د. محمد السعيد إدريس: لبنان أمام مفترق طرق صعب
د. محمد السعيد إدريس

بعد يومين فقط من إطلاق رئيس الجمهورية اللبنانى الجنرال جوزيف عون مبادرته ذات النقاط الخمس لتسوية الأزمة مع إسرائيل، التي أعلنها ضمن خطابه المهم الذي ألقاه في مدينة صور بجنوب لبنان، بمناسبة عيد الاستقلال الثاني والثمانين، اغتالت إسرائيل الرجل الثاني في حزب الله (رئيس أركان الحزب) هيثم علي الطبطبائى (أبو علي) ومعه أربعة أشخاص، وأصابت 28 آخرين في هجوم شنته طائرات إسرائيلية على إحدى البنايات الواقعة في الضاحية الجنوبية لبيروت. هذا الاغتيال لم يأت صدفة، لكنه جاء ضمن تصعيد إسرائيلي وتكثيف الهجمات على لبنان على مدى الأسابيع الأخيرة التي سبقت هذا العدوان، حيث كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قد أعلن أن: «الوضع الأمني شهد تحولاً كبيراً في الأسابيع الأخيرة»، معتبراً أن «التهديد الذي يشكله حزب الله بات أكثر تعقيداً وخطورة». وأشار إلى أن «إسرائيل لم تعد تكتفي بالهجمات المحدودة والنسبية على مواقع حزب الله، بل إنها تتجه نحو تصعيد أكبر عبر موجات من الهجمات التي تستهدف أهدافاً متعددة»، لافتاً إلى أن «الهدف من هذه الهجمات هو التأثير على حزب الله وتهديد قدراته العسكرية».
الأوضح من هذه النوايا العدوانية كشفت عنه بصراحة شديدة «القناة 14» العبرية القريبة من نتنياهو، عندما قالت إن «إسرائيل قد تنتقل من الهجمات المحدودة إلى عمليات عسكرية أوسع قد تصل إلى تصعيد شامل» (أي شن حرب شاملة على لبنان). وتوقعت أن يكون الهدف النهائي لهذه الهجمات هو «نزع سلاح حزب الله عنوة» في خطوة تهدف إلى تقليص تهديده المستمر لإسرائيل (حسب القناة).
إعلان هذه المواقف تجاه لبنان تعبير عن «الإدراك الاستراتيجي الجديد للخطر» في مفهوم «الأمن القومي الإسرائيلي» وفق تطوراته عقب طوفان الأقصى، وما أحدثه من شروخ مازالت غائرة في بنية هذا الأمن. هذا الإدراك الجديد للخطر يقول إن إسرائيل «لن تنتظر استفحال الأخطار داخل حدود الدول المجاورة لتتصدى لها، بل ستبادر إلى محاربة الأخطار الوليدة في مهدها، وأنها ستتصرف على أساس أنها وحدها القادرة على تقدير طبيعة الأخطار وحجمها».
وفق هذا الإدراك بدا مؤكداً أن إسرائيل تستعد لتصعيد ضغوطها العسكرية على لبنان، انطلاقاً من تقديرات عسكرية أكدت أن حزب الله يتقدم كثيراً في عملية إعادة بناء قدراته العسكرية، وأنها باتت معنية بوضع نهاية لذلك.
وحيـــن تحــــدث مـــسؤول أمريكي، قبل يومين من الهجوم الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية، عن معلومات عن عودة الحزب إلى تعزيز قدراته، بدا واضحاً أن التصعيد الإسرائيلي أضحى وشيكاً.
اندفعت إسرائيل نحو خيار الاغتيال لسببين مهمين آخرين، أكدا لها أن الدولة اللبنانية لها أولويات أخرى تتجاوز المطلب الإسرائيلي – الأمريكي بنزع سلاح حزب الله، وأن مطلب الانسحاب الإسرائيلي من المناطق الجنوبية اللبنانية المحتلة، وإعادة الأسرى اللبنانيين يسبق أو يتوازى مع مطلب إسرائيل بنزع سلاح حزب الله، ومن ثم بات على إسرائيل أن تتولى هي نزع سلاح الحزب، دون تعويل على الدولة اللبنانية.
السبب الأول، ما كشفت عنه البنود الخمسة الواردة في مبادرة رئيس الجمهورية، وما تكشف عنها من تراجع أولوية نزع سلاح حزب الله، لصالح أولوية ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلة من جنوب لبنان، والتفاوض مع إسرائيل بوساطة أمريكية أو أوروبية أو دولية مشتركة على اتفاق يرسخ وقفاً نهائياً للاعتداءات عبر الحدود، ومطالبة الدول الشقيقة والصديقة برعاية هذا المسار، عبر آلية دعم دولية للجيش اللبناني، ولمساعدة إعادة الإعمار «بما يعني تحقيق الهدف الوطني النهائي، بحصر كل السلاح خارج الدولة وعلى كل أراضيها».

السبب الثاني، إلغاء قائد الجيش اللبناني العماد رودلف هيكل زيارته التي كانت مقررة الأسبوع الماضي لواشنطن، بسبب القرار الأمريكي بإلغاء بعض مواعيد لقاءاته مع المسؤولين المعنيين في واشنطن، اعتراضاً على بطء تراه واشنطن متعمداً من جانب الجيش لنزع سلاح حزب الله، واعتراضاً على بيان صدر عن قائد الجيش، وجه فيه اللوم لإسرائيل، واعتبرها المشكلة وليس حزب الله، الأمر الذي اعتبره قادة بارزون في الكونغرس «انتكاسة كبيرة للجهود المبذولة لدفع لبنان إلى الأمام»، حسب ما ورد على لسان السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام المتطرف في انحيازه لإسرائيل.
اغتيال إسرائيل رئيس أركان حزب الله يؤكد أن لبنان أضحى في مفترق طرق صعب ومحاصراً بين خيارين كلاهما أسوأ من الآخر، أولهما: تحدي الضغوط الإسرائيلية – الأمريكية، وبالذات مطالب إسرائيل التي تتجاوز حدود نزع سلاح حزب الله إلى فرض الوصاية على لبنان، ضمن سلام ليس له من مرتكز غير الأمن الإسرائيلي، الذي أضحى مقترناً بالتوسع في دول الجوار، خاصة سوريا ولبنان، ومن ثم التعرض لحرب إسرائيلية شاملة تدمر ما بقي له من «قدرات حياة». وثانيهما: الرضوخ للضغوط الإسرائيلية - الأمريكية، ومن ثم التعرض لـ «حرب أهلية داخلية»، تكون نهايتها نهاية لبنان كدولة موحدة مستقلة ذات سيادة.
















































