطوني كوين؟
  • نعم انا انطوني كوين.
  • ومالك ساكت؟ قوم فوق. وين شنطتك؟
  • هنا شنطتي... انطوني كوين يرد.
  • يلا اطلع معي.

 ينهض ويخرج مع الضابط إلى العربة وتم اعتقاله لمدة ثلاثة أيام دون جريمة، فقط لأن الأمن المصري لم يفتش عليه. هذا كان حال الجنوبيين في بلدهم السودان.

أيضاً في الكلاكلة، تم إعدام سبعة أشخاص من أفراد أسرة واحدة بتهمة قتل صاحب بقالة، وهي جريمة كيدية فقط لأن هولاء الناس جنوبيين رغم عدم وجود علاقة لهم بالجريمة.     

كل هذه العوامل والسياسات الأخرى- التي لم يتسع المجال لذكرها هنا- جعلت الجنوبيين يقررون التصويت لصالح الانفصال في الاستفتاء على تقرير المصير وقيام دولتهم، جمهورية جنوب السودان، عام 2011.

***

المشهد الثاني عشر

تأثرت القضائية والنيابات العامة والشرطة وكل المنظومة العدلية بسياسات الثورة الجديدة، حيث تم فصل القضاة والمستشارين القانونيين وتعيين آخرين موالين للنظام بدلاً عنهم.

أيضاً تم دمج القوات النظامية، خاصة الشرطة والسجون وحرس الصيد والمطافي، تحت قوة واحدة أطلق عليها "الشرطة الموحدة" يستطيع الضابط الانتقال بين وحداتها دون قيد، مما يسهل فصل عناصرها غير الموالية للنظام وتعيين أصحاب الولاءات مكانهم. فتم فصل معظم القضاة وتعيين آخرين موالين للنظام في المحاكم وكذلك في السجون.

المقدم يس ابن خال المرحوم محي الدين، تم تعيينه في سجن كوبر مسؤولاً عن الزنزانات والمعتقلين السياسيين. هذه التغييرات حدثت أيضاً في المؤسسات الأخرى.

ومنذ وصول يس إلى إدارة السجن، تغيرت ظروف السجين جوزيف جون إلى الأسوأ. ومن ذلك تشديد الزيارة له إلا بطلب منه شخصياً. جوزيف لم يجد المعلومات من الخارج كما كان يحدث في السابق وتم حظر كل من يتعامل معه، وإلا سيتم فصله.

         لم يعلم أحد داخل السجن بالعلاقة الأسرية بين المرحوم محي الدين والمقدم يس إلا بعدما تم تنفيذ عقوبة الإعدام ضد جوزيف. الرجل استخدم خلفيته السياسية والإسلامية لعمل برنامج زيارة الشيخ أسامة بن لادن إلى السجن والإلتقاء بالسجناء ويطلب منهم تقديم الاعترافات بما فعلوه من الجرائم، ويمكن له بعد ذلك دفع الديات أو الغرامات للسجناء العاجزين عن السداد بعد كل هذا الابتزاز.

فعلاً بن لادن وصل سجن كوبر في زيارة كانت تعتبر للبر والإحسان- حسب قراءاته الشخصية- إلا أنها كانت كارثية للمتهم جوزيف جون الذي كان يعتقد بأنها فرصة ذهبية للخروج من السجن بسبب المؤامرة التي دبرها ضده المقدم يس. فهو لم يشاور أحداً في قراره هذا، ربما لغياب ابن خاله انطوني كوين المقرب له، في الزيارة خارج البلاد وكذلك صديقه اوانطجي الذي كان في مصر بغرض الدراسة.

جوزيف، ومع آخرين، تقدموا بطلباتهم عبر إدارة السجن وتم إرفاق شهادة إشهاره للإسلام، رغم أنه مسيحي كاثوليكي.

 المقدم يس بدل تسليم طلب جوزيف إلى مكتب بن لادن، رأى أنها فرصة للإنتقام من الإنسان الذي لم يكن هو قاتل ابن خاله، بحيث ذهب على الفور إلى خاله أحمد شريف بمنزله باللاماب بحر أبيض الساعة الخامسة مساءً. قرع الباب بشدة وبنوع من الابتهاج. الشيخ أحمد يسال باستغراب:

  •  منو انت؟
  • انا يس يا خال.

فتح الباب... تفضل يس. أحوالك شنو؟

  • بخير يا خال. أخيراً المجرم اعترف.
  • كيف الكلام دا؟
  • والله العظيم- يخرج له المستند- هذه هي اعترافاته،
  • أخيراً. الشكرلله. طيب المطلوب شنو؟ الشيخ أحمد يسال.
  • نمشي نجلس في الصالون ونحكي يا خال.
  • طيب، تفضل يا ولدي.
  • انت عارف يا خال نحن محتاجين نستأنف القضية ونستخدم هذه الاعترافات لأن السبب في عدم الحكم بالإعدام كان غياب الأدلة. الآن الأدلة في أيدينا ولازم نمشي للمحامي عشان يبدأ الإجراءات مباشرة.
  • فكرة جميلة يا يس لكن هل يمكن استئناف قضية حكمت قبل ست سنوات؟
  • دا الشي العايز مننا الشغل يا خال. هناك تغييرات كبيرة في المنظومة العدلية ولازم نستفيد من وجود عناصرنا في القضائية.
  • صحيح، يا يس، يلا نمشي إلى الأستاذ المحامي عبد العظيم.

 يخرجا إلى منزل عبد العظيم بالخرطوم 2.

يصلا منزل الأستاذ عبد العظيم.

 يس يطرق الباب ويخرج الخفير ليبلغهما بأن مولانا خارج البلاد وسيعود بعد أسبوع.

  • شكرا. مافي مشكلة- يركبا العربة.
  • الشيخ أحمد يسأل يس: ماذا نفعل؟
  • لازم ننتظره يا خال.
  • طيب، كلام جميل سيتم ببركة الله.

الشيخ أحمد ينزل في منزله ويس يواصل الرحلة إلى الصحافة التي يوجد بها منزلهم.

رواية “حكاية إعدام جوزيف”. الحلقة الخامسة

تأليف د. ضيو مطوك ديينق وول

د. ضيو مطوك ديينق وول

المشهد التاسع

بعد الإفراج عن سانتو، شعر بأنه مستهدف بسبب ديانته، كل ما حدث له كان ممكن أن يؤدي به إلى الموت لولا قدرة القادر أن ألزام التمساح فراش المرض مما أنقذ حياته خاصة في تلك الليلة المشومة، وطالما قررت قيادة الفرقة تصفيته، فلابد ستنفذ هذه الخطة طال الوقت أم قصر.

 ناقش سانتو هذا الأمر مع زوجته تريزا التي قدمت له النصيحة بأن يشاور محمد آدم الذي بذل الجهد في سبيل الإفراج عنه. فذهب سانتو إلى منزل محمد آدم.

زوجة محمد آدم التي لعبت دوراً وراء الكواليس تفرح برؤيتها لسانتو لأول مرة بعد خروجه من المعتقل.

  • الحمد الله على السلامة يا سانتو.
  •  بارك الله فيك يا زينب. أنتو لعبتو دوراً كبيراً في خروجي من المعتقل، كلمتني تريزا.
  •  دا واجب، انت شخص طيب يا سانتو. الله ما يجيب يوم شكرك.
  • شكرا يا زينب ما قصرتو والله. وين أخوي محمد؟
  • خرج قبل شوية؟
  •  أه خلاص، أنا حضرت لأشكركم بما قمتوا به من إنقاذ حياتي، وحقا لولا محمد لكنت ضمن الأموات حالياً.
  • لا حول ولا قوة إلا بالله، ما تقول كلام زي دا يا سانتو. بعد الشر عليك. أنت راجل طيب وأولادك محتاجين ليك.
  • شكرا زنيب. المهم كلمي محمد انو حضرت هنا. لامن يرجع إلى المنزل.

في السابعة مساءً حضر محمد إلى منزل سانتو.

  • سلامات عزيزي سانتو. انا مسرور برؤيتك وسط أسرتك الكريمة. زنيب كلمتني بانك جيتنا؟
  • نعم محمد جيتكم لاشكركم لما قمت به. انا واسرتي لم ننسى هذا الموقف أبدًا.
  • انت يا سانتو الله لم يكتب لك الموت بعد، الشي الذي أنقذك هو مرض التمساح. بعد الإفراج عنك حضر التمساح وقال وين المعرص دا يا محمد؟ يكرهك شديد. انا قلت ليهو تم الافراج عنه. قال، ابن كلب. لو كنت وجدته هنا اليوم لكنت طلعت زيته. مش قريب روبت، حتى لو ولده ذاته.
  • لكن السبب شنو يا محمد ليه يكرهني؟ سانتو يسال.
  • ابدا. ليس هناك سبب، لكن الزول دا يدمن كسر رقاب البشر. أنت عارف قتل ناس شديد هنا.
  • الله يسامحه.

تريزا تحضر لهما العشاء. وقالت: تفضلو العشاء.

  • شكرا يا تريزا، جيت البيت طوالي وجيتكم هنا.

 ويغسل يده. وهما يتناولا العشاء، سانتو قال له:

  • انت عارف يا محمد مشيت لك عشان أشاورك في أمر.
  • أمر شنو يا سانتو؟ كلمني.
  • انا عايز نستقيل من الجيش؟
  • ابدا لن يسمحوا لك، سيجدونها فرصة لتلفيق جريمة فيك، ويصفوك يا سانتو خاصة بعد الكلام الحاصل معك في كادوقلي.
  • معك حق يا محمد لكن الحل شنو؟ انا نفسياتي بطالة شديد هنا في الهجانة وغير راغب في الاستمرار.
  • طيب خليني نقترح لك؟
  • تقترح شنو؟
  • قدم طلب إجازة عشان تمشي ترتاح شوية وممكن تسافر خارج الابيض، يا سانتو.
  • طيب مقترح جيد يا محمد.
  • اشكرك يا سانتو. تصبح علي خير.
  • وانت من أهلو يا محمد.

بعد تمام الصباح في القيادة، ذهب سانتو إلى مكتب العميد روبت لتقديم الشكر له لموقفه الذي قام به للإفراج عنه.

  • يحي، صباح الخير سعادتك.
  • صباح النور. تفضل بالجلوس. هل انت بخير يا سانتو؟
  • نعم سعادتك الحمد الله.

سانتو يبدأ حديثه بلغة الدينكا:

  • جيت لاشكرك لانقاذك لحياتي.
  • أنت صاحب الأرواح السبعة يا سانتو! لولا القادر لكنت غادرت الدنيا. لكن الرب له حساباته مافي زول بموت بدون يومه.
  •  طيب أنا نفسيتي تعبانة وأريد إجازة حتى نستريح شوية. وأنا بفكر في الذهاب إلى مدينة واو عشان برضو تكون فرصة نزور الأهل هناك.
  • كلام جميل يا سانتو. أمشي قدم الطلب.

سانتو ينهض ويحي. شكرا سعادتك... يخرج من مكتب العميد روبت.

أخذ سانتو الإجازة ومشي واو وبعد انتهاء الإجازة وجد صعوبة في الطيران للعودة إلى الأبيض فقرر الالتحاق بمنطقة قرينتي العسكرية وظل مرابطاً هناك لأكثر من عام ويواظب الحضور إلى رئاسة الفرقة باستمرار.

 شعبة الاستخبارات بالأبيض خاطبت رئاستها بالخرطوم بتمرد الرقيب سانتو بعد طلب إجازة والذهاب إلى واو. رئاسة هيئة الاستخبارات ترسل الإشارة إلى منطقة واو العسكرية تستفسر عن الرقيب سانتو. للإفادة عن مكان تواجده "الرقيب سانتو يتبع لسلاح الموسيقى بالهجانه للإفادة بوجوده". انتهت الإشارة.

   شعبة واو ترد على الإشارة: "الرقيب سانتو موجود بالمنطقة هنا وهو ينوي العودة إلى الأبيض لكن هناك صعوبة في الطيران. منتظرين أول طيارة قادمة إلى واو حتى نسفره". انتهت الاشارة.

***

المشهد العاشر

رجع سانتو من واو ووجد وضع أسرته متدهوراً، كل ما في الحي ما عدا عائلة محمد وزوجته زينب التي تعرف الحقيقة- تنظر لهم كخوراج وعملاء يمدون التمرد بالمعلومات الإستخباراتية عن تحرك القوات المسلحة والدفاع الشعبي والمجاهدين، خاصة بجبهة جبال النوبة وأن الأسرة في العزلة التامة، بعدما طلعت الإشاعة بأن سانتو مشي التمرد من واو.

في الصباح ذهب سانتو إلى الإدارة فوجد كل شيء قد تغير حتى أصدقائه المقربين ابتعدوا منه. صديقه محمد آدم شرح له كل شيء ومحاولات القيادة بتوريطه والزج به في السجن مرة أخرى، وأن التمساح في انتظار تلك السانحة لينتقم منه، ونصح سانتو بمغادرة الهجانة فوراً إذا أمكن ذلك. صدقت كلامك الزمان بانك عايز تخلي الجيش.

  • معك الحق يا محمد. موافق. حتى أولادي في المنزل غير مرتاحين ولا يرغبون في الاستمرار هنا. الهجانة لم تكن تلك الوحدة التي نعرفها باختلاط الأجناس. الكيزان انتهوا منها وجعلوها مكاناً للتمييز الإثني والعنصرية، لكن نخرج كيف من هذه الورطة يا محمد أخوي.
  • أمشي كلم قائد الاستخبارات بهذا الكلام لان اخر مرة وقت طلعت اشاعة بتمردك مشيت له فقال بان سانتو لم يتمرد، لكن قائد الفرقة لا يحبه ويريد ان يخلص منه باي طريقة. محمد يفشي هذا السر.
  • طيب خليني نمشي له.

سانتو يوافق.

  • سلامات سعادتك.
  • وعليكم السلام يا متمرد الكبير.
  • أنا حضرت أمس من واو بعد غيبة طويلة وفكرت أجي أسلم عليك.
  •  الحمد الله على سلامة يا سانتو، ما قالوا انت تمردت. يبتسم.
  • معقول سعادتك؟
  • انت ماسمعت الخبر دا يا سانتو؟
  • ابدا سعادتك لكن وجدت الزملاء متغيرين مني وحتى الأسرة شعرت بتغيير شديد في الحي.

ثم يردف سانتو قائلًا:

  • سعادتك انا جيت أتكلم معك في هذا الامر بكل الصراحة. انا مظلوم وبحب الهجانة شديد واصبحت زي منزلي والافراد هنا عائلتي لكن في الأونة الاخيرة بشعر بأن هناك مخطط لتصفيتي منذ زمن زيارة الوفد الاسلامي بقيادة بن لادن ولذلك اطلب منك المساعدة.
  • انت عايز نعمل لك شنو يا سانتو؟
  • فقط ساعدني انتقل من هنا الي منطقة كوستي العسكرية.
  • طيب هذا غير ممكن في ظل وجود قائد الفرقة الحالي. لكن خلينا نفكر فيها اذا تم نقله إلى موقع اخر غير الهجانة وما يكون كوستي برضو. يبتسم.

بعد فترة ليست بالطويلة جاءت الإشارة بانه سيتم نقل قائد الفرقة إلى القيادة العامة الشهر القادم، فذكر قائد الاستخبارات ذلك لسانتو وطلب إليه التمهل بعض الوقت حبنما ننتظره يمشي ينشغل بالقضايا الاخرى وينساك.

بعد شهر قائد الاستحبارات يطلب الرقيب سانتو في مكتبه.

  • يحيي... حضرت سعادتك.
  • طيب الرجل سيغادر في اي وقت من الان. انت امشي جهز طلبك لقائد الفرقة الجديد عشان تقدمه له لو سلم طوالي.
  • حاضر سعادتك. يحيي ويخرج.

كتب سانتو طلب النقلية من الأبيض إلى كوستي، وفعلاً القائد الجديد وافق على الفور، وغادر الرقيب سانتو منطقة الأبيض العسكرية إلى كوستي بأسرته وبقي هناك حتى نزل المعاش وفارق الجيش، إلا أن ذكريات ورطة بن لادن وأيمن الظواهري لم تفارقه أبداً.

***

رواية “حكاية إعدام جوزيف”.. الحلقة الرابعة.

المشهد السابع

بعض السيدات من السودان وجنوب السودان المشاركات في حفل توقيع رواية "حكاية إعادام جوزيف".

المشهد السابع

حاكم كردفان يُسلِّم إشارة مقتضبة ومصنفة "سرية لغاية".

 "سيصلكم وفد رفيع المستوى. يجب تحضير الحراسة له لحمايته أثناء المأمورية".

انتهت الإشارة.

 الحاكم يستدعي قائد منطقة الأبيض العسكرية "الهجانة" في مكتبه لإبلاغه عن الإشارة المستلمة من الخرطوم، ويطلب التعامل مع هذه الإشارة بسرية تامة.

حاضر سعادتك. قائد المنطقة العسكرية يُغادر مكتب الحاكم وبصحبته صورة من خطاب الإشارة.

عند وصوله مكتبه، قائد المنطقة، يطلب قائدي الإستخبارات وسرية الإدارة المسوؤل عن حراسة الشخصيات المهمة ليخطرهما بالمأمورية.

في هذا الاطار، قائد سرية الإدارة يسلم التعليمات لتجهيز القوة عاجلاً رغم الغموض لأنها- أي الإشارة- لم توضح هوية الشخصيات ولم تحدد زمن وصولهم الأبيض ولم تتحدث حتى عن طبيعة المهام التي سيقومون بها في المنطقة، وإلى أين سيذهبون، كل هذه الأسئلة كانت غائبة لم تُجِب عليها الإشارة.

  تم تكوين قوة قوامها فصيلة برئاسة رقيب أول، وتجهيزها بالمستلزمات الضرورية لتنفيذ المهام. وبما أن تحديد الموعد لتحرك المأمورية لم يتم بعد، قرر الرقيب أول قائد الفصيلة أن يصرف القوة على أن يتم إخطارهم بتفاصيل السفرلاحقاً. انصرف الأفراد إلى منازلهم، بعضهم خرجوا لأغراض مختلفة. الوفد وصل الأبيض بطائرة خاصة حوالي الساعة السادسة مساءً وذهبوا مباشرة إلى استراحة الحكومة، ومن هناك قرروا بأنهم سيتحركون إلى كادوقلي بالعربات الساعة الثالثة فجر اليوم التالي- السبت.

قائد منطقة الأبيض العسكرية يطلب من قائد سرية الإدارة تحريك الحراسة إلى مقر إقامة الوفد باستراحة الحكومة حتى يتثني لهم التحرك عند الفجر، غير أن قائد سرية الإدارة يخفق في إعادة تجميع القوة التي جهزت لهذا الغرض نتيجة لعدم وجود بعضهم في منازلهم، خاصة الرقيب أول قائد المجموعة، ولذلك لم يكن هناك خيار آخر لمعالجة المشكلة سوى إيجاد آخرين بما فيهم القائد لتسديد الخدمة، فوقع الاخيتار على الرقيب سانتو لقيادة المجموعة. وبما أن الوقت كانت متأخراً مساء الجمعة، قرر قائد سرية الإدارة وقائد الاستخبارات الذهاب إلى منزل سانتو لتكليفه بهذه المهمة.

  • قائد الإدارة: السلام عليكم..
  • حرم سانتو: وعليكم والسلام.
  • هل سانتو موجود؟
  • سانتو يرد بنفسه: نعم سعادتك أنا موجود. خير إن شاء الله؟

(درجت العادة بأن تكون مثل هذه الزيارات غير عادية ومرتبطة بالأزمات داخل المنطقة العسكرية).

  • قائد الإدارة: للأسف جيناك في وقت متأخر.
  • سانتو: أهلا بكم.
  • يا أخ جيناك لأن عندنا مأمورية مستعجلة وعايزينك تقود قوة الحراسة، والقوة جاهزة الآن في استراحة الحكومة لو سمحت ممكن تجهز نفسك عشان تمشي لهم، نحن ما عندنا شخص غيرك.
  • حاضر سعادتك. دقيقتين نجهز وبمشي.
  • شكراً ستجد تعليماتك الأخيرة عند الوفد في الإستراحة.
  • حاضر سعادتك.

قائد الإدارة وقائد الاستخبارات غادرا المنزل.

سانتو يجهز حقيبته ويخرج متجهاً إلى مقر إقامة الوفد وفعلاً في الاستراحة وجد القوة في انتظاره بما فيها ضابطان كبيران يتبعان للاستخبارات العسكرية والدفاع الشعبي، القطاع الغربي بالقيادة العامة- الخرطوم.

الرقيب سانتو يحضر ويستلم التمام ويرفعه إلى قائد الدفاع الشعبي القطاع الغربي الذي كان ضمن الوفد.

  • التمام سعادتك. القوة جاهزة لمأمورية الفجر. أي تعليمات أخرى؟
  • خليكم جاهزين حسب الموعد. ممكن تنصرفوا وتجمعوا وقت السفر الساعة الثالثة. واضحة؟
  • حاضر... واضحة سعادتك.

الرقيب سانتو يرجع إلى القوة. ويقول ممكن تنصرفوا. لو في زول عندو حاجة في البيت ممكن يمشي يجيبو ويرجع سريع. الكلام دا واضح؟

  • واضح...

 القوة ترد.

  • انصراف.

القوة تنصرف.

في تمام الساعة الثالثة القوة تجمع في الطابور، قائد الدفاع الشعبي القطاع الغربي يحضر ويبلغ تعليمات السفر دون ذكر المكان الذي سيتجهون إليه.

  • أنتم سترافقون شخصيات هامة وقائد القوة الرقيب سانتو سيكون مع الضيف في العربة والبقية ستوزع على بقية العربات. كلام دا واضح؟
  • نعم سعادتك.
  • يلا نتحرك.

الضيوف يخرجون إلى عرباتهم وانطلقت المامورية باتجاه كادوقلي.

 الرقيب سانتو لم يعرف هوية الضيوف لكن الشخص الذي كان معه في العربة تظهر عليه ملامح رجل الدين لا يحب الحديث لكن كان يُسبِّح باستمرار.  وبعد حوالي ساعة من وقت التحرك من الأبيض، توقفت العربات لأداء صلاة الفجر. نزل الجميع من السيارات  ما عدا الرقيب سانتو. عندما رجع قائد القطاع الغربي وجد سانتو واقفاً بجوار العربة في انتظار الضيف ليركب، فسأله، لماذا لم تصلِ مع الناس؟

  • عشان أنا مسيحي سعادتك.
  • أنت شنو؟
  • مسيحي.
  • وشنو جابك هنا؟
  • الجيش سعادتك.

قائد القطاع يترك سانتو واقفاً ويصعد لعربته... سانتو يركب وتتحرك العربات.

وصل الطوف مدينة كادوقلي ودخل الوفد القاعة التي سبق أن جُهِزَت للاجتماع بالسلطات الأمنية في المحافظة.

الرقيب سانتو يوزع الحراسة ويقرر الوقوف على المدخل بنفسه، لكن قائد القطاع يطلب منه الخروج وإخطار السواقين ليمشوا ويجهزوا العربات لمأمورية العودة.

عندما خرج سانتو لتنفيذ التعليمات، أمر بقفل الباب وعدم السماح له بدخول إلى القاعة مرة أخرى". ربما القصد بألا يحضر الاجتماع حتى لا يطَّلع على تفاصيل طبيعة مهام الوفد الإسلامي.

بعد الاجتماع، قام الوفد بزيارات إلى معسكرات التدريب لكن لم يخاطبوا المستجدين سواء بإجراء التعارف على أعضاء الوفد، وهي المرة الأولى التي يتعرف فيها الرقيب سانتو على أسماء الضيوف شخصياتهم بقيادة الشيخ أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وشخص آخر لم يتعرف عليه، وكان يرافقهم مدير الاستخبارات بالقيادة العامة وقائد الدفاع الشعبي القطاع الغربي.

رجع الوفد إلى الأبيض وذهب مباشرةً إلى المطار بغرض التحرك إلى الخرطوم، إلا أن الطائرة انتظرت، وعندما أصبح الوقت متاخراً رجعت الخرطوم وقررت العودة في الصباح الباكر، لذلك غيّر الوفد مساره إلى الاستراحة لقضاء الليلة والتحرك إلى الخرطوم.

***

المشهد الثامن

الدكتور ضيو متوك يسلم إحدى السيدات السودانيات رواية "حكاية إعدام جوزيف"

المشهد الثامن

في نفس المساء الذي رجع فيه الوفد إلى الأبيض في طريقهم إلى الخرطوم ذهب الرقيب سانتو إلى منزله في تمام الساعة الثامنة، وحوالي الساعة التاسعة حضرت قوة مدججة بالسلاح وأخذت سانتو إلى المنطقة العسكرية، حيث وجد اللواء- قائد الفرقة- في انتظاره بالمكتب. اللواء يسال.

  • انت اسمك منو؟
  •  الرقيب سانتو سعادتك.
  • أين مستندات الضيوف يا زول؟
  • ياتو مستندات سعادتك؟
  • انت ما عارف؟
  • لا ما عارف حاجة عن المستندات سعادتك.
  • حتعرفو يا زول... بلغة التهديد.

أخذوه وسلموه إلى التمساح، يأمر العساكر. الشرطة العسكرية تأخذ سانتو إلى المعتقل.

التمساح هذا هو الشخص المشهور بقتل المتهمين في جرائم الخيانة، وعادة يتم قتلهم بكسر الرقبة. لحسن حظ سانتو، لم يكن التمساح في ذلك الوقت موجوداً داخل القيادة لأنه أصيب بالملاريا ويلازم الفراش في منزله.

         الرقيب سانتو يقضي ليلته في السجن الحربي المخصص للإعدامات في انتظار التمساح لتنفيذ العملية، لكن الخالق كانت له حساباته، فلم يحن وقت موت سانتو بعد.

         في الخرطوم قائد القطاع الغربي يتصل باستخبارات الهجانة باستمرار للتأكد من تصفية الرقيب سانتو بأسرع وقت ممكن حتى لا تنتشر المعلومات عن زيارة الوفد الإسلامي إلى معسكرات الدفاع الشعبي للدوائر الخارجية.

قائد الاستخبارات بمنطقة الأبيض العسكرية، وبدون علم عن غياب التمساح من العمل، يُطمئِن قائد الدفاع الشعبي القطاع الغربي باستلام تعليمات مشددة من قائد الفرقة بتنفيذ هذا الأمر وأن القضية تعتبر محسومة، بحيث تم تسليم المتهم للجهات المعنية للتنفيذ.

في صباح الأحد، فوجئ اللواء بعدم تنفيذ الأوامر وأن التمساح لم يكن موجوداً في القيادة، فكلف شخصاً آخر- يدعى محمد آدم- بتنفيذ المهمة.

محمد آدم يزور السجن لاستلام ملف المتهم وتنفيذ التعليمات حسب إرادة القيادة، لكن الشخص المراد تصفيته هو جاره في قشلاق الجيش الذي اعتاد أن يأكل ويشرب معه باستمرار وتربط زوجته علاقة حميمة بزوجة سانتو وكذلك الأطفال.

 يطلب إحضار المتهم في مكتب التحقيق.

  • آه سانتو دا أنت؟ يمسك رأسه. 
  • نعم محمد.
  • لا حول ولا قوة إلا بالله. كلمني الحاصل؟ وهو يستغرب.
  • سانتو!! كلمني الحاصل شنو؟
  • والله يا محمد أنا ما عارف حاجة خالص بس مشيتنا المأمورة الأمس ورجعنا وبعد داك جاءت القوة إلى منزلي وتم اعتقالي وقالوا القائد عايزك وعندما حضرت إلى مكتب القائد سألني عن مسندات الضيوف، قلت له أنا ما عارف المسندات قال حتعرفو وبعد ذلك أمر بتسلمي إلى التمساح.

 للمرة الثانية محمد آدم يردد: "لا حول ولا قوة إلا بالله". خير ياخوي.

يخرج من غرفة التحقيق الملحقة بالمعتقل حوالي الساعة العاشرة صباحاً.

محمد آدم يخرج ويتجه إلى منزل سانتو ليطمئن أولاده ويحكي لهم  عما جرى، ورغم خطورة الموقف إلا أن الأمر في أيدٍ أمينة. أيضاً أخطر زوجته زينب بما جرى لسانتو فبكت بكاءً شديداً، لكن طمأنها بأن كل شي سيكون على ما يرام.

زوجته شكرته وقالت سانتو إنسان طيب وأولاده طيبين خاصة مدام تريزا، لا نريد أن يحدث لهم شر.

محمد آدم يرجع القيادة حوالي الساعة الثالثة ويدخل مكتب قائد الاستخبارات ليعرف حيثيات هذه القضية الملفقة وتقييم مستوي خطورتها.

  • محمد خلاص نفذت الأمر؟ قائد الاستخبارات يسأل.
  • أبداً سعدتك، لكن مشكلة الزول دا شنو؟
  •  انت بس امشي نفذ التعليمات وبعد داك تعال اسأل. القيادة قررت كدأ.  الكلام دا واضح يازول؟
  • واضح سعادتك.
  • يلا انصرف.

محمد يعود إلى المعتقل يحمل بيده صندوق سيجائر ليجد سانتو في انتظاره في نفس الغرفة التي كان موجوداً فيها. يجلس ويقول:

  • سانتو انت لسه هنا.
  • نمشي وين يا محمد؟
  • خليتك هنا عشان تهرب يا سانتو.
  •  أنا ما ممكن نهرب يا محمد لأني غير مذنب.
  • لكن هل الناس ديل عارفين الكلام دا؟

يطلع حبتين سيجارة يعطي سانتو واحدة وياخذ واحدة، سانتو يعتذر ويقول:

  • انا اوقفت التدخين يا محمد.
  • اه متين الكلام دا؟
  • قبل زمن.
  • تمام، كلام حلو طيب.
  • يا خوي كلمني بكل الصراحة الحاصل معك شنو؟

يطلع ورق الفلسكوب ويسطره.

سانتو يبدأ الحديث ويسرد كل ما حصل، وكيف زاره قائد سرية الإدارة مع قائد الإستخبارات بمنزله في وقت متأخر ليلة الجمعة، وطلبا منه قيادة فصيلة حراسة للشخصيات الهامة القادمة من الخرطوم، وأن الرقيب أول الذي عُيّن في المامورية لم يكن موجوداً والوفد سيسافر الصباح، فانت جهز نفسك عشان تمشي تقود فصيلة الحراسة. نفذت التعليمات وذهبت الاستراحة ووجدت هناك القوة جاهزة حيث تحركنا الساعة الثالثة فجراً إلى كادوقلي، وبعد ساعة من قيامنا توقفت العربات لأداء الصلاة.

 نزل الوفد وأدى الصلاة إلا شخصي، وبعدما رجع قائد الدفاع الشعبي القطاع الغربي من الصلاة وجدني أقف بجوار العربة في انتظار الضيوف، فسألني لماذا لم تصلِ؟ فقلت له أنا مسيحي فاستغرب من هذا الكلام وقال جابك شنو طيب؟ وقلت له الجيش يا سعادتك. فانصرف وركب سيارته. وبعدما وصلنا كادقلي أخرجني من قاعة الاجتماع بحجة تجهيز العربات حتى نستطيع التحرك بسرعة بعد الانتهاء من الجلسة. عندما وصلنا الأبيض ذهبت إلى منزلي لأفاجأ بقوة عسكرية مدججة تعتقلني وجاءت بي إلى القيادة، حيث وجدت اللواء في انتظاري وعند الدخول سألني  انت اسمك منو؟ وعندما أجبته، قال لي وين المسندات؟ سألت ياتو المسندات سعادتك؟ قال لي انت حتعرفو. وقال للعساكر خذوه وسلموه للتمساح. هذه كل القصة باختصار شديد.

  • خلاص شكراً أنا فهمت الموضوع ليه هم عايزين يقتلوك. انت كشفت خطتهم الجهادية وهم بفتكروا بانك ستخرج هذا السر لآخرين. أصلا مفروض يقتلوك ليلة السبت بعد رجوعهم مباشر، لكن التمساح مريض. إن شاء الله ما تجيك عوجة تاني بعد دا. أدوني تعليمات نقتلك لكن انا ما بعمل الكلام دا.

يواصل محمد آدم:

  • انت عارف يا سانتو، رغم انا زعلان من الجنوبيين بسبب تصرفات العميد دمينك اتجاهي والذي جردني من كل الرتب من رقيب أول إلى جندي وفصلني من الجيش بمنطقة الاستوائية العسكرية قبل خمسة أعوام، إلا أنني وأسرتي نكن لك ولأسرتك محبة كبيرة. أنت لو كنت من الفرتيت - في الاعتقاد بان العميد دمنيك فرتيتاوي - ما كنت ساعدتك إطلاقا، لكن طالما أنت دينكاوي سأقف معك حتى النهاية وان شاء الله ما يجيك العوجة. الدينكا ديل رجال وأنا كرزيقي بحب الفرسان. جني وجن الجبناء. شوف أنا هسي خليتك هنا عشان تجري لكن انت ما شردت. لو كان فرتيتاوي كان شرد. يضحك. شكله زعلان شديد من العميد دومنيك.

يخرج محمد آدم من غرفة التحقيق حوالي الساعة الخامسة إلى مكتب الاستخبارات وبيده التقرير.

قائد الاستخبارات يسأل؟

  • الحاصل شنو يازول؟
  • انتهت يا سعادتك. دا التقرير.
  • تقرير شنو يازول؟
  •  التحقيق.
  • قال لك نحن عايزين التحقيق منو؟
  • لكن سعادتك مافي حاجة بيقتل الزول دا. لانه غير مذنب. ايضا المعلومة طلعت ولو قتلناه هسي سيكون مشكلة كبيرة لأن العميد روبت عرف المعلومة وما يسكت.
  • والحل شنو؟ اللواء عايزو ميت.
  • مافي طريقة سعادتك دا سيعمل لينا مشاكل في المنطقة.
  • وبعدين؟
  • لازم يتم الإفراج عنه.
  •  خلاص كدا خلينا نشوف بكرة.

بعدما خرج محمد آدم من مكتب قائد الاستخبارات ذهب إلى مقر إقامة العميد روبت وشرح له كل الحاصل، وقال الناس ديل عايزين يقتلو الزول دا، فلازم تتحرك بكرة الصباح مع اللواء ما تذكر اسمي خالص يا سعادتك.

  • منو؟ العميد روبت يسأل باستغراب.
  • انت ما عارف سانتو معتقل واللواء عايز يقتله يا سعادتك؟
  • كيف الكلام دا؟
  • والله العظيم. المهم سنحكي. خلي الزول دا يطلع من المعتقل.
  • شكرا لك كتير يا محمد.

بعد طابور الصباح العميد روبت يدخل مكتب القائد ويسأل:

  • سعادتك سلمونا جثة الرقيب سانتو، اهله عايزينه؟
  • جثة شنو يا روبت؟
  • العسكري انتو رسلتو كادوقلي وقتلتو.

 اللواء ينادي قائد الاستخبارات ويقول اسمع كلام روبت دا؟ ويستطرد اللواء قائلاً:

  • ممكن تجيب العسكري دا وتسلمو له؟
  • حاضر سعادتك.

ينصرف ويحضر ومعه الرقيب سانتو ويسلمه للعميد روبت وتم الإفراج عنه دون شرط قبل شفاء وحضور التمساح إلى القيادة وتسليمه لمعتقل الموت من محمد آدم.

خرج سانتو لكن كانت هي نقطة البداية للأزمات تلاحق الرجل في فرقته المفضلة، الفرقة الخامسة مشاة، المسماة بالهجانة ومقرها الأبيض بكردفان.

اللواء يطلب قائد الاستخبارات بمكتبه.

  • يحي حضرت سعادتك.
  • اجلس.
  • الحاصل شنو بضبط. الزول دا نفد كيف؟
  • كلام غريب يا سعادتك انا ذاتي مستغرب شديد. انت عارف بعدما كلمتني بان يتم تسليمه لـ التمساح العساكر مشوا وجدوا التمساح مريض ولم يتصرفوا وحتي لم يرجعوا لي عشان يخطروني بالحاصل. فالزول نام في المعتقل، وقت عرفت الكلام دا ناديت محمد آدم عشان يمشي ينفذ الأوامر لكن جاءني بتقرير طويل ثماني وعشرون صفحة، قلت له نحن ما عايزين التقرير قال لي مافي حاجة بتعدم الزول دا لأن ناس العميد روبت عرفوا المعلومة. وفعلا دا الحاصل اليوم التالي بعد الطابور.
  • اوكي، المهم موضوع دا انتهى لكن الزول دا خطر على المنطقة هنا.
  • أنا عارف سعادتك. نشوف نعمل معه شنو... يرد قائد الاستخبارات.

أحد الشخصيات السودانية من السادة المشاركين في حفل التوقيع على رواية "حكاية إعدام جوزيف".

***

إن شاء الله موعدنا مع الحلقة الخامسة يوم السبت القادم الموافق 24 مايو 2025

رواية “حكاية إعدام جوزيف”. الحلقة الثانية.

حكاية إعدام جوزيف. رواية بقلم

د. ضيو مطوك ديينق وول  

المشهد الثالث

         اعتاد "محيي الدين" الرجوع من النادي إلى المنزل، برفقة شقيقه الأصغر "نصرالدين"، في تمام الساعة السابعة مساءً، وفي إحدى المرات، وأثناء دخولهما المنزل وجدا شخصين مجهولي الهوية يتبولان على صور المنزل بالقرب من البوابة الرئيسية.

سأل محيي الدين عن هذا التصرف اللا أخلاقي، لكن لم يجد رداً منهما، بل أخذ أحدهما سكيناً وسدد طعنات في صدر محيي الدين، فأراده قتيلاً في الحال. الشخص الآخر الذي كان مع القاتل قال له "ليه قتلت الزول يا يوسف؟"، فرد عليه "يلا نجري". وفرا إلى الاتجاه الغربي وهو نفس الموقع الذي يسكن فيه جوزيف الملقب ب يوسف مع أقاربه.

         خرج الشيخ أحمد شريف والد المرحوم من المنزل مسرعاً إلى مكان الحادث بعدما سمع صرخات ابنه، لكن وجد ابنه قد فارق الحياة. فسأل: ماذا حدث؟

رد نصرالدين وهو يغالب البكاء "محي الدين مات يا ابوي"... ثم بكي بشدة وهو يمسك رأسه.

الوالد:  كلمني الحاصل شنو يا نصر الدين؟

نصر الدين:  وجدنا شخصين يتبولان على الحائط، وعندما سألناهما سدد أحدهما الطعنات على صدر محيي الدين. وبعد ذلك سأل أحدهما القاتل، ليه قتلت الزول يا يوسف؟ ثم فرا إلى الاتجاه الغربي.

الوالد:  لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. حسبنا الله ونعم الوكيل.

         ردّد نصر الدين الحوقلة ودخل المنزل واتصل بالشرطة التي وصلت إلى مكان الحادث وأخذوا الجثمان إلى المشرحة، وبدأوا في إجراءات فتح البلاغ ضد مجهول، ودونوا في دفترة الأحوال بأن القاتل يُدعى يوسف.  

المرحوم محيي الدين كان يدرس الحقوق في السنة الأخيرة بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكان من المفترض أن يتخرج بعد شهرين من تاريخ الوفاة. هذا الموت المفاجئ شكَّل حالة نفسية شديد لأسرته وخاصة الوالدة التي تعاني من ارتفاع ضغط الدم والسكري.

الشيخ أحمد شريف هو قطب إسلامي ويرأس الجماعة بالحي، حيث أقام التنظيم ندوة ضخمة في الساحة التي يفتح عليها منزله، خاطبها قيادات الحركة الاسلامية بقيادة الشيخ الدكتورحسن عبدالله الترابي، والذي كان يشكل حزبه مقاعد المعارضة في الديمقراطية الثالثة.

         شرطة المباحث بقسم اللاماب شكلت مجموعات لمتابعة القضية وحاولت حصر الأشخاص المتسمين بـ"يوسف" في الحي، وكل الخرطوم جنوب. لكن بالتأثير من الأسرة والحركة الإسلامية، تم توجيه الإتهام إلى "جوزيف جون باك" الملقب بـ"يوسف".

         وفي ذات يومٍ حضر ثلاثة من أفراد المباحث إلى شركة البيبسي كولا ومعهم أمر قبض بالإرشاد مكتوب باسم يوسف دون الاسم الثاني ووجدوه في إجازة مرضية فذهبوا إلي المنزل، وقبضوه وتم اقتياده الي قسم الشرطة باللاماب وبدأوا التحقيق معه بتهمة القتل.

         لا يوجد شهود في هذه القضية سوى شقيق المرحوم، نصر الدين الذي كان معه عند وقوع الحادث بجوار منزلهم، وهو لا يعرف شيئاً عن الجاني غير حديث الشخص الذي كان برفقة القاتل، حينما قال: "ليه قتلت الزول يا يوسف"؟ وهي عبارة تطابق لقب الجاني فقد أطلق على جوزيف (يوسف) من قبل التجار وزملائه بسوق السجانة.                                                    

         عائلة المرحوم تريد إلصاق التهمة على جوزيف، حيث أوحت للشرطة بضرورة إقامة طابور شخصية على الذين قبض عليهم كمشتبهين في الجريمة بقسم الشرطة، وجلّهم شماليين ما عدا جوزيف، بغرض تعرّف الشاهد على المتهم الذي شاهده أثناء وقوع جريمة القتل الساعة السابعة مساءً حيث كان الظلام دامسًا، مما يجعل الرؤية متعذرة، لكن اختيار الشاهد وقع على جوزيف ربما لأنه الجنوبي الوحيد بين المتهمين، والمخيال الشمالي دائماً ما يدمغ الجنوبيين بالإجرام، فأكد بأنه القاتل.

وُضِعَت يدي جوزيف في الكلباش وتم اقتياده إلى المعتقل ووجهت ضده تهمة القتل العمد، تحت المادة 251 من القانون الجنائي 1984 في مواجهة المتهم، وهو القانون الذي تم تعديله عام 1991 لتصبح المادة 130 عقوبة لجرائم القتل العمد، بعد انقلاب الإسلاميين سنة 1989.

***

المشهد الرابع

         ليس هناك سبيل أمام أسرة جوزيف سوى توكيل محامٍ ليدافع عنه في هذه القضية الملفقةـ وهذا أمرٌ صعبٌ للغاية لضعف الوضع المادي للأسرة، لأن معظم أفرادها بعد نهب بقرهم في المنطقة صاروا بلا مال، وقليل منهم موجودين في الخرطوم يعملون في المهن الهامشية مثل عمال البلديات والشركات والعتالة في الأسواق، لكن طيبة معارف يوسف خاصة أصحاب المغالق والمحلات التجارية بالسجانة جعل بعضهم يتبرعون بمبالغ معتبرة  دفاعاً عنه، لأن الكل يعرف بأنه غير مذنب في هذه القضية.

         أيضاً برز دور كبير لزملائه في سوق السجانة وشركة البيبسي كولا  في استقطاب الدعم اللازم لصالح نفقات لمحامي.                                                                                                       

وصل الخبر للأستاذ بابكر المحامي عن طريق أحد أقرباء جوزيف الذي كان يعمل في منزله، وأبدى تعاطفاً كبيراً مع المتهم في هذه القضية غير العادلة، فقدم نفسه دفاعاً عن المتهم بشرط أن تتحمل الأسرة نصف الأتعاب ويمكن سدادها بالأقساط. رغم خلفيته الإسلامية أثبت الأستاذ بابكر المحامي بأنه يقدس العدالة ويكره الظلم عكس سلوك كثير من زملائه في الحركة الإسلامية حيث قدم مرافعة قوية بهدف إسقاط التهمة..  

المتحري الرقيب أول بشير يُصر على أن المتهم جوزيف جون الملقب  بـ"يوسف" هو القاتل، بدليل أنه هو الجنوبي الوحيد الذي يسكن في اللاماب ويحمل هذا اللقب، وأن الحدث وقع في الساعة السابعة مساءً أمام منزل أهل المرحوم، وأن القاتل فرَّ إلى الاتجاه الغربي وهو نفس المكان الذي يوجد فيه المنزل الذي يسكنه المتهم في الشارع الرابع من بيت أهل المرحوم، وأن هذا الشخص تظهر عليه آثار الإجرام من كسر السنون وتفتيل العضلات، وأن مجموعة من المباحث قامت بمسح كامل داخل الحي ولم يجدوا أي جنوبي آخر في المنطقة يحمل هذا اللقب غير المتهم، ولذلك أوصى بإدانته تحت المادة 251 العقوبات قتل عمد. 

القاضي طلب إفادات الشهود... فتقدم الشاهد الأول وهو شقيق المرحوم الأصغر نصرالدين أحمد شريف، الذي يدرس الصيدلة بجامعة الخرطوم.   

         نصرالدين أدى القَسَم وأكد بأنهما كانا قادمين من النادي حوالي الساعة السابعة مساءً، وعندما وصلا باب المنزل وجدا شخصين يتبولان على سور المنزل، وعندما سألهما محي الدين لماذا يفعلان ذلك أخرج أحدهما سكيناً وطعن المرحوم، فسأله الشخص الآخر الذي كان مع الجاني: ليه قتلت الزول يا يوسف؟

 فرد يوسف: نجري بس، وفرا في الإتجاه الغربي، وبعد ذلك طلبت النجدة من المنزل وجاء الوالد ومعه آخرون، لكن وجدوا محي الدين قد فارق الحياة وتم نقله إلى المشرحة.

         قال هذا الكلام وبكى داخل قاعة المحكمة. القاضي طلب منه السكوت ولكنه استمر في البكاء، فأمر القاضي باقتياده إلى خارج القاعة.

         الشاهد الثاني هو والد المرحوم الشيخ أحمد شريف، وهو ضابط شرطة متقاعد قبل انضمامه إلى الحركة الإسلامية، وفيما بعد أصبح مسؤول التنظيم في المنطقة، حيث ذكر أنه كان داخل المنزل حينما سمع أصوات الشجار، وعندما خرج وجد المرحوم مُسجىً على الأرض وقد فارق الحياة، فنقلنا جثمانه إلى المشرحة بناءً على توجيه الشرطة للتشريح... أضاف: أنا كرجل شرطة سابق وأسكن هذا الحي طيلة الثلاثين عاماً الماضية ليس هناك شخصٌ يُدعي يوسف من أبناء جنوب السودان إلا هذا الرجل، الذي ظهر هنا قبل أربعة أعوام، ولذلك أعتقد بأن قاتل ابني هو هذا المجرم.

         الأستاذ بابكر المحامي يستأذن مولانا القاضي للحديث، وقدَّم نفسه بأنه وكيل المتهم وهو أستاذٌ جامعي ويعمل في المحاماة منذ عشرة أعوام، ويطلب من المحكمة شطب البلاغ نتجة لعدم وجود أدلة وأن تطابق اسم الجاني  بلقب جوزيف لا يجعله القاتل.

 يواصل المحامي قائلاً... سيدي القاضي، الإفتراض بأن القاتل يسكن في الحي الذي قُتِل فيه المرحوم أمر غير صحيح، يمكن لمجرم أن ياتي من مكان بعيد لينفذ جريمته ويفر، علاوة على ذلك مولانا القاضي طابور شخصية الذي مثل فيها جوزيف مع الأشخاص من شمال السودان، وخاصة في ظل وجود افتراض مسبق بأن لهجة القاتل التي قالت: (ليه قتلت الزول يا يوسف؟) هي جنوبية، يدل على وجود ترتب مسبق لتوريط جوزيف في التهمة التي  ليس هو طرف فيها، وأن هذا الرجل ليس له سوابق إجرامية في حياته، وأن أسنانه المكسورة ليس بسبب الإجرام، لكن بسبب حادث لقيامه بعمل شريف يدر منه دخلاً كريما لعيشةٍ كريمةٍ كعامل عتالة بالسجانة، وهذا بشهادة كثير من التجار، وأيضاً تفتيل العضلات ليس دليل إجرام، لكن حدث نتجة لطبيعة عمله وهو يرفع الأثقال في المغالق مثل السيخ والأسمنت والزنك، ولذلك مولانا القاضي ألتمس من حضرتك شطب هذا البلاغ والإفراج عن المتهم دون شرط.

القاضي يرفع المحكمة ويحدد الجلسة القادمة بعد شهر... وتوالي الجلسات.

         وقبل يومين من جلسة الإستماع الأخيرة، سقطت مدينة الكرمك بالنيل الأزرق في أيدي متمردي الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق، وانتشرت إشاعات بوصول تعزيزات عسكرية إلى مشارف ولاية الجزيرة، وربما العاصمة القومية الخرطوم، واتخذت أجهزة الدولة موقفاً ضد الجنوبيين، وأصبح ينظر إليهم كطابور خامس، وأخذت الحرب طابعاً عنصرياً ضد الجنوبيين خاصة أجهزة الدولة.

وفي هذا الجو المشحون، قدم المتهم جوزيف جون إلى قاعة المحكمة التي كانت ممتلئة بأصحابه، في نفس الوقت تتعالى الهتافات المضادة من أفراد أسرة المرحوم بالقصاص، والاستفزاز ضد الأستاذ بابكر المحامي واتهامه بالعمالة ومساندة المجرمين، دون علم بأن الدفاع حق يكفله القانون حتى للمجرمين الذين ينتهكون القوانين، لكن هذه الإدعاءات كان يبررها الوضع السياسي في البلاد.

         يواصل محامي الإتهام... هذه الأيام سيدي القاضي، نتيجة لما يدور في البلاد، كثرت حوادث أخوتنا الجنوبيين في الخرطوم، حيث تم قتل شخص في متجره بالكلاكلة، ولذلك لا نستبعد بأن هذا الحادث له علاقة بما يدور في البلاد، خاصة هجوم المتمردين على النيل الأزرق، ولذلك وحسب طلب أولياء الدم الذين أجمعوا بأن يتم إعدام المتهم شنقاً حتى الموت، أطلب من المحكمة الموقرة إصدار عقوبة الإعدام ضد المتهم.

 أصحاب جوزيف من التجار الشماليين الذين كانوا موجودين في الجلسة، يهتفون: الحرية الحرية لـ "يوسف" فهو ليس مجرماً ولم يكن هو القاتل.

 الأستاذ بابكر نهض واستاذن القاضي بالحديث:

سيدي القاضي، هذه القضية تنقصها البينات، وأي ربط لهذه القضية بما يدور في النيل الأزرق ليس له سند قانوني، ولذلك أطلب من المحكمة الموقرة شطب هذا البلاغ والإفراج عن المتهم فوراً.    

القاضي رفع الجلسة قليلاً لإجراء المشاورات، واستأنف الجلسة بعد نصف ساعة، وبعد الرجوع إلى القاعة،

حكم القاضي على جوزيف جون الملقب بـ"يوسف"، بدفع دية قدرها واحد وعشرين ألف جنيه، وفي حالة عدم الدفع يقضي المتهم عشرة سنين بالسجن. 

الكل غير راضٍ عن هذا الحكم، فأولياء الدم يرون بأن المحكمة لم توقع عقوبة الإعدام ضد المتهم، لكن أسرة جوزيف ترى بأن المحكمة ظلمته لأنه لم يكن هو القاتل وأن هذه القضية فيها تسييس، وكان من المفترض أن يتم إطلاق سراح جوزيف فوراً نتجة لغياب الأدلة التي تدعم الإدعاء بأنه هو القاتل.

***

الجديد الذى ننتظره حلمي النمنم

يُطلعنا د. محمد حسين هيكل (باشا)، في مذكراته السياسية، على الكثير من خبايا جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتى انتهت بصدور القرار ١٨١ الخاص بتقسيم فلسطين.معظمنا يعرف هيكل (باشا)، صاحب رواية زينب، الرواية العربية الأولى المكتملة فنيًّا ودراميًّا، وإن لم تكن الأولى تاريخيًّا، والتى أصدرها وهو شاب- سنة 1914 - هو أيضًا الليبرالى، صاحب كتاب «جان جاك روسو» في جزءين، وهو من أهم ما كُتب عن روسو قاطبة، لذا شاهدت صورة ضخمة لهيكل في مدخل متحف روسو في مدينة جنيف، وهو كذلك صاحب الدراسات المتميزة في مجال الإسلاميات، مثل «حياة محمد».. «فى منزل الوحى».. «الفاروق عمر» وغيرها.لكن تاريخ حسين هيكل السياسى جرى تجاهله مع الكثير من تاريخنا، خاصة في السنوات الأخيرة من العصر الملكى برموزه وأحداثه.كان هيكل رئيس حزب الأحرار الدستوريين حين قامت ثورة يوليو 52، وترأس مجلس الشيوخ، وتولى وزارة المعارف، وفى سنة 1947، اختاره رئيس الوزراء، محمود فهمى النقراشى، كى يترأس وفد مصر في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة قضية فلسطين، خاصة أن لجنة شكلتها الجمعية لدراسة الملف، انتهت إلى التوصية بتقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقسام، قسم لليهود بنسبة 55 % من مساحة فلسطين، ويضم الساحل، بما فيه عكا وحيفا، ويترك للعرب يافا فقط على الساحل، أما القدس فتخضع لإدارة دولية.انزعجت الدول العربية، واحتشدت في الأمم المتحدة للدفاع عن عروبة فلسطين. العراق أرسل نورى السعيد على رأس الوفد، صاحب السمو الملكى الأمير فيصل بن عبدالعزيز ترأس وفد المملكة السعودية، مصر باتفاق الملك فاروق ورئيس الوزراء تكلف هيكل، وهو يومها رئيس الاتحاد الدولى للبرلمان، صاحب صلات دولية عتيدة، فضلًا عن أنه كان رئيسًا لتحرير جريدة السياسة الأسبوعية فترة طويلة، وله صلات جيدة بالصحافة الغربية، وكان محمود فوزى، وزير الخارجية الأشهر في زمن عبدالناصر، عضوًا بالوفد.نشطت الوفود العربية، ونشط وفد باكستان تحديدًا، وكان رئيسه، ظفرالله خان، من أشد المدافعين عن عروبة فلسطين، لديه إلمام واسع بتاريخ فلسطين وتفاصيل ما جرى فيها من بريطانيا والمنظمات الصهيونية، لكن صدمهم جميعًا الرئيس الأمريكى ترومان، الذي أعلن في كلمته بالجلسة الافتتاحية لاجتماعات المنظمة الدولية تأييده وتأييد بلاده مشروع التقسيم، بما أضفى حالة من التشاؤم على المشاركين العرب، حاول وزير الخارجية الأمريكى تخفيف صدمة رؤساء الوفود العربية بالقول إنهم مازالوا يفكرون، ودعاهم إلى جلسة عشاء، واستمع منهم إلى أسباب اعتراضهم على فكرة التقسيم، وأثبتت الأيام صحة مخاوفهم وتوقعاتهم، الأمير فيصل وكذا نورى السعيد قررا أن القرار سيشعل حربًا دائمة في المنطقة، د. هيكل أضاف أن التقسيم سوف يشعل أجواء العصور الوسطى والحروب الدينية مجددًا في المنطقة، وذكّر الأمريكيين بالحروب الصليبية، التي دارت معظمها في فلسطين، حول القدس، خاصة أن إسرائيل تتأسس وفق تصور دينى.وسط هذا كله، شرح رئيس وفد الإكوادور، لرئيس الوفد المصرى، وكانا صديقين، صعوبة الموقف العربى، واقترح عليه أن يقدموا مشروع قرار خاص بهم، وليكن قرار الفيدرالية في فلسطين، على غرار سويسرا.كان هناك مشروع وحيد مقدم، وهو التقسيم. قبلها بشهور، كان قرار مماثل قد صدر بخصوص تقسيم الهند، وتم تنفيذه بدماء غزيرة، في العادة إذا كان هناك مشروع واحد يتم غالبًا إقراره، حتى لو تعددت جولات التصويت، أما إذا كان هناك أكثر من مشروع يمكن التوفيق بينها، وربما تأجيل التصويت على أي منها، وإذا حدث ذلك يكون العرب قد كسبوا بعض الوقت حتى يتدبروا الأمر، طرح رئيس الوفد المصرى الاقتراح على عدد من رؤساء الوفود العربية، وتحدثوا مع ممثل فلسطين، «جمال بك الحسينى»، وكانت الأمم المتحدة قد دعته إلى الحديث عن فلسطين، كما دعت د. حاييم وايزمان، وكان كهلًا، إلى الحديث عن اليهود.كان الاقتراح خارج دائرة تكليف واختصاص رؤساء الوفود العربية، ولم يكن يحق لأى وفد عربى أن يتقدم بمشروع باسم فلسطين، وما كان الفلسطينيون يقبلون بذلك.رئيس الوفد المصرى كان متابعًا جيدًا للقضية منذ صدور وعد بلفور، ولديه الكثير من الخبايا. قبل الاجتماعات الأممية، أصدرت سلسلة اقرأ التابعة لدار المعارف كتاب «قضية فلسطين» للمؤرخ المصرى المعروف «محمد رفعت بك»، في أغسطس من السنة نفسها، وبه متابعة القضية بالتفصيل منذ نهاية القرن التاسع عشر، وأنهاه باحتمالات أربعة لمسار القضية.كان مشروع التقسيم أحدها، لكن لم يكن بمقدور غير الفلسطينى أن يأخذ بأى اقتراح، لذا اقتصر دور العرب على رفض قرار التقسيم، ومحاولة تعطيل إصداره، لكن أمام نصيحة الصديق الإكوادورى، وضعوا الأمر أمام صاحب الحق الأصيل، لذا طلبوا من «جمال» أن يسافر فورًا إلى بيروت، ويجتمع بالحاج أمين الحسينى في أي مكان، ويعرض عليه الأمر، ويعود منه باقتراح مشروع فلسطينى مقابل مشروع التقسيم، رفض جمال الحسينى قائلًا إن ذلك يُعرضه للاتهام بالخيانة، وقد يُقتل.وهكذا مر قرار التقسيم بضغوط الرئيس الأمريكى شخصيًّا، كان رئيس وفد الفلبين- كما يذكر هيكل- مدافعًا قويًّا عن فلسطين، فاتصل الرئيس الأمريكى برئيس الفلبين، مهددًا، مما ألزم رئيس الوفد الفلبينى الصمت المطبق، وحدث شىء مشابه من ترومان مع عدة دول أخرى، (من ترومان إلى جو بايدن لا فارق)، ومر القرار دون أغلبية، لكن عدد الموافقين (33) تجاوز ضعف عدد الرافضين (13)، فاعتُبر صحيحًا.من الدول التي صوتت بالاعتراض، إلى جوار الدول العربية وكذا الإسلامية، الهند واليونان، ومن الدول التي وافقت الصين والاتحاد السوفيتى، وامتنعت بريطانيا عن التصويت وكذا إثيوبيا.هذه التفاصيل كلها ليست بكاء على لبن سُكب مرات عديدة في تاريخنا، ولا هي من باب التبكيت التاريخى، ولا حتى من باب التساؤل الوجودى: «ماذا.. لو؟»، لكنها تفاصيل ترتبط باللحظة الراهنة في فلسطين، وقد تكون مفيدة.حرب الطوفان كشفت أن الجيش الإسرائيلى استهدف المدنيين فقط، لم يكن يستهدف قادة حماس، كما ذكر رئيس الوزراء الإسرائيلى. هذه الحرب هي أقل المواجهات استهدافًا لقادة حماس، لكنها ركزت على المواطنين المدنيين، الذين لم يشاركوا في عملية الطوفان، ولا تمت استشارتهم فيها من قبل ولا أخذ رأيهم فيها، ولا مَسَّ أحدهم إسرائيليًّا بأذى، مدنيًّا كان أو عسكريًّا، المؤكد أنهم فوجئوا بها مثل كثيرين، ومع ذلك قُتل منهم أكثر من 14 ألفًا، معظمهم أطفال ونساء وشيوخ، والمصابون أكثر من ضعف هذا الرقم، أي أننا إزاء قرابة 50 ألفًا ما بين شهيد وجريح، ناهيك عن مئات الآلاف من المشردين خارج بيوتهم، وهناك تدمير كامل للبنية الأساسية في غزة من مدارس ومستشفيات وغيرها، إنه شىء أقرب إلى ما وقع في هيروشيما ونجازاكى باليابان ومدينة درسدوف الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية، ذلك هو تاريخ الغرب في الحروب والصراعات، لا يُحدثنا أحد عن حقوق الإنسان وعن حرمة حياة المدنيين، تذكروا دائمًا مقتل نصف مليون عراقى في مطلع هذا القرن.ومع ذلك، هناك في الجانب العربى بعض الممتعضين من الهدنة، التي بدأت صباح الجمعة الماضى، بجهود مصرية وقطرية حثيثة، جاءت الهدنة مطلبًا للفصائل الفلسطينية وكذا إسرائيل. أحد الكُتاب العرب اعتبر الهدنة خطأً وخطرًا، كاتب آخر يحتج بأنه لم يتم إطلاق «كل الأسرى العرب».القتال حتى «آخر مدنى فلسطينى» موقف مدمر، بل موقف صهيونى. إذا كانت مصر قد تصدّت لمخططات التهجير القسرى وتصفية القضية، فإن القتال إلى آخر مدنى فلسطينى تصفية أخرى لها، إنهاء للوجود الفلسطينى.المشكلة الآن ألّا يتكرر موقف جمال الحسينى مجددًا، وألّا تتكرر معركة الحاج أمين الحسينى مع راغب النشاشيبى سنة 1936، بما هدد بأن تتحول الثورة الفلسطينية الكبرى إلى ما يشبه الحرب الأهلية، ويذهب فريق إلى أن الوطن القومى لليهود أفضل له من الفريق الآخر (الفلسطينى)، يجب ألّا تذهب كل تضحيات الفلسطينيين هذه المرة هباء، وتكون وقودًا لخلافات الفصائل والسلطة.هل نجد مشروعًا وطنيًّا فلسطينيًّا معلنًا يجتمع حوله الكل الفلسطينى، ويكون له رمز وطنى ودولى كبير ومسموع، مثل سعد زغلول في مصر وغاندى في الهند ومانديلا في جنوب إفريقيا وبن بلة في الجزائر؟

أما بعد حلمي النمنم

كل حروبنا مع إسرائيل، بغض النظر عن نتيجتها العسكرية، كانت تنتهى إلى حروب أهلية داخلية، عربية-عربية حينًا وحروب داخل كل بلد أو قطر، ليست بالضرورة حروبًا عسكرية، ولكن سياسية وثقافية في المقام الأول، وأظن أن تلك هي النكبة الحقيقية.وارد أن يُهزم أي جيش في معركة ما، الجيش الأمريكى هُزم في فيتنام، الجيش السوفيتى هُزم في أفغانستان، واضطر إلى الانسحاب تلقائيًّا، دونما اتفاق أو تفاوض مع الطرف الآخر.الهزيمة في حرب ١٩٤٨ كانت شبه يقينية لدى فريق من المطلعين على الأمور جيدا، لذا رفضوا دخولها في البداية، مثل النقراشى وإسماعيل صدقى باشا، بل حتى قيادات الوفد، كانت الزعامات المصرية على دراية كاملة بالقضية الفلسطينية منذ أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وكانوا على تواصل بالقيادات الفلسطينية سواء جناح الحاج أمين الحسينى أو الجناح المناوئ له، جناح «النشاشيبى».محمد فراج طايع، أول وزير خارجية في عهد اللواء محمد نجيب، نشر مذكراته في مطلع الستينيات وفيها هجوم شديد على الحكام العرب سنة ٤٨، الذين تجاهلوا رأى دبلوماسييهم في القدس بخطورة الوضع في فلسطين والتحذير من دخول الحرب، كان الوزير «طايع» أحد هؤلاء، حيث كان بالقنصلية المصرية في القدس وقتها، كان لديها نفس تقدير الموقف حربيًّا.إسرائيل كانت قائمة بالفعل وعلى الأرض قبل الحرب، وحتى قبل صدور قرار التقسيم بسنوات بعيدة، «تل أبيب» العاصمة بُنيت منذ سنة ١٩٠٩، لديهم جيش قوى، مدرب ومسلح، عندهم جهاز مخابرات نشط منذ نهاية العشرينيات، لديهم إذاعة وصحف، فضلًا عن سائر مؤسسات الدولة، كان ينقصها فقط الإشهار ورفع العَلَم والحصول على الاعتراف الأممى.لكن ما إن انتهت الحرب، حتى نسى الجميع «الكيان الصهيونى»، وتجاهلوا «إسرائيل المزعومة»، أكثر من ذلك تجاهلوا مستقبل فلسطين ومصير شعبها، وتفرغوا لحروب أهلية، افتتحها الراحل إحسان عبدالقدوس بحملته الشهيرة حول ما سماه «الأسلحة الفاسدة»، وهلّل الجميع للحملة نكاية في الملك فاروق، الذي صار أشبه بلوحة التنشين في ساحة التدريب على إطلاق الرصاص، ليس داخل مصر فقط.كتاب الصحفى الإسرائيلى رون بيرجمان «اقتل أولًا»، صدر سنة ٢٠١٨، الكتاب عن التاريخ الدموى لجهاز الموساد، حتى قبل قيام الدولة، وأنه جهاز يفضل القتل، حتى لو لم تكن هناك ضرورة لذلك، ورد فيه أن «بن جوريون» تصور مشكلة إسرائيل في الحكام العرب الذين دخلوا الحرب مع إسرائيل، لذا قرر قتلهم جميعًا، حتى مَن كان لا يمانع في الصلح والسلام مع إسرائيل، مثل الزعيم اللبنانى رياض الصلح، على هذا الأساس وصلت خلية من الموساد إلى القاهرة بهدف واحد، هو اغتيال مَن أعلن الحرب على إسرائيل الملك فاروق، ولما أطاح به محمد نجيب، وغادر مصر يوم ٢٦ يوليو ٥٢، تم تعديل الخطة، اكتشف بن جوريون أن الحكام الجدد أكثر رفضًا له من النظام الملكى، كُلفت مجموعة الموساد بالعمل في الداخل، والاستعانة باليهود المحليين، وقامت الخلية بتنفيذ العملية «سوزانا»، التي عُرفت إعلاميًّا باسم «فضيحة لافون»، حيث تم الكشف عنها، وأُلقى القبض عليهم جميعًا.لم يقتصر الأمر على الملك فاروق، جرى تبادل الاتهامات والطعن في الوطنية إلى النخب الثقافية، اتهم لطفى السيد وطه حسين، مازالت الاتهامات قائمة إلى اليوم، لفقت الصحافة العربية اتهامات للفنانة ليلى مراد بالتبرع ماليًّا لدولة إسرائيل، ثم انتقل الاتهام ونُشر في بعض الصحف المصرية التي برعت في إضافة البهارات إليه، ولما اتسعت مساحة الاتهامات قامت القوات المسلحة بالتحقيق في كل ما قيل، وتبينت براءة ليلى مراد وعُرفت الحقيقة، لكن بعد انكسار روح الفنانة المصرية العظيمة.خارج مصر، جرى اتهام ملك الأردن، عبدالله الأول، وتم اغتياله عند باب المسجد الأقصى يوم ٢٠ يوليو ١٩٥١، وتحققت أمنية بن جوريون، ولأن طاحونة التخوين والاتهامات لم تتوقف، جرى اتهام الفلسطينيين بأنهم هم مَن باعوا الأرض والوطن لليهود، لم يتردد بعض الحمقى في اتهام شعب بأكمله بالخيانة، ورد فريق من الفلسطينيين بأن فلسطين ضاعت بسبب خيانة العرب، خاصة الحكام، وأنهم كانوا قادرين من البداية على إنهاء الوجود الإسرائيلى على أرضهم، لكن «الحكام العرب» كانوا يتدخلون لمنعهم، سرديات كاملة من التخوين وأبشع الاتهامات نحو الجميع وفى كل الاتجاهات، لا تزال أصداؤها بيننا إلى اليوم.وهكذا حروب أهلية على كافة المستويات، دون الالتفات إلى الضفة الأخرى من النهر. وزعم كل فريق أنه كان بصدد القضاء على الكيان لولا أن خصومه السياسيين منعوه، وكانوا في ذلك بين مُدَّعٍ أو كاذب أو مُغَيَّب عن الحقيقة.تم التحقيق في قضية الأسلحة الفاسدة زمن الملك، ثم زمن محمد نجيب، وثبت في المرتين زيفها، لكن أحدًا لم يجرؤ على أن يرفع صوته خشية أن يُتهم بالدفاع عن «الملك الخائن» أو أن يقر بقوة «الكيان الصهيونى»، وهكذا الحال في سائر الأقوال- الاتهامات والأحكام- الأخرى.حين كان «على صبرى»، وزير دولة برئاسة الجمهورية بعث خطابًا إلى إحسان عبدالقدوس يلفت انتباهه بلطف إلى أن مسألة الأسلحة الفاسدة ليست صحيحة، فغضب إحسان بشدة من الخطاب وصاحبه.ما حدث بعد حرب ٤٨ تكرر مع كل حرب من «العدوان الثلاثى» سنة ٥٦ إلى حرب أكتوبر، لا فارق بين هزيمة أو نصر. انتصرنا في ٥٦ وفى ٧٣، في حرب الاستنزاف لم نُهزم ولم نحقق نصرًا كبيرًا، أثبت الجيش المصرى أنه لم ينتهِ مع هزيمة ٦٧، بل أُعيد بناؤه، وصار قادرًا على المواجهة وندًّا قويًّا، في حرب أكتوبر كان نصرنا كبيرًا وعظيمًا.بعض محاضر اجتماعات الرئيس عبدالناصر بعد هزيمة يونيو ٦٧، ثم أثناء حرب الاستنزاف العظيمة، تكشف معاناة الرجل من تلك الحالة عربيًّا وداخل مصر.في أكتوبر ٧٣، حققت القوات المسلحة المصرية إنجازًا ضخمًا يوم السادس من أكتوبر، لكن الحروب الأهلية نشبت أثناء الحرب وبعدها، حتى إن كاتبًا كبيرًا أصدر كتابًا اعتبر الحرب مسرحية مدبرة بين السادات وجولدا مائير برعاية هنرى كيسنجر.في كل مرة تطغى الخلافات السياسية والأيديولوجية، تسود الصراعات والإحَن أو الأحقاد الخاصة، وربما بعض المطامح والتطلعات الشخصية الصغيرة، فضلًا عن الولع بالمكايدات الشخصية والسياسية.ومنذ حرب السابع من أكتوبر الماضى، ونحن نتابع شرر الحروب الأهلية العربية، الحرب لا تزال قائمة، وفيما يبدو أنها لن تتوقف قريبًا، وقد تصبح حرب استنزاف، يوم اندلاعها أثار إعلام مكايدة الدولة المصرية مسألة أن مصر كانت على علم مسبق بالعملية، وأنها نبهت إسرائيل وأحاطت حكومتها علمًا، وهذا يعنى- بين السطور- اتهام الدولة بالتعاون والتنسيق التام مع إسرائيل ضد الفلسطينيين، على مستوى الشارع المصرى والعربى هو اتهام بالخيانة، لكن هذا الاتهام يعنى عمليًّا اتهام الحكومة الإسرائيلية أمام شعبها بالتقصير والخيانة، لذا رد بنيامين نتنياهو في بيان حمل تكذيبًا حادًّا وقاطعًا، الغريب أن مَن روجوا تلك الأكذوبة خرسوا تمامًا أمام تكذيب نتنياهو، وهم عادة لا يأبهون بأى تكذيب. ثم هبّت علينا ميليشيات افتحوا الحدود أمام إخوتنا، ونجحت الدبلوماسية المصرية في إثبات «صهيونية» هذا المطلب أو الطرح.ورغم أن الدماء لا تزال تتدفق في غزة والضفة أيضًا، ورغم أن أداء الدولة المصرية في مستوى رفيع من الوطنية وحماية الحق المصرى وكذا الحق الفلسطينى، فإن أبواق المزايدة والكيد الرخيص لم تتوقف، ليس على المستوى المصرى فقط، لكنها ممتدة في كل ناحية. ألسنة الحروب الأهلية تبدو في كل بقعة حولنا وبيننا.يومًا ما، نرجوه قريبًا، ستتراجع المذابح، فهل نتفرغ وننساق إلى الحروب الأهلية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وفنيًّا واقتصاديًّا، ونتجاهل الطرف الآخر كما في كل مرة أم نتجه إلى المستقبل لاستكمال المشروع الوطنى المصرى والحفاظ عليه؟.لقد أكدت الأحداث الأخيرة أن المشروع الوطنى ليس حذلقة سياسية ولا وجاهة فكرية، كما يتراءى للبعض، بل هو ضرورة وجودية، كما أنها وجوبية.ومن ضرورات المشروع الوطنى المصرى العمل على إقامة دولة فلسطينية، مستقلة، معترف بها أمميًّا، تتجمد بقيامها بحيرات الدم، وتزول الروح العنصرية المقيتة، وتتراجع دوافع الإرهاب، أيًّا كان مصدره ومَن يرتكبه وأيًّا كان اسمه وشكله أو اللافتة التي يختبئ خلفها.

بحيرات الدم حلمي النمنم

مَن لديه إحاطة، ولو محدودة، بالثقافة والفكر الغربى يدرك بعض الملامح الأساسية فى ذلك الفكر، بعضها إيجابى وبَنّاء، نعرفه وندرسه، منذ رحلة أو بعثة رفاعة رافع الطهطاوى الشهيرة إلى فرنسا فى زمن محمد على.وفيها كذلك ما هو سلبى ومدمر، من ذلك كراهية عميقة لليهود، اليهود كأفراد ومجموعات بشرية وليس الديانة اليهودية، راجع- مثلًا- شخصية «شيلوك»، المُرابى المجرم فى مسرحية وليم شكسبير «تاجر البندقية». فى عديد من الأعمال الأدبية والفكرية الأوروبية من السهل أن تجد إشارات ازدراء لليهود، ليس من باب التفكه والتندر، بل من باب الكراهية البغيضة والعنصرية المباشرة.فيما بعد، ومع نهاية القرن التاسع عشر، سوف يتم تصنيف ذلك كله تحت اسم «العداء للسامية»، خاصةً أن ذلك الازدراء انتقل إلى الشارع، وربما كان موجودًا من قبل، واقعة الجندى الفرنسى/ اليهودى «دريفوس» كانت كاشفة ودليلًا على ذلك العداء، جرَت الواقعة فى فرنسا، ولم تقع فى مصر ولا شرق «المتوسط».إلى جوار هذه الكراهية، هناك كراهية شديدة للإسلام دينًا ونبيًّا وتاريخًا، ليس صحيحًا أن ذلك مرتبط بحالة «الإسلاموفوبيا»، التى تفشت مع جريمة ١١ سبتمبر وشبح أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة (الإرهابى).الجذر الثقافى قديم، لن نتوقف أمام كثير من أعمال المستشرقين، التى تنضح بالكراهية والخلل العلمى والمعرفى الشديد، لكن هناك أعمال أدبية وفنية كاشفة، مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتى، ودون كيخوته للإسبانى سيرفانتس، ومسرحية فولتير الشهيرة عن النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- ولما كان الإسلام الأول عربيًّا، ثقافة وفكرًا وحضارة، لذا تجسد ذلك فى كراهية العرب بالمجمل.أولئك الذين صنعوا ذلك التاريخ، خاصة فى حواضره الكبرى، بلاد الشام ومصر والعراق، حيث الدول الأموية والعباسية ثم الفاطمية وكذا الأيوبية والمملوكية، حقبة الحروب الصليبية تجسد تلك الكراهية. جرى معظمها على أراضى فلسطين ومصر، تاريخيًّا حسم أمر تلك الحملات فى مصر وفلسطين، ما بين المنصورة ودمياط والقدس.ما قام به الغرب من إزاحة سكان الأندلس، وكانوا جميعًا من المسلمين واليهود، يعكس ذلك التوجه الثقافى الدفينالعصر الحديث، لم تسقط تلك الكراهية، ولكن جرى التعبير عنها بطرق مختلفة، طريقة أودلف هتلر، الزعيم الألمانى، بالتخلص المباشر من اليهود فى أفران الغاز، خلال الحرب العالمية الثانية، وقد ثار نقاش مطول حول عدد مَن أُحرقوا والمواد التى استُعملت، بالمناسبة طُرح هذا النقاش داخل أوروبا أولًا، ثم انتقل إلينا، وهذا لا يؤثر كثيرًا، إحراق مواطن واحد جريمة كبرى، فما بالنا بمَن يحرق ملايين، أيًّا كان الرقم!.كان هتلر عنصريًّا يكره اليهود ويرغب فى التخلص منهم، ولكن على طريقته النازية، أى الإبادة الجماعية.بقية الغرب أو أعضاء ما يسمى «العالم الحر» لديهم نفس الثقافة تجاه اليهود، ولكن بغير الطريقة النازية، لذا قرروا التخلص منهم بطريقة أخرى، وهى إزاحتهم من أوروبا والولايات المتحدة، بلاد الغرب عمومًا إلى بلاد الشرق، بلاد العرب فى فلسطين تحديدًا، حيث قبر ومجد صلاح الدين الأيوبى، وهنا تكون المحرقة للاثنين معًا، اليهود والعرب، ويتخلص الغرب بذلك من الإحن والعقد الثقافية التى تحكمه. يحدث ذلك باسم الحب لليهود والتعاطف معهم، تم اختزال اليهود فى اتباع وأهداف الحركة الصهيونية.قبل وعد بلفور بسنة- ١٩١٦- صدر وعد ألمانى مشابه من قيصر أو إمبراطور ألمانيا «فيلهم الثانى»، نعرفه نحن باسم «غليوم الثانى»، ولما كانت الهزيمة فى انتظار ألمانيا جرى تجاهل وعده من المنظمة الصهيونية والتمسك بوعد لورد بلفور، وزير الخارجية البريطانى.حين صدر وعد بلفور، ثم بدأ تنفيذه مع الانتداب البريطانى على فلسطين، كان واضحًا للجميع أن الدم ينتظر ذلك الوعد، كانت فلسطين مزدحمة بالأهالى، كانت الكثافة السكانية فى القدس وقتها تفوق الكثافة السكانية فى مدينة نيويورك وفق تقرير علمى موثق، لكنهم زعموا أن فلسطين أرض بلا شعب، كانوا يعرفون ويدفعون الأمور نحو القتل والدم، دماء العرب واليهود، كان ممكنًا، بل واجبًا، بذل الجهود لتلافى ذلك بدفع الأمور نحو التعايش والتفاهم فى فلسطين.وكان ذلك يسيرًا، هناك العديد من الشواهد عليه داخل فلسطين نفسها وبين الفلسطينيين، سواء فى القرن العشرين أو قبل ذلك بقرون، ذلك أن أرض فلسطين تضم تاريخًا روحيًّا عميقًا ومقدسات إسلامية ومسيحية ويهودية، من ثَمَّ هى أرض التعايش والتوادّ والتسامح، لكن مع خفة واستسهال، لنقل استهبال، تصير أرض الدماء الغزيرة، وهذا ما جرى العمل عليه مع الانتداب البريطانى، تمت إثارة النفوس وإسالة المزيد من الدماء.ليتنا نتذكر أن فكرة تقسيم فلسطين فى الأصل مقترح بريطانى أُعلن سنة ١٩٣٦، كان ذلك قبل نشوب الحرب العالمية الثانية وقبل توحش هتلر وقيامه بالمحرقة، كان ذلك الاقتراح أحد أسباب الثورة الفلسطينية الكبرى فى السنة نفسها، وبدلًا من تفهم الوضع، أخفت بريطانيا الاقتراح فى الأدراج انتظارًا لفرصة ثانية، أفكارهم ومشروعاتهم لا تموت، يمكن أن تُرجأ فقط.وليس صحيحًا ما يتردد فى الأدبيات العربية، خاصة فى الأيام الأخيرة، من أن الدم تدفق مع قرار التقسيم فى نوفمبر سنة ١٩٤٧ ثم حرب ١٩٤٨ وإلى يومنا هذا.. الدماء تسيل على أرض فلسطين منذ مائة عام. كانت أحداث البراق سنة ١٩٢٩، وقد سبقتها بسنوات صدامات وأعمال عنف حول القدس وفى مدينة الخليل، كل تلك الوقائع كانت تنذر بالخطر القادم، لم يكن اللهب تحت الرماد، بل كان قريبًا جدًّا من السطح، بوادر الاشتعال كانت ظاهرة للعيان، لكن دول الغرب، وفى مقدمتها «بريطانيا العظمى»، دفعت نحو المزيد من التفاقم والدماء. فعلت ذلك عن قصد.واليوم، يجب ألا نندهش من موقف الرئيس جو بايدن، منذ يوم السابع من أكتوبر، تصرف باعتباره طرفًا رئيسًا فى القتال وليس صانعًا ولا راغبًا فى السلام، قدم السلاح والذخيرة إلى إسرائيل، أرسل حاملة الطائرات جيرالد فورد، ثم غواصة نووية إلى ساحل «المتوسط» قبالة فلسطين، أعلن أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها، هدد الدول المجاورة من محاولة التدخل فى القتال، يحاول الضغط على الدولة المصرية للقبول بتفريغ غزة من سكانها، ثم فوجئنا بوجود قاعدة عسكرية أمريكية فى صحراء النقب على بُعد ٣٢ كيلومترًا من غزة، تضم القاعدة رادارًا يرصد أى طيران أو صواريخ تحاول أن تتجه نحو إسرائيل، كل هذا، ولا يضغط لوقف إطلاق النار.نصف هذا الجهد أو ربعه كان يكفى لمنع اشتعال النيران، خاصة أن لدى الإدارة الأمريكية قنوات اتصال مع القيادة السياسية لحماس منذ سنوات، تصريحات السفير القطرى لدى الأمم المتحدة واضحة بأن الإدارة الأمريكية طلبت من قطر استضافة قيادة حماس ليسهل التواصل معهم.حتى بعدما وقع يوم السابع من أكتوبر الماضى، كانت هناك طرق أخرى عديدة للرد والردع، لكن الهدف العميق هو الإبادة وإقامة المحرقة للعرب واليهود معًا.سوف تنتهى هذه الحرب، لكن لن تكون آخر الحروب ولا آخر العمليات الدموية، حتى «لابيد»، زعيم المعارضة فى إسرائيل، قال، مساء الخميس، على قناة العربية، إنه مع حل الدولتين، لكن الطريق إليه «طويل وبالغ التعقيد»، أى لا تتوقعوا قيام الدولة الفلسطينية قريبًا، هو استعمل جملة أن حل الدولتين لن يتحقق «فى المنظور القريب». هو تعبير مفتوح، هذا المنظور قد يمتد إلى جيل أو نصف قرن، وربما لقرن آخر.أما عن المقاومة الفلسطينية وحماس تحديدا، وما قامت به، فإن القضية الفلسطينية قائمة وملف الدم مفتوح قبل ظهور حماس بأكثر من أربعة عقود، وتؤكد الوقائع أن حماس لا تسيطر على الضفة الغربية، حيث تتواجد السلطة الوطنية الفلسطينية، ورغم ذلك قتلت إسرائيل أكثر من ١٦٠ فلسطينيا فى الضفة منذ اندلاع الحرب الأخيرة، كما أن حماس لا تسيطر على القدس ودائما المواجهات مشتعلة بها.يعلمنا التاريخ أن كل احتلال يفرز المقاومة التى يستحقها وتليق به، فالاحتلال البريطانى للهند أفرز زعيما فى قامة غاندى، وفى مصر مصطفى كامل ثم سعد زغلول وثورة سنة ١٩١٩.الاحتلال الإسرائيلى، الذى لم يحتمل إسحق رابين ولا ياسر عرفات، وتخلص منهما، الأول بالرصاص والثانى كما تردد بالسم، عليه أن يستقبل وينتظر ما بعد حماس والجهاد والشعبية، على الناحية الأخرى، هم يقدمون السلاح ويسعدون ببحيرات الدم عربيًّا ويهوديًّا. البحيرات لن تجف قريبًا. لم تمتلئ بعد.

فلسطين ليست الأندلس حلمي النمنم

اختفت الأندلس من الواقع الإنسانى والسياسى والاجتماعى.. لم يختفِ الاسم فقط، بل اختفى وزال كل شىء، بقى منها بعض الأطلال وبعض المشاهد للذكرى فقط، ولدينا التراث الأدبى والثقافى الأندلسى الذي يذكّرنا بفداحة الخسارة الإنسانية.حين هُزم الجيش العربى أمام جيش فرديناندو وإيزابيلا، بقيت الأندلس.. وحتى حين وقّع آخر الأمراء معاهدة الصلح وغادر بلاده، كان هناك المجتمع والثقافة الأندلسية العظيمة.. حدث الزوال مع التهجير القسرى أو الطرد الجماعى لسكانها.في البداية، فُرض عليهم تغيير دينهم، لكن بقيت ثقافتهم وبقى وجودهم الحضارى.. هنا نشأت محاكم التفتيش لتتتبعهم، وصل الأمر إلى أن من كان يرتدى ملابس بيضاء يوم الجمعة يُتهم ويحاكم.. أخيرا كان القرار المفزع بإجبارهم على مغادرة البلاد نهائيا.. هناك من ذهبوا إلى المغرب وإلى الجزائر وتونس، احتفظوا بتسمية «الموريسكيين»، وهناك من جاءوا إلى مصر بأعداد كبيرة، كانوا مسلمين وكانوا يهودا.الطرد كان من نصيب الاثنين معًا، أحسنَ المصريون استقبالهم فعاشوا واندمجوا، ذابوا وسط المصريين، تمصروا تماما، من هؤلاء كان «أبوالعباس المرسى»، المتصوف الذي أحبه أهل الإسكندرية، وصار من رموزها وأعلامها إلى اليوم. أصدرت عنه مؤخرا الروائية الموهوبة ريم بسيونى روايتها «ماريو وأبوالعباس».ربما كان حظ أهل الأندلس الذين وفدوا إلى مصر أفضل من أولئك الذين ذهبوا إلى بلاد أخرى، خاصةً جنوب فرنسا أو العالم الجديد.. في بعض البلدان قُبض عليهم وعرضوا في أسواق العبيد.. في النهاية، ذابت الأندلس واختفت باختفاء أهلها. أذيب شعبٌ بأكمله واختفى من الوجود، ربما كان ذلك واردًا في العصور القديمة والوسطى ومطلع العصر الحديث.ويبدو أن هناك إصرارًا غربيًا بريطانيًا وأمريكيًا وإسرائيليًا، في المقام الأول، على تكرار النمط نفسه في فلسطين، لكن عبر خطوات ومراحل وأجيال.في العام ١٩٤٧، صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم القارة الهندية إلى دولتين هما: الهند وباكستان، على أن تضم باكستان المسلمين، وتقسيم فلسطين إلى دولتين: دولة لليهود وأخرى للعرب. وكانت بريطانيا تحتل الهند وتحتل فلسطين أو صاحبة الانتداب عليها، كانت بريطانيا قد بدأت في تصفية بعض مستعمراتها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث أفلت شمسها وتقدمت الولايات المتحدة.. في حالة الهند، حرصت بريطانيا على أن يتم إعلان قيام واستقلال الهند وباكستان قبل أن تخرج من هناك، ورسمت الحدود بين الدولتين بإقناع قيادات ورموز كل جانب من الإمبراطورية، وتم توزيع السكان في بعض مناطق التماس.. طبعا، وقعت مآسٍ ومجازر مع تلك الحركة، لكن في النهاية هناك دولتان معترف بهما، وإنْ عُلِّقت بعض مشاكل الحدود، مثل تلك التي نراها في مناطق عديدة حول العالم.في فلسطين، فعلت بريطانيا العكس، قررت الانسحاب من فلسطين نهائيًا قبل منتصف مايو سنة ١٩٤٨، خرجت بريطانيا دون ترتيب الأوضاع، ودون تنفيذ قرار التقسيم، دون حتى إجراءات تسليم وتسلم... في مصر حين كانت بريطانيا تخرج من مدينة كانت تقوم بعملية تسليم للسلطات المحلية والحكومة الوطنية، فعلت ذلك بعد تصريح ٢٨ فبراير سنة ١٩٢٢، ثم بعد معاهدة ١٩٣٦، وأخيرا بعد توقيع معاهدة الجلاء سنة ١٩٥٤.في فلسطين، يمكن القول إنهم هربوا وتركوا السكان أبناء الوطن وكذلك المهاجرون اليهود، كانت بريطانيا تعلم أن الأمور متفاقمة وستنفجر حتما في فلسطين، ويبدو أن ذلك ما كانوا يسعون إليه.نظريًا، تركت بريطانيا الفلسطينيين واليهود يواجهون بعضهم البعض، وأشاعوا وقتها أنهم لا يريدون التدخل بين العرب واليهود، يفضلون الحياد.عمليًا، كانت بريطانيا، منذ وعد وزير خارجيتها لورد بلفور سنة ١٩١٧ مع اقتراب الحرب العالمية الأولى من نهايتها، تدعم بكل قوة ودهاء إقامة دولة إسرائيل وتستبعد إقامة وبناء دولة فلسطين.. منذ العشرينيات، كانت بريطانيا تدعم الهجرات اليهودية الكثيفة إلى فلسطين بذرائع إنسانية، ثم راحت تتحدث منذ سنة ١٩٣٦، قبل الهولوكوست عن تقسيم فلسطين.الآن، وصلنا إلى اللحظة الفاصلة تاريخيا؛ وهى تكرار ما حدث في الأندلس بإزاحة الفلسطينيين جميعًا من وطنهم وبلادهم.. بدأ السيناريو بمذابح وإبادة أكبر عدد منهم لترويع الآخرين.. والحق أن ما يقع اليوم ليس جديدًا. يتحدث بعض المعلقين باندهاش بالغ عن قتل الأطفال والنساء والمذابح في «غزة»، وماذا عن مذبحة دير ياسين وكفر قاسم سنة ١٩٤٨؟.. ماذا عن مقتل الطفل «محمد الدرة» قبل أكثر من عشرين عاما؟.. هل نسينا مقتل زميلتنا «شيرين أبوعاقلة» العام الماضى؟، ونحن في مصر، ألم نعش مذبحة مدرسة بحر البقر الابتدائية أثناء حرب الاستنزاف ونحن أطفال؟.. وقتها ألغت وزارة التربية «الفسحة الطويلة»، خوفا علينا من احتمال وقوع غارات إسرائيلية على المدارس أثناءها. لا أظن أن أبناء جيلى نسوا تلك الأيام.ليتنا ننفض عن ذاكرتنا غبار النسيان وأحاديث السلام المجانى ورومانسية التطبيع.المذابح والمجازر البشرية لم تنجح في دفع الفلسطينيين إلى المغادرة، وبتنا الآن أمام المرحلة الفاصلة وهى الطرد الجماعى أو التهجير القسرى.. الفكرة قديمة، بدأ الحديث عنها بعد حرب ٦٧، لكنها مطروحة للتنفيذ الآن، والهدف أن تستقبل تركيا عدة آلاف، وكذا بعض الدول الإسلامية والأوروبية، وأن تستوعب مصر أكبر عدد منهم، ليس هذا فقط، بل حددوا الشريط الحدودى في سيناء لبناء مخيمات لاجئين لأهل غزة.. مصريًّا، لا نقبل بوجود مخيمات ولا يليق بمصر العظيمة أن تقيم «جيتو» للأشقاء.. الثقافة المصرية الإنسانية لم تسمح يومًا بجيتو على أرضها، نعيش التواصل والانفتاح الإنسانى.. دعك الآن من محاولة العبث بالوطنية المصرية.عمومًا، الدولة المصرية رفضت ذلك قطعيا.. الرئيس عبدالفتاح السيسى أعلنها واضحة، قاطعة: رفض التهجير القسرى ورفض تصفية القضية الفلسطينية. الفلسطينيون أكدوا عبر كل المستويات أنهم لن يغادروا وطنهم، باقون حتى الموت، استوعبوا تجربة حرب ٤٨، الذين غادروا وقتها قيل لهم ثلاثة أيام على الأكثر، حتى تهدأ الأمور وتعودون.. لكن لم يسمح لهم بالعودة إلى يومنا هذا، وتقول إسرائيل إنها لن تسمح لهم ولن تقبل بهم، رغم وجود قرار من الأمم المتحدة بحقهم في العودة.يبدو أن احتفاء المصريين بالأشقاء من السودان والعراق وليبيا وسوريا أغرى بعض قصار النظر والفهم بأنه يمكن إزاحة ٢ مليون فلسطينى. يقولون إن لدى مصر أكثر من تسعة ملايين من الأشقاء.. وهذا صحيح.. لكن هؤلاء جميعًا ضيوف، وإقامتهم في مصر ليست بهدف القضاء على بلادهم وأوطانهم ولا بغرض تذويب وانقراض شعب بأكمله.ما يحدث في غزة وكل فلسطين منذ يوم السبت السابع من أكتوبر يثير بعض المغرمين بفكرة المؤامرة في كل اتجاه. صحيح أن هناك الكثير من المعلومات ليست واضحة، والعديد من التساؤلات بل الشكوك.. كل هذا مشروع.. المعلومات سوف تتكشف، والخفى سوف يظهر ويعلن، لكن القضية الكبرى الآن هي ألا نقبل بوجود أندلس أخرى.. فلسطين ليست الأندلس.. القدس ليست قرطبة.. ولا يصح أن نسمح بذلك وإلا فلا معنى للقانون الدولى ولا حقوق الإنسان ولا معنى للوطن وعصر الحريات والديمقراطية.هنا علينا أن نعمل بكل قوة لدعم صمود وبقاء الشعب الفلسطينى داخل فلسطين بتقديم كل ما هو ممكن.. وأثق بأن القمة العربية المقبلة في الرياض سوف تتخذ خطوات وقرارات في هذا الصدد.علينا كذلك أن نضغط بكل الوسائل المشروعة لإقامة دولة فلسطين، مستقلة وذات سيادة.. الضمان الأقوى لبقاء إسرائيل وأمنها هو وجود دولة فلسطين كاملة السيادة والاستقلال.

حلمي النمنم: محمد فايق.. ألغاز السياسة والتاريخ؟

فى مايو سنة ٢٠٢١، كتبت هنا- المصري اليوم- سلسلة مقالات عن أحداث مايو سنة 1971، التي أطلق عليها الرئيس الراحل أنور السادات «ثورة التصحيح». كان مرور نصف القرن على وقوعها مغريًا لإعادة قراءة وتأمل الوقائع، خاصةً أن الحديث عن تفاصيلها كان كثيرًا فى عدد من الكتابات الأجنبية والمعلومات حولها غزيرة، بينما هي شحيحة عندنا، وكل ما بقي عنها مجموعة «إفيهات ونكات» بين قدامى الصحفيين، حتى الكُتاب، الذين كانوا «ساداتيين» تجاهلوها، بل تجاهلوا السادات نفسه مع مرور الأيام. ليس لدينا عنها سوى كتاب موسى صبري «وثائق ١٥ مايو» وفصل مركز فى كتاب هيكل «الطريق إلى رمضان»، وهما- موسى وهيكل- يتبنيان وجهة نظر السادات، مع فارق التناول وموقع كل منهما. كان هيكل يبرئ نفسه من أن يُحسب على هذه المجموعة، وكان موسى مندفعًا بشدة إلى تبنى كل ما يراه السادات، وهناك كتاب مضاد أصدره الأستاذ عبد الله إمام يتبنى وجهة النظر الأخرى، وفى زحام الحياة وتدافع الأحداث والوقائع الجديدة، توقفت طباعة هذه الكتب، عدا كتاب هيكل، الذي صدرت منه طبعة مزورة سنة ٢٠١١

أخيراً.. وزير الإعلام الأسبق محمد فائق ينشر مذكراته تحت عنوان: "مسيرة تحرر".

الوزير محمد فائق

واقتضى الأمر أن أستفسر وأسأل عن بعض التفاصيل من أولئك الذين عايشوا تلك الأيام، فضلًا عن أن يكونوا طرفًا فيها. كان أبرز هؤلاء الأستاذ محمد فائق، الذي لم يبخل عن أى استفسار، وفى كل ما سمعته منه كان يقول: «هذا ما رأيته بنفسى.. هذا ما لدىَّ من معلومات.. أو هذا ما أعرفه»، ثم يضيف: «ربما تكون هناك جوانب أخرى، لا علم لى بها»، وذات مرة سألته: ألم يَحِن الحين لكتابة مذكراتك؟، فضحك بطريقته الودودة والهادئة: أقوم بكتابتها الآن. الأسبوع الماضي، وجدت السيرة (أي سيرة الأستاذ محمد فائق) مطروحة فى مكتبة تنمية بجوار مقر وكالة أنباء الشرق الأوسط، بعنوان «مسيرة تحرر»، وتقع فى ٣٥٢ صفحة، وصدرت المسيرة عن مركز دراسات الوحدة العربية. «مسيرة تحرر» يمكن قراءتها من عدة زوايا. مثلًا، ما يرد فيها من وقائع ومواقف سياسية وتاريخية، وهي فى ذلك غنية جدًّا، وتقدم الجديد، هذا رجل عرف وتعامل مع كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك، واقترب منهم جدًّا جدًّا. كان عبد الناصر مَن نصحه أن يتواصل مع السادات ويضعه فى الصورة، كان ذلك مساء ٩ يونيو 1967، كان «فايق» وزيرًا للإرشاد، وكان السادات رئيسًا لمجلس الأمة، هو أيضًا تزامل فى الكلية الحربية- السنة الأولى- مع حسنى مبارك، ثم عملا معًا فى قاعدة حلوان الجوية، قبل يوليو 1952، أما عبد الناصر فقد كان أستاذه سنة 1951 فى مدرسة الإدارة الحربية.

الوزير محمد فائق: السيدة جيهان السادات كانت ضد محاكمات ثورة التصحيح مايو 1971.

السيدة جيهان السادات

الرئيس السادات وزوجته السيدة جيهان (قصة حب لم يكتبها القُصَّاص بعد)

يفاجئنا محمد فائق بأن السيدة جيهان السادات كانت ضد رغبة زوجها فى محاكمة وسجن «مجموعة ١٥ مايو»، وقالت له بالحرف الواحد فى جلسة بالمنزل، طبقًا لما نقله أشرف مروان، حيث كان حاضرًا: «لا يصح يا أنور تفعل ذلك مع هؤلاء، فهم كبراء البلد»، لكنه أهمل نصحها، وتثبت الأيام أنها كانت أبعد نظرًا، ذلك أن محاكمات ١٥ مايو أدت إلى اهتزاز هيبة جهاز الدولة ورجالها، وكان السادات أول مَن تحمل فاتورة ذلك طوال فترة حكمه. أنهت تلك المحاكمات وما صاحبها من تجريس كبار رجال الدولة وفضحهم عهد المسؤول «رجل الدولة» إلى عهد «الموظف الكبير»، وخلقت تصورًا لدى صغار القوم بأن المسؤول لا يصح أن يغادر موقعه دون تشهير وتجريس. عادة مملوكية وعثمانلية بذيئة، لا يليق أن تكون فى دولة حديثة. الطبيعي أن يغادر _بمنطق التداول_ أي مسؤول موقعه يومًا، وبمنطق أنه: "من حق الرئيس أن يختار بنفسه معاونيه الذين يراهم أقدر على تحقيق سياساته". ولما أجرت النيابة العامة التحقيق معهم انتهت إلى أنه «لا يوجد اتفاق جنائي، ولا توجد شبهة السعي أو محاولة (قلب النظام)»، واتجه النائب العام إلى حفظ التحقيق، والإفراج عنهم، لكن ظهرت بدائل أخرى. محكمة استثنائية. كان أحد أعضائها السيد "حسن التهامي"، وكان الرئيس مُصِرًّا على صدور حكم الإعدام فى حق أربعة، وطمأن أعضاء المحكمة إلى أنه سيخفف الحكم بنفسه.

الفريق محمد فوزي "المُفترى عليه".

الفريق أول محمد فوزي

كان أحد الأربعة الفريق محمد فوزي. وبعيدًا عن دور الفريق فوزي فى إعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة يونيو ٦٧، وأنه قائد حرب الاستنزاف العظيمة، والتى انتهت بإقامة حائط الصواريخ، فإنه كان شديد الإخلاص للسادات وأشد مَن سانده. ليلة وفاة عبد الناصر، شاع فى الدائرة الضيقة أن المخابرات الحربية رصدت أن عددًا من قادة القوات المسلحة لا يفضلون أن يكون السادات رئيسًا، ويحبذون اختيار زكريا محيي الدين، وهذا ما جعل هيكل يركز على صورة زكريا فى جنازة عبد الناصر، وذكر سامى شرف، فى حوار مع زميلنا الأستاذ إبراهيم عبدالعزيز، أن اتصالًا وصله من رئيس أركان حرب سلاح المدرعات، العقيد محمد عبدالحليم أبو غزالة، (المشير فيما بعد)، يرفض تولى السادات الرئاسة، وأنه حفظ سر «أبو غزالة».

السادات و"مراجعة للنفس" بشأن "الفريق فوزي".

https://www.youtube.com/watch?v=-QNCWFjJtQ8

رجال الدولة احترموا الدستور الذي ينص على أن يصبح النائب رئيسًا إلى حين إجراء استفتاء، هنا تدخل الفريق فوزي ليُذيب الجليد بين القادة والرئيس الجديد، فدعاه إلى زيارة عدد من المواقع ليقدمه إلى القادة، ونجح فى ذلك. كان السادات يقول للقادة فى زياراته: إن شاء الله ارجّع لكم سيناء دون حرب. وكان ذلك يثير التساؤلات لديهم، لكن القائد العام يهدئهم، ويصر على تواصل التدريب والاستعداد لحرب تحرير الأرض، ثم ها هو يتهمه، ويطالب بإعدامه!للتاريخ صحح السادات هذا الموقف بعد حرب أكتوبر، وأشاد بالفريق فوزي، أكثر من مرة، فى خطاب عام.

https://www.youtube.com/watch?v=AkEwo5LZkTk

هنا اعترض القضاء العسكري، ليس فقط دفاعًا عن الفريق فوزي، بل عن أبجديات المنطق والقانون، إذ لا يستقيم أن يحاكم قائد عام بتهمة التخطيط للسيطرة على الحكم بالقوة، ويكون هو المتهم الوحيد. تنفيذ مثل هذه العملية يقتضي وجود شركاء وأدوات للتنفيذ معه من القادة والضباط، مجموعات بأكملها، وحيث إنه لا شركاء له، فلا تصدق التهمة.

فى المسيرة أيضًا أن وزير الداخلية، شعراوي جمعة، و"سامي شرف"، مدير مكتب الرئيس، كانا الأشد إخلاصًا للسادات، حتى إقالة الأول ثم استقالة الثاني، وأن شعراوي حين أُبلغ بقرار إقالته اتصل بالوزير الجديد ممدوح سالم وهنأه. وقد اتصل فوزي عبد الحافظ برئيس تحرير وكالة أنباء الشرق الأوسط، محمد عبد الجواد، وطلب بث خبر إقالة وزير الداخلية.

السجينان (صلاح نصر ومحمد فائق)، "سجن واحد" و"موقف مختلف".

رئيس التحرير أحاط وزير الإعلام علمًا بالخبر قبل البث، هنا شعر (وزير الإعلام) أن هناك تجاوزًا لاختصاصه كوزير، فتقدم باستقالته. عثر المحققون على مسودة الاستقالة فى البيت أثناء التفتيش، كانت تلك دليل براءته من تهمة التدبير والتآمر مع آخرين، رغم ذلك قضى عشر سنوات كاملة فى السجن. فى منتصف المدة وصلته رسالة من الرئيس بالعفو مع نصف المدة، شكر الرئيس على ذلك، لكن العفو كان مشروطًا بأن يكتب رسالة اعتذار للرئيس عما فعل، وعن أنه استجاب لآخرين ورّطوه معهم. رفض العرض تمامًا، قيل له: لقد كتب صلاح نصر اعتذاره للرئيس، وها هو ينعم بالحرية ورغد العيش، كان رده: "أن صلاح نصر قال كلامًا عنيفًا وشتائم فى حق الرئيس وأسرته"، لكنه هو لم يفعل ذلك، لذا فلا اعتذار، وغضب الرئيس جدًّا. لحظة التماسك النفسي تجعل السجين أكثر قوة وتماسكًا.

مبارك "الرئيس" وصديقه القديم "محمد فائق".

بعد الخروج من السجن، استعان به زميله، صديقه القديم، الذي صار رئيس الجمهورية، (الرئيس مبارك)، فى عدد من المهام الدبلوماسية لتلطيف الأجواء مع العالم العربي، كانت البداية فى سوريا والرئيس حافظ الأسد. كان الرئيس مبارك يريد إعادة العلاقات، وكان الأسد راغبًا فى ذلك، لكن شريطة أن تتخلى مصر عن كامب ديفيد. الأسد قال إنه مستعد إذا فعل مبارك ذلك أن يسلمه شخصيًّا قيادة الجيش السوري أو يختار مبارك قائدًا من عنده للجيش السوري، وهناك عرف أن اتصالات السادات لم تنقطع يومًا مع حافظ الأسد، وأنهم طرحوا عليه نفس الطلب، وأن الاتحاد السوفيتي على استعداد لتقديم أحدث الأسلحة لمصر، حتى دون طلب، وأنه أى حافظ الأسد قادر على أن يوفر للسادات من الدول العربية الغنية مليارات الدولارات للمساعدة فى حل أزماته الاقتصادية، وكان رد السادات، كما سمعه «فائق» من حافظ الأسد: «أمهلونى حتى يوم ٢٥ إبريل ١٩٨٢، بعدها سوف (أقلب الطاولة عليهم كلهم)».

صحيفة بريطانية شهيرة في 1980: «يكفى السادات عشر سنوات من الحكم»؟!.

https://www.youtube.com/watch?v=kqbAJhgDvRQ

فهل تم تسريب هذا الرد فى حينه إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، ليس تآمرًا بالضرورة، ولكن بالحكي والثرثرة فى دوائر البعث السوري، لذا وجدنا تقريرًا أمريكيًّا، رفيع المستوى، يحذر وقتها من أن السادات متقلب، ولا أمان له، وأنه يقول لوسائل الإعلام شيئًا، ثم يفعل العكس، وأنه يمكن أن يتراجع عن معاهدة السلام، ويقوم بإلغائها فور تحرير سيناء كاملة، وهل كان ذلك سبب افتعال مشكلة طابا فيما بعد؟!، هل كان ذلك سببًا فى أن الصحافة البريطانية والأمريكية «قلبت الطاولة» على السادات منذ نهايات سنة ١٩٨٠، إلى حد أن صحيفة بريطانية شهيرة قالت وقتها: «يكفى السادات عشر سنوات من الحكم»؟!.

السادات وكسينجر

السادات يخطب في الكينست الإسرائيلي

السادات وبيجين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق

السادات وجولدمائير

السادات وموشيه ديان

نكمل الأسبوع القادم.

المصدر صحيفة المصري اليوم الأحد 03-09-2023

تحرير واخراج: مركز الفارابي

حلمي النمنم: أنت مصري

كان تقسيم المصريين والتمييز شبه العنصري بينهم، بعد 11 فبراير ٢٠١١، كسرًا كاملًا لأهم شعار ارتفع فى الميادين والشوارع، وهو: «ارفع راسك فوق.. إنت مصري»، شعار غير إنشائي ولا تم اصطناعه وتركيبه أو نحته وفق الأحداث، بل خرج من الوجدان الجمعي، تُنطق كلمة «فوق» بمد الواو، وشموخ وعلو فى النطق، يردده المواطنون جماعيًّا، أي ليس أداء فرديًّا، كان ذلك يعنى اعتزازًا من حشود المواطنين بمصريتهم، ربما كان حنينًا واشتياقًا إليها أيضًا، كان النداء رسالة إلى الجميع فى الداخل والخارج بأنن مصريتنا هي الأساس والجامع الأول والأعظم لنا جميعًا، وأى انتماء واعتزاز آخر يجئ تاليًا لها، نابعًا منها ومرتبطًا بها، لا يهز منها ولا يُضعفها.

صورة من ثورة 25 يناير

لعقود طويلة كانت هناك محاولات لتغييب الروح المصرية لصالح العروبة مرةً ولصالح شعارات وخطط الإسلام السياسي مرة أخرى، ثم مع دعاة العولمة مرةً ثالثة. كان العروبييون يتصورون دمج المصرية فى العروبة وتصير جزءًا منها أو مكونًا من مكوناتها، دون أى خصوصية أو تميز، كان بعضهم بقصر نظر شديد وضيق أفق يتعامل مع الروح المصرية بتأفف صامت وينظرون إليها شزرًا.

أما دعاة الإسلام السياسي فكانوا- مازالوا- يمقتون الروح المصرية ويعادونها. عمومًا، هم يعادون المشاعر والأفكار الوطنية، ويكرهون كل نماذجها ورموزها، خاصةً فى بلادنا، راجع موقفهم من سعد زغلول وقادة ثورة ١٩، ثم موقفهم من جمال عبدالناصر وزملائه، وقبل هؤلاء جميعًا رأيهم فى محمد على، الوطنية المصرية عدوهم اللدود وهدفهم الأول، ومع القرن الجديد جاءت العولمة بكل توحشها، العولمة تتردد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنها بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي صارت موضة عالمية، ونما اتجاه لإكراه الجميع على تبنى أفكارها وممارساتها، يرفض أفراد هذا التيار المدرسة والأفكار الوطنية، يعدونها رجعية، متخلفة، ترمز إلى الشمولية والاستبداد، وتزَيّد بعضهم فى إعلان حرب على كل ما هو وطنى، يتغنون فقط بالأمة الأمريكية ويتقاتلون لنَيْل جنسيتها، ازداد ذلك بعد ضرب العراق واحتلاله سنة ٢٠٠٣.

بعيدًا عن الجانب الأيديولوجي والفكري، وربما بسبب تلك الأفكار مجتمعة، فإن سنوات ما قبل ٢٠١١ شهدت عمليات سخرية سمجة وبذيئة من كل ما يكشف عن اعتزاز بالروح المصرية، عدد من السخافات الدرامية تسخر من شعار مصطفى كامل «لو لم أكن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا»، وتتهكم على مصطفى كامل نفسه. سخافات أخرى للتهكم على قصيدة حافظ إبراهيم التي تغنت بها كوكب الشرق أم كلثوم: «وقف الخلق»، وكلمات أغنية الفنانة شادية «يا حبيبتي يا مصر»، كان هناك تَبَارٍ فى السخرية والتنديد بالمشاعر الوطنية، وكان ذلك يُبَثّ أحيانًا، حتى على التلفزيون الرسمي!!.

«ارفع راسك فوق .. إنت مصري» نداء وصرخة، تتصل بشعار الحركة الوطنية زمن مصطفى كامل ثم مع ثورة سنة ١٩١٩، الشعار يتحدث عن المصري بالمطلق، دون تمييز أو تصنيف، مصرى وكفى، بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والاختيار السياسي، لكن هذه الصرخة تم انتهاكها بفظاظة شديدة، أولًا من أولئك الذين قسموا المواطنين إلى «أنصاف آلهة» وهم الثوار، لا يخطئون ولا يراجعهم أحد، ناهيك عن أن يتم الاختلاف معهم، ولن أقول مساءلتهم، ثم «المذلون المهانون»، بتعبير ديستويفسكى، وهم الفلول، لا كرامة لهم ولا حق لهم فى أى شىء، وأخيرًا مَن هم أصحاب المنزلة بين منزلتين، «حزب الكنبة»، وهؤلاء موضع تهكم وسخرية وازدراء، بتعبير أحد أنصاف الآلهة، كانوا على مدى ثلاثين عامًا «عبيد مبارك».

على أرض الواقع، وجدنا المشهد البديع للمصريين الأقباط وهم يحرسون المواطنين المسلمين وقت صلاة الجمعة فى ميدان التحرير، كان المشهد وغيره موضع إعجاب وتقدير العالم كله، مع هذه المشاهد تجاوزنا حالة الاحتدام الطائفي التي التهبت فى بداية يناير ٢٠١١، مع تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، لكن بعد رحيل مبارك، راحت توجه سهام الاحتراب مجددًا فى الشأن الطائفي، عرفنا فى مارس ٢٠١١ أحداث قرية صول بمركز أطفيح بالجيزة، والتي أدت إلى الاعتداء على كنيسة، كما وقع حادث كنيسة إمبابة، حيث انفجرت قنبلة أثناء حفل زفاف داخل الكنيسة، وراحت ضحيتها طفلة صغيرة، عمرها 11 عامًا، وتكرر الاحتدام فى إمبابة بصورة باتت تهدد المجتمع كله، وكأننا أمام بروفة نارية لحرب أهلية طائفية.

خارج القاهرة الكبرى، وقعت عدة أحداث مشابهة، فى أسوان وفى عدة مناطق أخرى، حتى وصلنا إلى أحداث ماسبيرو، التي عُرفت إعلاميًّا باسم «مذبحة ماسبيرو». للوهلة الأولى، كان يبدو أن المقصود من هذه العمليات، فى البداية، إحراج حكومة د. عصام شرف، والدفع نحو استقالتها أو إقالتها، وإحراج المجلس العسكري، غير أن تأمل الوقائع يكشف أن الموضوع كان أكبر من ذلك بكثير، كانت هناك رغبة فى تفجير الإجماع الوطني الذى تكون حتى لحظة 11 فبراير، الحوادث الطائفية راحت تقع بوتيرة متسارعة وترتفع حدتها بما يتجاوز بعض ما كان يقع زمن مبارك، وكان الاحتدام الطائفي يتم على أرضية وشعارات دينية وطائفية صريحة وليس كما كان من قبل على خلفية مخاوف ومطالب سياسية، أطلت بعض مجموعات الإسلام السياسي بأهدافها ومشروعها الطائفي دون مواربة.

الأهم أن هذه الأحداث كلها كانت تشير إلى أن هناك ميليشيات مسلحة تتحرك فى أنحاء البلاد، وأن ما جرى يوم ٢٨ يناير ٢٠١١ كان بداية صاخبة فقط، ومع ما جرى فى ليبيا الشقيقة وقتها راحت الأسلحة تتدفق علينا، خفيفة وثقيلة، وتُخزن كلها، ثم تذهب لتنفيذ عمليات الإحراق والتدمير. أسلحة من الخارج مع مرتزقة كذلك تم استجلابهم بشعارات أممية. وكانت هناك ميليشيا من نوع آخر، لا يحمل أفرادها قنابل ولا مدافع، وهؤلاء هم الذين اندفعوا يوم ٨ مارس ٢٠١١، يوم عيد المرأة العالمي، فى عملية تحرش جماعي بالفتيات والسيدات فى ميدان التحرير ومنطقة وسط البلد كلها، بدا أننا بإزاء رسالة موجهة قصدًا إلى العالم كله فى هذا اليوم، أننا هكذا نتعامل مع المرأة ونراها، ثم توسعت موجة التحرش وراحت تتحول إلى سلوك اعتيادي يوميًّا وليس فى بعض المناسبات أو المشاهد المزدحمة فقط، الإعلام الجديد كان يتابع ذلك وينقله إلى العالم.

كانت المرأة المصرية قد قدمت موقفًا بديعًا فى أحداث يناير، نزلت بكثافة إلى الشوارع والميادين، بينهن مَن ظللن بالميدان أيامًا وليالي متصلة، فى أمان ومساواة تامة فى الموقف والمسؤولية مع زملائهن، لاحظ كثيرون أن مشاهد التحرش المقززة تراجعت كثيرًا، بما يكشف حالة نضج اجتماعي وأخلاقي، بدا أن التاريخ يقودنا إلى مرحلة جديدة فى حياتنا، صارت المرأة رقمًا حاسمًا فى اللحظة الثورية، هكذا كانت فى مار س سنة ١٩ مع اشتعال أحداث الثورة زمن سعد زغلول. بعد ثورة ١٩ تنكر الزعماء للمرأة، ورفضوا منحها حق التصويت فى الانتخابات، ورفض سعد زغلول الاستماع وقتها إلى مطلب الصحفية «منيرة ثابت» بالحصول على هذا الحق، كان مطلب منيرة ثابت قائمًا على أن الدستور قرر حق التصويت لجميع المصريين، لكن شراح الدستور ذهبوا إلى أن كلمة «المصريين» تنطبق على الرجال فقط، وانتهى رأى الزعماء إلى أنه يكفى المرأة الدور الاجتماعى والخدمي، وهكذا تأسس الاتحاد النسائي المصري، حق التصويت والترشح للمرأة تحسن بعد ثورة يوليو ٥٢.

بعد ثورة يناير جرت عملية انتهاك إنساني للمرأة، بدا وكأن هناك شريرًا يحرك جحافل المتحرشين فى الشوارع والميادين، وكان ذلك تراجعًا وارتدادًا حادًّا، على عكس المتوقع، وكأن المطلوب عمليًّا أن تختفى المرأة من المشهد تمامًا، سوف تظل عمليات وعصابات التحرش فى ازدياد مع المزيد من الانحطاط الإنساني والأخلاقي، حتى بات الأمر يشكل سُبّة وطنية لنا، وصرنا موضع تنديد دولي؛ أخذت الظاهرة فى التراجع بعد سنة ٢٠١٤ مع تدخل تشريعي وتوفر إرادة سياسية قوية على رد اعتبار المرأة. كان هناك مَن يصر على كسر السبيكة الإنسانية والوطنية المصرية، التي صنعت رغم كل شيء لحظة حاسمة فى تاريخنا، نعم هي عصية على الكسر، لكن كان هناك مَن حاول وسعى إلى ذلك الكسر والهدم الإنساني والمجتمعي.

الحديث ممتد.

تحرير وإخراج: مركز الفارابي

المصدر: المصري اليوم

الأحد 02-07-2023 00:54